جسر: صحافة:
امتلأتُ فخراً عندما انضممت للكلية الجوية السورية، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، وعلمت أن مديرنا ليس أقل من “بطل الجمهورية” اللواء الطيار مجيد الزغبي، واستعلمت من زملائي ومدربيّ إن كانوا يعرفون أسماء الطيارين الاثني عشر الآخرين الذين برزوا في حرب تشرين 1973، لكن أحداً لم يكن يعرف اسم أي منهم، ولم تكن هناك أي إشارة إليهم لا في مناهج التعليم، ولا في كتب التاريخ، ولا التربية الوطنية، ولا في وسائل الإعلام التي تخصص يوماً كاملاً كل سنة لاستعادة ذكرى الحرب.
أتيح لي لاحقاً أن أعرفهم، وأطّلع على جزء من مآثرهم، وأتعرف على المبادئ البسيطة التي قادتهم لتحقيق إنجازاتهم الاستثنائية، وهي حب الوطن والفخر به والدفاع عن شعبهم، بمعزل عن الأوهام التي أحالت إليها شعارات تلك المرحلة، والنزعات الكامنة في نفوس من يتخذها ستاراً لسلطويته، وأيضاً بعيداً من أوهام المجد الشخصي، إذ أن مرسوم منح وسام بطل الجمهورية لم يكن قد صدر في ذلك الحين.
جاء أبطال الجمهورية الثلاثة عشر في سلاح الطيران، من مختلف الانتماءات العِرقية والدينية والاجتماعية، ولم يكن يجمعهم شيء سوى الانتماء لسوريا. فالعقيد عدنان الحاج خضر، سنّي يتحدر من قبيلة البقارة في دير الزور، وهو من قاد بحوّامته الإنزال الشهير على مرصد جبل الشيخ في اللحظات الأولى للحرب، وبعد إصابته، عمد إلى بتر قدمه المحطمة بحربة بندقيته كي لا تمنعه من مواصلة مهمته. لكنه رُكن لاحقاً في مقر خاو، ولم يعرف عنه السوريون شيئاً حتى وفاته.
أما النقيب الطيار أديب الجرف، وهو اسماعيلي من سلميّة، فهو الحاذق الذي حصد في أيام الحرب القليلة سبع طائرات إسرائيلية متفوقة كلها على طائرته السوفياتية. لكن ما إن انتهت الحرب، حتى نُحّي جانباً، وأُعفِي من الخدمة في ريعان شبابه، وهو ما زال حياً يروي قصص اشتباكاته الجوية المعقدة والفريدة لأهالي بلدته، الذين يتداولونها كطرائف حكائية وحسب.
أما النقيب الطيار كمال أبو الخير، وهو سنّي من حمص، فقد برع في عمليات القصف الجوي، وحقق إصابات دقيقة على أهداف أرضية معقدة للغاية. تدرج في الرتب من دون فاعلية، ولم يُولّ القيادة قط. وينطبق الأمر ذاته على المقدم الطيار عبدالرحمن كامل، وهو سنّي من معرة النعمان.
أما النقيب الطيار مجيد الزغبي، وهو درزي من السويداء، فهو طيار قدّ من الصلب، فرض إرادته على طائرته ذاتها، وأجبرها على العمل رغم تلفها، فليس من المحتمل في علم الطيران، أن طياراً يستطيع الاستمرار في التحليق بعد إصابة وتحطم ذيل طائرته. لكن الزغبي فعلها، بل وعاود ملاحقة الطائرة الإسرائيلية التي هاجمته، وأسقطها، كما أسقط خمساً أخريات، لكن عندما حان أوان تسنمه منصباً بارزاً في القوى الجوية بحُكم أقدميته، تم اعتقاله، ولفقت له تهمة لا صلة له بها، ولم يفرج عنه إلا بعد توسط مشايخ طائفته له!
والنقيب نجدت الجلبي، ذو الأصول التركية، استقرت عائلته في مدينة دير الزور منذ القرن التاسع عشر، وهو من وضع إمضاءه على الواقعة الفريدة المتمثلة بإسقاطه طائرة “فانتوم” الأحدث في العالم حينها، برشاش الطائرة العتيقة ميغ 17. كان يقود سرباً جوياً حين نال الوسام، لكن هذا المنصب المتواضع نُزع منه بُعيد الحرب، وقضى هذا الطيار الفذ ما تبقى من سنوات عمره ضابطاً مغموراً في أحد المطارات.
(النقيب الطيار حسن الكردي)
أما النقيب الطيار حسن الكردي فهو علوي من طرابلس اللبنانية، انتسب إلى سلاح الجو السوري بحكم حيازته على الجنسية السورية، وقاد الهجوم الجوي الشهير على مصفاة حيفا، وأدى إصراره على إنجاز المهمة بحذافيرها، إلى مقتله، وعُرف إلى جانب شجاعته البالغة، بالبراعة المهنية العالية.
(الملازم الأول الطيار غسان عبود مع عدد من زملائه)
أما الملازم الأول الطيار غسان عبود، وهو سنّي من دير الزور، فقد كان الطيار الآخر لزوج الطائرات الذي يقوده مجيد الزغبي، وكان حضورهما معاً في سماء المعركة يعني نصراً مؤزراً. أسقط أربع طائرات، لكن الطيار الشاب قتل سنة 1974 في ظروف ما زال يلفها الغموض، عند تنفيذه طلعة تدريب.
(النقيب الطيار علاء عابدي)
أما الملازم أول علاء الدين عابدي، فهو شركسي من القنيطرة، أصبح نقيباً بعد الحرب، وهو أيضاً من رفّ مجيد الزغبي. أسقط طائرات عديدة، وأُتيحت له فرصة الوصول إلى منصب رئيس أركان القوى الجوية السورية، لكن لفترة محدودة وبصلاحيات لا تذكر. إذ قاد القوى الجوية حينها رجل الاستخبارات القوي محمد الخولي، وعندما حان أوان تنصيب عابدي قائداً للسلاح بحُكم الأقدمية، تم ترفيع نائبه، ليصبح قائده، منعاً له من تبوء هذا المنصب، وهي سابقة لم يعرف لها مثيل سوى في جيش النظام السوري.
الأمر ذاته ينطبق على الملازم أول الطيار محمد حميدي، وهو سنّي من حوران، والذي وصل إلى رتبة لواء، وعيّن مديراً لإدارة ثانوية في سلاح الجو، وتم إعفاؤه من الخدمة عندما حان وقت تسلمه قيادة السلاح، لإفساح الطريق أمام ضابط آخر لا تاريخ ولا منجَز.
أما الملازم الطيار رفيق درخباني، وهو سنّي من دمشق، وأصغر أبطال الجمهورية عُمراً، فقد نال الوسام بفضل تنفيذه العدد الأكبر من مهمات القصف في العمق العملياتي للعدو، لكنه قضى عشرات السنوات اللاحقة في السلاح، كطيار استطلاع وحسب، من دون أن يُسند إليه أي منصب قيادي، حتى إحالته إلى التقاعد.
وأما الملازم مجتبى بلال، فقد مُنح وسام بطل الجمهورية لهبوطه بطائرته رغم إصابته بشظية خلال معركة جوية، ولم يتسلم أي منصب، رغم انتمائه للطائفة العلوية التي تمتع الضباط منها بميزات لا تحصى، لكنهم حازوا ذلك بالطبع بفضل ولائهم المطلق لعائلة الأسد، لا بفضل خدماتهم التي قدموها لوطنهم.
وآخر متوشحي وسام بطل الجمهورية، هو الملازم الطيار جلال الدين خدام، وهو سنّي من بانياس، استشهد في المعارك الجوية بعد إسقاطه طائرة معادية.
هذا المثال ليس الوحيد في الجيش، فثمة لائحة أخرى في أسلحة المدرعات والمشاة والدفاع الجوي وغيرها، وثمّة عدد كبير من الشخصيات الفذة في مجالات التعليم والعلوم والاقتصاد والصناعة والإدارة والثقافة والفكر، وغيرها من الوظائف العمومية التي تقتضي بذل النفس والوقت والجهد طوعاً في سبيل الوطن، وكان لأفعالهم وخدماتهم معنى وأثر في البلاد وأجيالها المتعاقبة، لكنهم غُيّبوا بالجملة، ولم يتح لهم حتى أن يكونوا قدوة رمزية لمواطنيهم.
من ناحية أخرى لم يقتصر هذا السلوك على سوريا، وانما شمل كل دول المشرق العربي، وبلغ ذروته في العراق، حيث أعدم صدام حسين معظم أبطال حروبه الاستثنائيين، كالفريقين بارق الحاج حنطة وعصمت صابر عمر، والطيار محمد مظلوم الدليمي، وغيرهم.
وكنت أردّ ما جرى إلى هوس السلطويين وجُبنهم، باعتبارهم لا يطيقون رؤية “نجم” سواهم في بلدانهم، ويخشون أن يصبح هؤلاء بدلاء محتملين لهم في لحظة ما، إلا أن أحداث الثورة السورية، والعيش في أوروبا الغربية لسنوات، كشف لي أن القضية أعمق من ذلك، وأن جذورها ما زالت تنغرس في الاجتماع السياسي المشرقي، الذي يعلي من شأن كل ما هو “قومي”، ويضرب في لحظة الحقيقة عرض الحائط بكل ما هو وطني. وكأننا ما زلنا تلك القبائل الراحلة التي تتنقل حاملة كينونتها على ظهر بعير، غير عابئة بالمكان/الوطن، فهي “مضارب” يمكن الرحيل عنها في أي وقت. أما ما لا يمكن للمرء مغادرته أو تجاوزه لأي اعتبار، مهما علا في إنسانيته، فهو انتماؤه العرقي أو الديني، وكلاهما انتماء “أقوامي” في جوهره.
لم يفرّق الغرب ذاته بين هذين الشكلين من الوعي الجماعي، إلا عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، عندما كتب جورج أورويل بحثه المعنون “ملاحظات حول القومية”، والذي ميّز فيه بين القومي Nationalism والوطني Patriotism، مع تفضيل الأخير ونبذ الأول. فالقومية، وفق أورويل، “لا تنفصل عن الرغبة في السلطة”، حيث “الهدف الدائم لكل قومي هو تأمين المزيد من السلطة والمزيد من المكانة، ليس لنفسه ولكن للأمة التي اختار أن يغرق فيها فرديته”. ويقدم أورويل ثلاث خصائص لوصف من يتبعون المشاعر القومية وهي: الهوس وعدم الاستقرار وإنكار الواقع. فـ”القومية هي جوع للسلطة يخففها خداع الذات”. أما الوطنية فتعني، وفقه، حب المرء لبلده، و”الإخلاص لمكان معين وطريقة حياة معينة، يعتقد المرء أنها الأفضل في العالم، لكنه لا يرغب في فرضها على الآخرين”. وهي “دفاعية بطبيعتها عسكرياً وثقافياً”. فحبّ الوطن أو الفخر الوطني هو الشعور بالحب والتفاني والإحساس بالارتباط بالبلد والتحالف مع المواطنين الآخرين الذين يشاركون المرء المشاعر نفسها لخلق الشعور بالوحدة، عبر رعاية المكان الذي يعيشون فيه، وبناء الثقة في ما بينهم، وربط الجماعة الوطنية ببيئتها وزمانها وثقافتها المشتركة.
ورؤية أورويل هي اليوم أساس “الدولة” في النظام الديموقراطي الغربي المزدهر، مع أن ملامح الافتراق قومي/ وطني قد برزت منذ تفجر الثورتين الفرنسية والأميركية اللتين حاربتا من أجل سيادة الشعب ضد الأنظمة الملكية.
لقد كانت الثورة فرصة مثالية لإعادة الاعتبار للوطنية السورية، فهي رفعت شعارات تمجيد سوريا بوصفها “الجنّة”، ودعوتها امتدت إلى “كل السوريين”، واتخذ الكفاح العسكري ذاته شكل الدفاع عن المدن والبلدات التي ينتمي إليها مقاتلو الجيش السوري الحر. وهذه المبادئ هي عين ما قاتل من أجله “أبطال الجمهورية”، الذين لم ينخرط أي منهم في حملات القتل والتدمير، ولو إعلامياً، وبطبيعة الحال لم يُستشاروا في ما يخصها. فالنظام لجأ منذ البداية إلى مجاميع “الشبيحة”، والقوم الطائفي، واستدعى كل القوى التي تقف على النقيض التام من الوطنية ومفاهيم السيادة والاستقلال، من الإيرانيين والروس والمليشيات الطائفية متعددة الجنسيات. الأمر الذي كان له صداه في الجهة الأخرى، وبرزت النزعات الأقوامية الدينية والعرقية بين جمهور الثوار، على شكل تنظيمات تدميرية كداعش والنصرة والميلشيات الكردية، وصولاً إلى المليشيات المرتبطة بتركيا. ووجد الوطنيون السوريون المستقلون أنفسهم بين رحى هذه المطحنة التي لا ترحم، فغادر معظمهم ساحة الصراع.
وفي مهجرهم الأوروبي، يتسابق اليوم مئات الآلاف من السوريين للحصول على جنسية تلك البلاد، والاندماج في مجتمعاتها، غير عابئين بالاختلافات العرقية والدينية ولا بالفروق الثقافية التي يتشدق بها الأقواميون. فهم يريدون أوطاناً ترعاهم وتوفر لهم شروط الحياة الإنسانية الكريمة، في انقلاب غير مرئي حتى الآن على المنظومة المفاهيمية المنفصلة عن الواقع ذهنياً وعاطفياً، وهو ما ستدركه ولا بد مجتمعاتنا المشرقية ذات يوم. فالانتقال والإصلاح السياسي الذي تحتاجه تلك البلدان ومجتمعاتها بالفعل، هو النزوح من خنادق “الهوية” الثقافية والعرقية، إلى ميدان المصلحة الوطنية والإنسانية المشتركة.
المصدر: المدن