جسر: خاص:
تدرك إيران أن الأولوية بالنسبة إلى موسكو كانت، وستظل دائما؛ العلاقة مع الغرب الذي تربطها به شبكة من المصالح الجيواستراتيجية والاقتصادية، كما أنها تدرك طبيعة أدوار القوى المنافسة لها والمؤثرة في علاقتها التشاركية مع روسيا في سوريا وهي (أمريكا – تركيا – إسرائيل) والتي تؤثر في تقارب أو تباعد التحالف الروسي-الإيراني.
ويبدو، من التطورات الحاصلة في شمال غرب سوريا، أن روسيا باتت تدرك أن دعمها للأسد في المرحلة المقبلة سيصطدم بتوجهات المجتمع الدولي، وتحاول التعامل مع ذلك بما يحقق مصالحها؛ بينما تسعى طهران لاستغلال الفرصة من خلال جملة من التحركات توجتها بزيارة وزير الخارجية الإيراني لدمشق اﻻثنين الماضي، رغم ما تعانيه من تفشي فيروس كورونا، والتي أكد فيها ظريف لرأس النظام أن وجود بلاده في سوريا يوازي الثقل الروسي، وأن طهران تتمسك ببقائه على رأس النظام، إضافة إلى بحثهما مسار أستانا واللجنة الدستورية، والتطورات في إدلب وإنشاء الجيش التركي نقاط مراقبة جديدة فيها.
رسائل سياسية وعسكرية
الخبير في الشأن الروسي محمود حمزة اعتبر أن الوضع القائم في إدلب عَمل على إظهار التنافس بينهما بوضوح، خاصة عندما استهدفت المسيّرات التركية أعدادا كبيرة من الميليشيات الإيرانية دون أن يتدخل الروس، خلال عملية “درع الربيع” التي أطلقها الجيش التركي لوقف تقدم النظام ومنعه من السيطرة على مدينة إدلب، وكانت نية روسيا تلقين النظام وإيران درسا يعرفا بموجبه قيمة الدعم الروسي، وقبول روسيا ضرب الميليشيات الإيرانية إن اضطر الأمر.
وأضاف أنه طيلة فترة النزاع السوري كانت إسرائيل تستهدف المواقع الإيرانية دون أن تحرك روسيا ساكنا، وأن القمة الأمريكية الروسية الإسرائيلية، التي كانت إيران محورها، اتُّفق فيها على ضرب اﻷخيرة بطريقة ما، ستظهر مفاعيلها تباعا.
بدوره اعتبر الكاتب المتخصص في الشأن الروسي سامر الياس أن تراجع حجم العمليات العسكرية بشكل كبير خفف من اعتماد روسيا على الميليشيات الطائفية، لذلك أصبح الجانب الإيراني ضعيفا، وأنه من الممكن أن تكون الوحدات العسكرية التي تشكلها روسيا في شمال شرق سوريا قوات يُعتمد عليها بشكل أو بآخر، وأن تكون بديلا عن القوات الإيرانية في حال الحاجة إليها، على الرغم من أن الاستراتيجية الروسية الأساسية تقوم على دمج كافة الوحدات العسكرية والميليشيات الموجودة والفصائل المسلحة في إطار “جيش سوري”، بعد إصلاح النظام الأمني ومؤسسة الجيش؛ ما يعني أن وحدات “الجيش الوطني” المدعومة من تركيا، وكذلك “قسد”، يمكن أن تكون جزءا من جيش سوريا المستقبل، ويمكن أن توظف روسيا بعض التشكيلات التي أسستها في الجنوب، وتعمل على تأسيسها في الشرق، في العمليات في الفترة القريبة المقبلة، وبناء عليه يمكن لها أن تستغني عن الجانب الإيراني بشكل كبير، وفق تفاهمات ودور للجانب التركي.
واتفق الخبيران في الشأن الروسي على أن موسكو تسعى أيضا إلى تعزيز التفاهمات التي تخص المسألة السورية مع الجانب التركي؛ نظرا لحجم العلاقات بين الطرفين في عدة مجالات (اقتصاد، تسليح، سياحة..)، حيث يبلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا 35 مليار دولار، بينما لا يزيد حجم هذا التبادل بين روسيا وإيران عن2 مليار دولار، هذا يعكس حقيقة العلاقات الروسية الإيرانية على أنها علاقات مؤقتة وليست استراتيجية أبدا.
كما اتفقا على إدراك الروس لمعنى العقوبات الأمريكية الموجعة التي ستبدأ مع تطبيق قانون قيصر، والذي سيستمر عشر سنوات على أقل تقدير، وهذا ينعكس على النظام ومن يتحالف معه، أو يقدم له مساعدة، وبالتالي فإن الحملة الإعلامية الروسية الأخيرة التي شنت هجوما على النظام ورأسه وفساده المستشري، وتضمنت اتهامه بالتعاون مع “داعش”، تعتبر قضايا خطيرة وتمهد لمرحلة قادمة، ولذلك تحاول روسيا أن تتنازل قليلا أمام الغرب للبدء بعملية سياسية ما في سوريا، لأنها إن استمرت في تحدي كل هذه الوقائع والأطراف، فإن ذلك سيؤدي إلى خسارتها بشكل كبير.
كما أن تحميل النظام مسؤولية الهجمات الكيماوية في شمال سوريا في العام 2017 يضعف من موقفه، لذلك بدأت روسيا بتوجيه رسائل بعدم تمسكها بنظام الأسد من خلال الهجوم الصحفي عليه، وهي رسالة مفادها أنه يمكن التخلي عنه مقابل صفقة كاملة مع الأطراف الفاعلة، حيث تنقسم سوريا حاليا لمناطق نفوذ فيها جيوش لخمسة دول، وتريد موسكو الوصول إلى تفاهمات مع هذه الأطراف، نظرا لعدم تمكنها من تلميع صورة النظام، لذلك تسعى إلى الوصول إلى صفقات مع الدول الفاعلة تتخلى بموجبها عن الوجود الإيراني في سوريا باعتبارها تتعامل مع هذا الوجود كورقة، وهو ما يساعدها على اﻻستئثار بشكل كبير بالمصالح الاقتصادية من جهة، ورسم المستقبل السياسي لسوريا مع ضمان وجودها بشكل كبير، ولذلك اجتمع مؤخرا الوزراء الثلاث للدول الضامنة (روسيا، تركيا، إيران) بتحريك من اﻷخيرة لشعورها أن الشريكان يحاولان إقصاءها من المشهد السوري.
من جهة أخرى اعتبر سامر الياس أن الصراع بين روسيا وإيران ربما يتعزز بالتدخل الخليجي القوي في الفترة القريبة المقبلة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإمارات قد بدأت به لمواجهة كل من إيران وتركيا، إلا أن التركيز سيكون على إيران بشكل خاص، لوجود توافقات مع الجانب الأمريكي والإسرائيلي بضرورة إخراج إيران من هذه المنطقة، وكسر الهلال الشيعي الذي تحاول تكريسه، وبذلك يمكن أن يتصاعد الصراع بينهما إذا زاد تنسيق موسكو مع الأطراف الخليجية في الفترة المقبلة.
تركيا بيضة القبان
باتت تركيا بعد التدخل العسكري الأخير حجر الأساس في كل ما يخطط من سيناريوهات للمسألة السورية، لذلك يعتبر الخبير في الشأن الروسي محمود الحمزة أن موضوع “هيئة تحرير الشام” مسألة جوهرية، وإن وجدت تركيا حلا لها سينسحب البساط من تحت الإيرانيين وحججهم، وستجد روسيا بيدها أوراق أقوى لطرح الأمور السياسية بعدها، بينما اعتبر الكاتب سامر الياس أن الهدف الأساسي فيما يخص “هيئة تحرير الشام” هو المباشرة بدعم تركيا في هذا الموضوع؛ حيث تتفهم روسيا صعوبة فصل المعارضة المعتدلة عن التنظيمات الجهادية في إدلب، وتدرك أن عملية “هيئة تحرير الشام” هي عملية صعبة ومعقدة بسبب وجودها في منطقة جغرافية محدودة، لذلك قد تشهد الفترة المقبلة تنسيقا استخباراتيا أوسع بين الجانبين الروسي والتركي من أجل تحديد العناصر المتشددة، والاستمرار في عملية فرز عناصر “الهيئة”، وأشباهها من التنظيمات، بين (العناصر الأجنبية والأكثر تطرفا، والعناصر السوريين المنخرطين فيها)، ثم محاولة إيجاد حل لدمج العناصر السوريين المعتدلين في تنظيم عسكري محلي، علما أن الجيش الوطني لا يزال معترضا على دمج الكثير منهم في صفوفه.
كما تتفهم موسكو، وفق الكاتب نفسه، أن عملية فرز عناصر تلك التنظيمات تحتاج إلى وقت طويل وعمل دقيق وأدوات كبيرة (استخباراتية وعسكرية)، وقد يؤدي الخطأ فيها إلى تَمكن بعض العناصر من العبور إلى تركيا، وضرب أهداف في العمق التركي، وهو ما لا تريده أنقرة. وتدرك موسكو أيضا أن خروج بعض المقاتلين وإعادة تدويرهم، أو هروبهم من هذه المناطق، يمكن أن يؤدي إلى انتقالهم إلى آسيا الوسطى، وبالتالي إلى ساحات المدن الروسية، لذلك فإن الخيار الأساسي بالنسبة لروسيا هو التنسيق مع الجانب التركي بخصوص هذه التنظيمات وعناصرها.
ويضع انتهاء العمليات العسكرية روسيا في موقف ليست بحاجة فيه للميليشيات الإيرانية، وذلك يُقوي الدور الروسي التركي لترتيب الأوضاع في إدلب، وهذا من شأنه لجم النظام ومنعه من القيام بأي عمل عسكري، حتى لو أرادت إيران ذلك، إضافة إلى أن روسيا عندما وجدت في تركيا دولة قوية في الشرق الأوسط، وجارة لسوريا، وتتبع المذهب السني، باتت تسعى لجعل تركيا بديلا عن إيران إلى درجة كبيرة، وهذا الأمر بدأ العمل به من خلال التفاهمات العسكرية والأمنية، والتعاون الاقتصادي والمصالح الكبرى المتبادلة بين الطرفين، وفق الخبير في الشأن الروسي محمود الحمزة.
خلافات تتعمق
يتفق الخبيران على أن الخلافات بين طهران وموسكو عميقة جدا، وستتطور إلى أن تصل الذروة، ويرى الكاتب سامر الياس أن الخلافات بين الطرفين تتعلق ببنية الدولة السورية وبنية الجيش السوري، وأن ما يتم تداوله في موسكو هو رغبة الإدارة الروسية في بناء جيش قوي؛ بينما تنطلق الرؤية الإيرانية من تكوين ميليشيات طائفية أو غير حكومية مدعومة من قبل إيران حتى تكون مسيطرة وأقوى من الجيش والقوى الأمنية المسيطرة والموجودة، وهي استراتيجية اتبعتها في العراق ولبنان واليمن، لذلك من الواضح أن إيران تركز بشكل أساسي على خلق ميليشيات رديفة تكون أقوى من الجيش.
وأن الجانب الروسي بعد تفاهماته المنفردة مع تركيا؛ سواء في شمال غرب أو شمال شرق سوريا، أغضب كثيرا الإيرانيين الذين يمكن القول أنهم “خرجوا من المولد بلا حمص” وأصبحوا تقريبا بدون تأثير خاصة في مناطق شرق البلاد، وهي مناطق مهمة جدا من ناحية احتواءها على ثروات كبيرة (نفط، غاز، قطن، قمح)، وخسارتهم في تلك المنطقة تُضعف وجودهم وتُقوي الجانب الروسي.
وعلى الرغم من وجود صراع بين الطرفين في أماكن أخرى خارج سوريا كما هو الحال في بحر قزوين وآسيا الوسطى وأفغانستان، إلا أن المواجهة تبقى بينهما ضمن إطار الأراضي السورية، وفق ما ذكره محمود الحمزة.
ويضاف إلى كل صور الخلافات التي ذُكرت رفض الجانب الإيراني منذ البداية لوجود منطقة خفض التصعيد الرابعة، وهو ما يبرر محاولاتهم هذه الأيام في تعطيل الاتفاق الروسي التركي، والمضي باستخدام السلاح لتحقيق مآربهم.
ختاما يتسع الصراع بين الطرفين على مساحة الجغرافية السورية عموما، ويشمل جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية بسبب سعيهما للتعويض عن مساعدات قدماها للنظام في سبيل بقائه، كما يتنافس الطرفان في المجال الثقافي وسعي كل منهما لتعليم لغته في المؤسسات التعليمية في مناطق النظام.