جسر: ثقافة:
قبل مدة، وصلني نبأ، يفيد بأن الفنان المعاصر والمخرج أحمد غصين قد ذهب إلى سوريا بمعية حزب الله، وتحت أنظار نظام بشار الأسد. وهذا، لكي يصور الدمار، الذي أحدثاه هناك، قبل استخدام المشاهد في فيلمه “جدار الصوت” حول “حرب تموز” 2006. مرد ذهابه هو مرد إقتصادي، أي الاقتصاد في موازنة الفيلم، التي لا تسمح له في أن يشيد دماراً مماثلاً في جنوب لبنان.
من صدمتي، وجهت نصيحة غاضبة إلى المعني عبر بعض متناقلي النبأ، ومتداوليه، وهم عدد من أصدقائه وصديقاته، ألا يستكمل فعلته عبر استخدام المشاهد، ولكن، هذه النصيحة لم تصله. ربما، لأن هؤلاء لم يحملوها إليه، والسبب أنهم من “أعداء كاره”، بحيث أنهم لا يبغون من تناقل النبأ إياه، وتداوله، سوى اغتياب المعني ثلباً وتعييراً، وبالتالي، التخلص منه باعتباره مزاحماً قديماً ومقبلاً لهم. وربما، هم حملوها إليه، إلا أنه لم يأخذها سوى على محمل “عداوة الكار”، إذ إنهم، وفي اعتقاده، لم ينصحوه سوى لأنهم يريدون صرفه عن إتمام شريطه، وبالتالي، عن مزاحمتهم. في النتيجة، لم تصل النصيحة إليه، ولم يعمل بها.
على هذا الأساس، حاولت، لاحقا، توجيهها بالتلميح والتأشير، وقد اعتمدت الطريقتين إنطلاقاً من كون متناقلي النبأ، ومتداوليه، إياهم، كانوا قد شددوا أمامي على كونه سراً. لذا، ألمحت وأشرت في تعليق منشور في “المدن” إلى التطبيع الفني اللبناني على اختلافه مع نظام البعث، ومن بعدها، كررت الإلماح والإشارة في “بوست” على جدار حسابي الـ”فايسبوكي” خلال تفعيلي له. غير أن المحاولتين كانتا بلا جدوى، وبقيت النصيحة فيهما.
لم أكن وحدي، الذي حاول توجيه هذه النصيحة إلى المعني، فهو، ولكي يخفف من وطأة فعلته عليه، سعى إلى مشاركتها مواربة مع أغيار له، معلومة مناهضتهم لمعسكر “الممانعة والمقاومة”. وقد استفهم منهم عن حيثية وأثر “إضطراره” الذهاب إلى سوريا، والتصوير هناك. من دون أن يدركوا مرد “اضطراره”، ولا سبيل ذهابه، ولا محصلة التصوير، نصحوه ألا يقدم على ذلك. طبعاً، وحين شاركهم فعلته على نحو استفهامي، كانت قد حصلت مسبقاً، وهكذا، لم يكن لنصيحتهم طائلاً.
ماتت النصيحة، وتفاقم النبأ. الفعلة تشكلت في شريط، والشريط هذا انتقل من مؤسسة إلى أخرى، وسيحط في مهرجان “البندقية”، حيث قد يفوز بجائزة.
وفي المشهد الموازي: احتفاء متناقلي النبأ ومتداوليه، أي أصدقاء المعني وصديقاته، “أعداء كاره” نفسهم، بهذا الحط، وتحولهم من مستنكرين لفعلته إلى ناكرين لها. وهنا، من الممكن رد تحولهم إلى تجميل الفعلة، أي أنها مرت، وصارت شريط، بالإضافة إلى أن هذا الشريط قد لاقى اعترافاً بين المؤسسات، عدا عن كونهم، وبالنكران، يحفظون بغيتهم الأولية، وهي التخلص من مزاحمهم القديم والمقبل.
بهذا، ابتغى المعني من الإحتفاء بحط شريطه في المهرجان أن يكون ختماً على رفع فعلته، بتجميلها والاعتراف بها، إلى فعل، ثم تلاشيها فيه، كما ابتغى “أعداء كاره” من الإحتفاء به أن يكون طريقاً إلى التخلص منه. بين هتين البغيتين، كان لا بد من الكلام.
لم يحدث الكلام سوى بانطلاقه من توصيف أولي للفعلة، التي استوت على كونها استغلال دمار السوريين للتوفير من واستكمال الاستغلال باستخدام المشاهد، واستكمال الاستخدام ايضاً بالإدراج السردي.
فلم يكن المعني ليقدم على فعلته هذه لولا أنه، ومن إجتماعه المهني، لم يجد فيها أي خطأ، ومن إجتماعه ذاته أيضاً، لم يردعه عنها أحد. ألا تذكرون أن مطلع هذا الاجتماع في بداية التسعينات كانت عملاً استثمارياً يقاربها في منطقة الكرنتينا، وقد جعلها الباطل من الخطاب التجميلي ذاته فعلاً “مقاوماً”؟ بالتالي، لم ينفذ المعني فعلته من تلقائه إلا لأن تلقائه هذا هو من تأليف تلقاء اجتماعه ذاك. وفي الجهة عينها، لم يكن المعني ليقدم على فعلته لو أنها تخالف قانون التلقائين، الذي يقوم بالوصول إلى الغرض على الفور، بأقل الجهد، وأقل الوقت، ومعهما، أقل الكلفة.
وهذا القانون، قانون الفورية، وبمزاولته لبنانياً، يرتبط بسردية وطنية منصرمة، كانت شخصيتها الرئيسية هي “الحربوق”، ولكن، ومع اضمحلالها، انقلب إلى “مُظَبط”، وفي الشارع، يُنعت، وبلا دقة، بـ”اللعيب”، لكنه، وأي كان، هو غشاش. ولا يمكن لسردية منصرمة، وشخصية مضمحلة، أن يبقيا، وعلى الرغم من منيتهما، على قيد العيش، سوى لأنهما يشغلان وضعاً عاماً، يعبر من وسط إلى آخر في البلاد، ويصيب مؤسساتها وسلطاتها السياسية والاجتماعية، بحيث الأولى تغدو أجهزته، والثانية، حارسته. الوضع هذا هو وضع الإنحطاط، الذي يُكوِّن مجال ذلك القانون، قانون الفورية، والذي، حين مضى المعني إلى فعلته، تحرك فيه.
على هذا المنوال، لا يمكن رمي الفعلة على عاتق منفذها بمفرده، أي لا يمكن الحديث عن كونه نفذها بإرادته وإدارته فحسب، بل إن كل الأحوال، في إجتماعه المهني خصوصاً، وفي بلده عموماً، بمثابة مسهلات لكي يقدم عليها. فلم يذهب إلى سوريا سوى لأن ذهابه هنا يرادف إرساله. لم يمضِ إلى تصوير الدمار في سوريا سوى لأنه يقطن الدمار في لبنان. لم يستغل دمار السوريين سوى لأن، وفي لبنان، جولات العنصرية وصولاتها، هي نفي لهم.
على أن المعني، ما كان، وعلى الرغم من أحوال إرساله هذه، وعلى الرغم من قوتها، ما كان لينفذ فعلته لو أنه استند إلى البداهة الإطيقية، التي تكفل تصارعه معها، ورده لقوته عنها. وبالتالي، تعطيله لإرساله، وامتناعه عن ذهابه. هذه البداهة الإطيقية كانت كفيلة بأن تبدي له أن ليس كل سانح مسموحاً.
هذا كان التوصيف الأولي للفعلة، وبالإنطلاق منه، وقع الكلام، ولهذا، دار حول: انحطاط البلاد، أن لا يُقلب المعني كبش محرقة، يعني ألا يضحي إجتماعه المهني به، وطلب تفسير وتوضيح منه. في النتيجة، دار الكلام حول نقله إلى المعني على إفتراض أنه، وحين يأخذ نوبته، سيسترجع فعلته من الاحتفاء بها، ومن تشكيلها في شريط، ويشرع في معالجتها.
لقد وقع الكلام علناً، في آخر فضاء عمومي تبقى للبلاد بعد انعدام أي فضاء من قبيله، كالجامعة والنادي والمقهى والساحة. خرج الكلام من “فايسبوك”، مخلخلاً “نظافته”، و”سكون” شاشته، ولهذا، أول توقيف له كان مجرد إعادة تدوير إلكتروني لتلك المقولة الأدونيسية: التشكيك في قيمة الكلام ومفعوله لأنه لم يطلع من المقالةالمكتبة العامة، بل من الفايسبوكالجامع!
كان الكلام، ببساطة، قول اللازم قوله، قول لا يُقال. طبعا، لم يحمل المعني على اي رد عليه، ولهذا، ناديت قلة قليلة من الأشخاص، الذين من المفترض انهم على علم بفعلته، أو انهم من اجتماعه المهني، أو من المشتغلين في فيلمه، أو من أصدقائه وصديقاته. فعلت ذلك، لا من أجل تحريضهم على ادانته، إنما، لكي يحضوه على التفسير والتوضيح. وهذا، ما لم يحصل من قبله مباشرة، وفي هذه الاثناء، وعدا عن نعت الكلام بأنه “هجوم” و”حملة”، كان قد أخذ على ثلاثة مناويل.
الأول، على منوال انه “عنيف”. طبعا، هذا الأمر سببه ان وقع الكلام على السكوت، الذي صار من عادات وتقاليد وسطي الفن الراهن والأفلمة في لبنان، قد احاله إلى الكامن تحت غطاء المجاملة المرهفة الذي يرتفع فوقه، أو الذي يعاد تحمله عبر “النميمة”، اي احاله إلى قسوته. فالعنف هو فعلياً عنف السكوت.
الثاني، أن الكلام، يجب أن يكون “نقديا”، لكنه، ليس كذلك. طبعا، هو، وكما سلفت الاشارة في التوصيف أعلاه، مر بالنقد، لكنه، تعداه أيضا، ليكون مصارحة مباشرة، وليس “محاكمة عسكرية”. بالفضل عن كون المسألة التي يطرحها ليست في الأساس نقدية خالصة، فمن الضروري امعان التفكر والنظر فيها، ولكن، كل تذهينها يؤكد انها تتطلب من المعني بها ان يفسرها ويوضحها وقائعياً. فالمسألة في حالها ومآلها مسألة سرد أكثر مما هي مسألة خطاب.
المنوال الثالث هو تلقي الكلام على أساس أنه “فضائحي”، وهذا، من قبل الذين ادركوا انه، وبتناوله الفعلة اياها، يميط اللثام عما يعتقدون أنه “عورتهم”، أي قانون عملهم، وعن صلتهم الاستغلالية بالسوريين، أو بكل المهمشين والمسحوقين، بالاضافة الى انه يُبرز شخصيتهم المسلكية، اي الحربوق. وبهذا، وكما في إثر كل فضيحة، حاولوا، وبإخفاق، أن يتشكلوا كجماعة، تدافع عن قانونها وصلتها وشخصيتها تلك عبر ادعاء الدفاع عن المعني. ولكن، هذه الجماعة لم تطل إدعائها هذا، فبعد أن أوصلت المعني إلى جوائزه، جاهرت ببغيتها الأساس حياله، أي التخلص منه.
في الأثناء، جاء رد من المعني، أو ما قيل أنه “جوابه” على الكلام، وهو تصرف في حديث إلى ممولي شريطه، بالإضافة إلى أنه شبيه بلازمة اغنية تفتتح مقرا لمنظمة غير حكومية ناشئة، تقفل بعد شهر من الزمن. إذ كان الرد “صائبا سياسيا”، وبالتالي، خالياً من اي معنى، ومع ذلك، قررت الجماعة، وبانعدام مؤسف للبصر والبصيرة، ان “تناقشه”. بهذا، حولت المسألة إلى مشهد كاريكاتوري، وقد كانت المشكلة حياله ان اي تعاطي معه هو بمثابة نفي لكاريكاتوريته، وإضفاء شرعية عليه. مثلما كانت المشكلة ايضا أن، وخلف هذا المشهد، ثمة سخافة متفشية ومتحجرة، وقد قلبت “النقاش” الى: هزء عدمي، تنمر ذكوري، وتشويه مفاهيمي- تقديم الإطيقيا على أساس أنها “آداب”- واعتماد آلية الـ”وية” الشهيرة-أخلاقوية، سياسوية، ثقافوية- وتصنيف كيفما اتفق-يسار راديكالي، وليبرالية، ويمين صاعد- وهذا كله من أجل استئناف ما قبل الكلام، اي من أجل ترميم السكوت.
على ان هذا المشهد تلاشى بعد بلوغه أوج كاريكاتوريته. فبعد طرح المسألة، كُتبت مقالات و”بوستات” وصُورت فيديوات حولها، ولكن، الجماعة طعنت فيها لتكفل “وصول” المعني إلى جوائزه بحجة “انتظار الفيلم”. الا ان فجأة، وبعد أن نشر موقع “بدايات” اول مقال لصديق عزيز يحذو، ومن ناحية رأيه، حذو تلك المقالات، سعت الجماعة اياها، وبكوميدية، إلى جعله كاهنا، وإلى جعل موقفه عظة موجهة إليها. بالتالي، ما عليها سوى أن تكررها خلفه كفعل ندامة تغسل بها “خطيئة” منافقتها، مبررةً “انتظارها”، ومتبرئة منه، وبهذا، تعيد التستر على الحقيقة التي برزت منها جليةً: أكانت “مع الثورة” أو “ضدها”، هي ليست سوى “مع النظام”، ليست سوى ممانعة.
وهكذا، كانت، ومنذ بداية تشكلها، محاولة لرفع كنيسة مقوضة وضيقة، وكل بؤسها أنها لا تجد كهنتها، أنها لا تجد “أبو كسمها” على الرغم من افتعالها الدائم له.
بعد ذلك، يا أحمد، كنت قد بدأت حديثي معك بعبارة “عش في العار”، والعار، وعلى قول فيلسوف عظيم، ليس سوى إحساس باعتقال الحياة، حياة السوريين. والان، بعد طرح مسألتك، صار في مقدورك أن تتحرر منه، ومن بغية “أعداء كارك”، أي بغية التخلص منك: أن تعتذر، وبسهولة، من السوريين، من جميع السوريين، وليس من سينمائي من هنا، أو مدير مهرجان من هناك، ولذلك، تهدي إليهم جوائزك.
وفي حال لم تستطع ذلك، فقد تعدل في شريطك، حذف مشاهده، تزيد عليها تعليلاً، أو قد لا تفعل شيء. ستبقي الفعلة فعلة، وحتى إن محيت آثارها، على نحو سحب الصور من موقع السينماتوغراف، أو على نحو “مغطي المهرجان”، الذي قرروا إشاحة انتباهم عن “الصورة”، مركزين على “الصوت”، تكون بذلك قد أوصلتها فعلياً إلى كمالها. ففعلة بدون صورة وصوت هي فعلة تامة!
في الخلاصة، السقوط كبير لا يمكن توقيفه، ولكن، السكوت، انتهى في العام 2011، واي إرجاع إليه لا يحمل سوى على الضحك!
المدن 22 أيلول/سبتمبر 2019