عبد الباسط سيدا
أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى السنوية الثانية عشرة للثورة السورية (15-18آذار/مارس 2011)، وهي ثورة مستمرة رغم المعاناة والصعوبات بأشكال متجددة، تؤكد استحالة قبول غالبية السوريين بإعادة تعويم السلطة المسؤولة بصورة مباشرة عن قتل نحو مليون سوري، وتغييب واعتقال عشرات الآلاف، وتهجير الملايين وتدمير البلد، وانعكاسات كل ذلك على المجتمع والوطن التي تتمثل في المآسي الإنسانية، والانهيارات الاقتصادية، ومناطق النفوذ وسلطات الأمر الواقع المفروضة على السوريين بقوة الجيوش والميليشيات الأجنبية. وهذه السلطة تعد في الواقع العملي امتداداً للسلطة الأسدية التي أقامها حافظ الأسد عام 1970، وذلك بعد أن تمكن من إزاحة جميع منافسيه عبر الاعتقال أو النفي القسري أو حتى القتل والاغتيال.
فعلى مدى ثلاثة عقود قضاها الأخير في الحكم بصلاحيات مطلقة، تحكّم بكل صغيرة وكبيرة تخص المجتمع والدولة، رسّخ مفهوم «الحاكم المتأله» الزائف بمختلف الوسائل، وذلك عن طريق حزب البعث باعتباره كان أمينه العام، ومن خلال الأجهزة الأمنية التي كانت خيوطها جميعاً تلتقي عنده، وبفعل وسائل الإعلام الخاضعة لسياسات وهيمنة أجهزته، هذا إلى جانب دور الواجهات الرسمية لكل الأديان والمذاهب التي كانت تسبّح بمزاياه وخصاله «الاستثنائية»، والزعامات الانتهازية التي أوجدها في الوسط العشائري. وهكذا انتشرت تماثيله في المدن والبلدات السورية التي كانت تسوّقه بوصفه: العامل الأول، والفلاح الأول، والمعلم الأول، وبطل الصمود والتحرير والبناء…ألخ. كما تغنّى بمآثره شعراء البلاط الجمهوري والفنانون المنتفعون.
واستطاع حافظ الأسد، بعد أن رتّب أوراقه الإقليمية والدولية، تدجين معظم الأحزاب والجماعات السياسية القومية والاشتراكية المعارضة بمختلف الأساليب، كما تمكّن من استمالة الكثير من رجال الدين، وشيوخ الطرق الصوفية والتجار؛ أمّا القوى التي تمردت على ذلك فقد كان نصيبها القمع المتوحش لإرهاب الناس، وإلزامهم بالخنوع أو الصمت. ولم يكتف بسوريا وحدها، بل فعل الأمر نفسه في لبنان، ومزّق الصف الفلسطيني، وحاول الهيمنة على الحركة الوطنية العراقية، واستخدم حزب العمال الكردستاني ليكون أداته في الساحة الكردية ومشاريعه الإقليمية.
وفي الوقت ذاته، استطاع حافظ الأسد تطويرعلاقاته العربية خاصة مع دول الخليج ومصر، واستفاد من إقدام غريمه صدام حسين على احتلال الكويت فأرسل قواته لتشارك في حرب تحرير الكويت بقيادة أمريكية عام 1991، وتخلص في الوقت نفسه من ميشيل عون في لبنان.
وكان شغله الشاغل هو تأبيد حكمه واسمه عبر توريث الجمهورية؛ ولبلوغ ذلك ركّز جهوده، بعد غياب الوارث المفضل لديه في حادثة المطار، على إعداد البديل. وتوافقت إرادات من أغدق عليهم حافظ الأسد المناصب والامتيازات على الرضوخ لمشيئته.
وجاءت الثورة السورية لتزلزل أركان السلطة الأسدية المستبدة الفاسدة. ومع اتساع نطاق المظاهرات والاعتصامات في مختلف أنحاء الجغرافية السورية، لجأت السلطة المعنية بالتنسيق مع الحليف الإيراني إلى اللعبة القديمة -الجديدة، لعبة العزف على الوتر الطائفي لإرباك الداخل السوري، والتلويح بفزاعة خطر الإرهاب على المستوى الدولي لوضع العالم أمام بديلين فاسدين، ليختار الأقل سوءا بالنسبة إليه.
وجاء الروس ليروّجوا للكذبه نفسها. ومع أن القوى الدولية الغربية المؤثرة، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا كانت مطلعة على ما يجري، ولديها صورة كافية حول طبيعة ما كانت السلطة تخطط له بالتنسيق مع الإيرانيين، إلا أنها التزمت الموقف الأمريكي في عهد أوباما الذي وجد في صفقة الكيميائي مع الروس فرصة للتنصل من تبعات الخط الأحمر الذي كان قد حدّده بنفسه لنفسه.
ومع اندلاع الصراع المؤجل بين الروس والأوكرانيين، وانشغال العالم بالخطر الروسي على أوروبا والغرب عموما، باتت القضية السورية من القضايا المنسية، الأمر الذي اعتبرته بعض الأنظمة العربية، التي كانت وما زالت على تواصل مع سلطة بشار الأسد، فرصة لتمرير موضوع تعويم السلطة، وهو ما حاول الروس مرارا بلوغه، خاصة من بوابة موضوع عودة اللاجئين وإعادة الإعمار، بمختلف أنواع التحايل إلا أنهم فشلوا فيه.
كما كانت هناك رغبة من قبل بعض الدول العربية في توجيه الدعوة إلى بشار الأسد لحضور القمة العربية التي استضافتها الجزائر في تشرين الثاني/نوفمبر 2022، ولكن تلك الرغبة اصطدمت بمواقف دول عربية أخرى ومع الموقف الأمريكي المعلن بخصوص التعويم.
وجاء زلزال 6 شباط/ فبراير 2023 ليكون فرصة بالنسبة لعدد من الدول العربية التي أعلنت انفتاحها على سلطة بشار تحت شعارات إنسانية مفادها ضرورة الوقوف إلى جانب السوريين في محنتهم، هذا رغم أن السلطة المعنية وراعيها الروسي في مجلس الأمن هما من عرقل، ويعرقل وصول المساعدات إلى السوريين من خلال تعطيل آلية تقديم المساعدات لهم عبر مختلف المعابر، وذلك في إطار الضغط من أجل الربط بين تلك الموافقة وموضوع التعافي المبكر، أي تقديم مساعدات بطريق ملتوية إلى السلطة، وليس إلى الشعب الذي يعاني الأمرّين من الظروف المعيشية القاسية، في مختلف المناطق السورية؛ لا سيما تلك الخاضعة لسيطرة السلطة الأسدية التي تنصّلت من مسؤولياتها تجاه الناس، ولا همّ لها سوى تسويق نفسها من دون أن تبدي أي استعداد جدي لتحمل المسؤولية، والدخول في حوارات وطنية حقيقية مع مختلف الأطراف السياسية والنخب السورية الحريصة على شعبها ووطنها بغية الوصول إلى حلول واقعية جامعة من شأنها التمهيد لحل شامل يضع حداً لمعاناة السوريين جميعاً وفي سائر المناطق ومن دون أي استثناء. فمن دون حل وطني شامل يقوم على أساس معالجة الأسباب، لن تستعيد سوريا وحدتها، ولن يسترد النسيج المجتمع الوطني عافيته، ولن تخرج الجيوش والميليشيات الأجنبية من البلد، ولن يكون هناك أي مجال للحديث عن السياسة أو القرار الوطني المستقل.
لقد وصلت وفود عربية إلى دمشق، وكانت هناك اتصالات عربية مع بشار الأسد، وكل ذلك كان بذريعة التركيز على الموضوع الإنساني، هذا في حين أنه كان من المفروض أن تركز تلك الجهات جهودها على الشمال الغربي السوري الذي تعرض أكثر من بقية المناطق للدمار الذي تسبب في وقوع العدد الأكبر من الضحايا. والأمر الذي يتجاهله أنصار تعويم بشار الأسد هو موضوع العلاقة العضوية بين سلطته والنظام الإيراني، وانعكاسات تلك العلاقة على الأوضاع في لبنان والعراق.
كما أن الهيمنة الروسية على سلطة بشار الأسد أمر لا يمكن أن يتجاهله أي عاقل، فهذه الأخيرة تلتزم بكل قرارات بوتين في الملف الأوكراني، بما في ذلك الاعتراف بسيادة روسيا على المناطق الشرقية من أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، وتأييد الغزو الروسي لأوكرانيا.
بقي أن نقول: إن شعار ضرورة إعادة سوريا إلى الحضن العربي الذي يروج اليوم من دون السعي إلى معالجة الأسباب التي أدت إلى المأساة السورية، وهي أسباب ما زالت قائمة، بل أصبحت أكثر فاعلية بعد التدخلين الإيراني والروسي، هو شعار مضلل يتماهى مع ما نواجهه اليوم من تسويغ للانفتاح على بشار الأسد بحجة التضامن الإنساني مع السوريين في حين يُترك السوريون المحتاجون لمصيرهم، فقد حصد الزلزال الآلاف منهم في الشمال الغربي، وها هي الكوليرا تفتك بهم، وهم بصورة عامة يعيشون ظروفا معيشية بالغة القسوة، ومن المرجح أن تصبح أقسى نتيجة الجفاف والفساد وانسداد الآفاق.
إذا كانت الدولة العربية جادة في مساعدة الشعب السوري، فعليها أن تشترط على سلطة بشار الأسد قبول إجراءات توحّد السوريين، وتفتح المجال أمامهم للنهوض بمجتمعهم وبلدهم. وفي حال تعذر ذلك، فينبغي أن تجري هذه الدول الاتصالات الجادة مع الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة في الملف السوري، لا سيما مع الجانب الأمريكي باعتبار أن الكلمة الفصل في الشأن السوري ستكون له دون غيره، وذلك بهدف الوصول إلى توافقات تمهّد لخروج القوى الأجنبية جيوشاً وميليشيات من سوريا، وإلزام السلطة بالقبول بانتقال سياسي حقيقي استنادا إلى بيان جنيف 1 لعام 2012 والقرار الأممي 2254 لعام 2015. فسلطة بشار الأسد بما اقترفته بحق السوريين، لن تتمكن من توحيد السوريين ووطنهم. وهذا معناه أن الانفتاح العربي الحالي، وربما المستقبلي، على هذه السلطة سيكون في خدمة المشروع الإيراني في نهاية المطاف. بل سيكون بمثابة إقرار صريح من الدول المعنية بشرعنة التغلغل الإيراني في المجتمع والدولة السوريين، مقابل توقع الحصول على نقاط أخرى في ملفات أخرى، وكل ذلك مؤداه استمرارية المعاناة السورية، إن لم نقل اشتدادها، الأمر الذي سيؤدي من جهته إلى تغييرات ديموغرافية تُضاف إلى تلك التي حصلت في الكثير من المناطق السورية، ما يهدد بالمزيد من الانهيارات في سائر الميادين وعلى جميع المستويات.
المصدر: القدس العربي