جسر – صحافة
حرب بوتين على أوكرانيا التي أرادها “حرباً خاطفة” Blitzkrieg، يرى خبراء بأنها لن تنتهي قريباً، بل ربما ستمتد لسنوات قادمة. وقبل أن تندلع، حذر سياسيون، محللون وجنرالات روس متقاعدون ( ألكسندر إيفاشوف وزملاؤه في تجمع لضباط روس) من أنه ستكون لهذه الحرب عواقب وخيمة، يأتي في طليعتها تفاقم هجرة الأدمغة والشباب، وخلق عداء تاريخي بين الشعبين السلافيين الشقيقين. وواقع الكراهية الراهنة السائدة بين الشعبين الروسي والأوكراني يؤكد مدى الخطورة التاريخية التي كان يحملها هذا التحذير. نائب رئيس بنك غازبروم، ثالث بنك في أوروبا الوسطى والشرقية، إيغور فولوبويف، الأوكراني الذي لم يبق في روسيا إلا لخبرته العلمية المالية، غادر منصبه في موسكو إلى موطنه أوكرانيا مطلع الشهر المنصرم، ويقول في مقابلة معه في 26 الجاري، دمعت عيونه خلالها، بأنه كان يتلقى من أوكرانيا رسائل تقول “نحن نخجل بك”.
حرب بوتين على أوكرانيا، والتي كان يعتقد بأنها ستكون “حرباً خاطفة تنتهي في غضون أيام، إعترف هو نفسه بأنها فشلت، في كلمته في مركز إطلاق المركبات الفضائية الروسي “فاستوتشني”. وكان بإعترافه هذا يردد ما رافق الحرب منذ إندلاعها، حين أعلن قائد الجيش الأوكراني في نهاية اليوم الأول للحرب بأن حرب بوتين الخاطفة فشلت، وصمد الجيش الأوكراني، ولم يخرج الأوكران للترحيب بالجيش الروسي المحتل. وخرج الناطق بإسم بوتين في 22 الشهر المنصرم في مقابلته مع CNN ليبرر فشل “الحرب الخاطفة” بقوله بأن لا أحد في روسيا كان يفكر منذ البداية بأن “العملية العسكرية الخاصة “سوف تنتهي في يومين”.
الموقع الأوكراني UAINFO نشر أوائل الشهر المنصرم تقرير محلل روسي عن الحرب ضد أوكرانيا بعنوان “”الحرب الخاطفة” فشلت. الوضع عندنا كما في ألمانيا 1943 – 1944″. المحلل المحترف في الجهاز الأمني الرئيسي FSB) KGB سابقاً) لم يذكر إسمه، ويقول أنهم يطلبون منهم بإستمرار معلومات تحليلية، ويتبعون ذلك ب”إفلات كل الكلاب علينا”. ويفسر الأمر بأن أحداً (من محللي الجهاز) لم يعلم بأمر الحرب، ومع ذلك يطلبون منهم تقارير تحليلية عن النتائج المترتبة على حدث خيالي قد يطرأ خلالها، مثل إحتمال الهجوم بالنيازك على السجون من قبل الهيئات الروسية للدفاع عن حقوق الإنسان. وبعد ذلك يطلبون منهم أن يركزوا في تقاريرهم على “المهمات الواقعية لأن “لا موارد كافية لدى روسيا”. وفجأة يقصفون هم بالنيازك، وينتظرون أن تكون العواقب مطابقة “لتحاليلنا” الهرائية.
ولهذا السبب يرى المحلل بأن كل شئ في الحرب سار بالإتجاه المعاكس، فليس لدى روسيا وسائل دفاع ضد العقوبات، ولم يعرف أحد بأن مثل هذه الحرب سوف تقع، ولذا لم يتهيأ لمثل هذه العقوبات، و”هذا هو الوجه الآخر للسرية”.
يرى المحلل أن “الحرب الخاطفة ” فشلت، ويستحيل تنفيذ المهمة التي وضعها الكرملين لحربه على أوكرانيا. ويقول بأن تقديرات الشرطة العسكرية، مكافحة التجسس والحرس الوطني تشير إلى أنه، وفي ظل المستوى الأدنى من مقاومة الأوكران، تحتاج روسيا إلى 500 ألف مقاتل وما فوق، عدا عن المهمات اللوجستية. ويشير إلى إستحالة إعلان التعبئة العامة لسببين رئيسيين: التعبئة العامة الشاملة تؤدي إلى إنهيار الوضع السياسي، الإقتصادي والإجتماعي في البلاد؛ الخدمات اللوجستية تعمل فوق طاقتها. وهذان السببان يجتمعان في الوقت نفسه، علماً أن واحدا منهما يكفي لإنهيار كل شيء.
أما في ما يتعلق بالخسائر، يرى المحلل بأن لا أحد يعلم حجمها. في اليومين الأولين كان الوضع لا يزال تحت السيطرة، أما الآن فلا أحد يعلم ما الذي يجري.، قد تُفقد وحدات إتصال كبيرة، وقد يعثر عليها لاحقاً، كما يمكن أن تتبدد بسبب تعرضها لهجوم. قادة الوحدات قد لا يعرفون كم فر منها، كم قتل وكم وقع في الأسر. لكن القتلى بالآلاف، وقد يتأرجح عددهم بين عشرة آلاف وخمسة آلاف وألفين فقط، لكنه يجب أن يكون أقرب إلى 10 آلاف.
يستطرد المحلل المخابراتي في تقريره الشبيه بالمونولوغ الذاتي، وبتعابير حانقة، متقطعة ولاهثة، ويعرج على وضع روسيا في سوريا المماثل لعجزها في أوكرانيا، وعلى إمكانية إستخدام بوتين السلاح النووي التكتيكي، وإتهام قاديروف جهاز FSBبتمرير خرائط حركة قواته للأوكران. ويقول بأن كل هذا تراكم في كومة واحدة، وجعل الروس وكأنهم وُضعوا فجأة عند نقطة إنطلاق سباق مئة متر، فإذا بهم في نقطة إنطلاق ماراتون مسافة طويلة.
ويقول المحلل أن هذا الوضع لا ينقصه سوى أن يُقنع أحد المستشارين القيادة العليا ببدء نزاع مع أوروبا لمطالبتها بخفض العقوبات: إما أن يخفضوها وإما الحرب. ولا يستبعد إذ ما رفضت أوروبا أن تنزلق روسيا إلى نزاع عالمي، كما هتلر في العام 1939، ومن ثم مقارنة Z بالزوبعة النازية. ويؤكد بأن هذا كله تراكم فوق بعضه ولا بد أن ينفجر في نهاية المطاف، لأن إتخاذ قرار بالخروج منه خلال أيام مستحيل.
المجلس الروسي للعلاقات الدولية RIAC نشر في 27 الجاري لأحد مدراء برامجه نصاً بعنوان “لا وقت للقدرية”. يصنف الكاتب المخاطر المحدقة حالياً بروسيا في ثلاث فئات أو سلال كما يسميها. في السلة الأولى يجمع المخاطر الخارجية وتفاصيلها، في الثانية يتحدث عن مخاطر التخلف في تنظيم الإقتصاد وإدارة الدولة، وفي الثالثة يتحدث عن مجموعة من التهديدات المرتبطة بالاضطرابات وأزمة الدولة الروسية. ويقول بأن روسيا اصطدمت بهذه التهديدات مجتمعة في أكثر مراحل تاريخها مأساوية، كما في الأعوام 1917 ــــــ 1920، حين عاشت روسيا ثورتين وهموم الحرب العالمية الأولى، ومن ثم حرب التدخل وإنهيار الإقتصاد.
ويرى أنه، بعد 24 شباط/فبراير، يمكن لمجموعات المخاطر هذه أن تجتمع كلها في نقطة واحدة. ويعتبر أن تكرار سيناريو العام 1917 ليس حتمياً، لكن هذه المزيج من التحديات يخلق لروسيا وضعاً خطيراً غير مسبوق.
يعتبر الكاتب أن الوضع في نهاية العام 2021 لم يكن الأمثل، لكن كان لدى روسيا مجال للمناورة. إلا أن إطلاق العملية العسكرية غيّر الوضع بشكل حاد، حيث بقيت أوكرانيا في عداد أولويات الغرب، وتحققت أكثر أحلام كارهي روسيا جرأة. الإتحاد الأوروبي يعزز قدراته الدفاعية، وتمتلئ أوروبا الشرقية بالقوات العسكرية، وتتلقى أوكرانيا مساعدات عسكرية لم يحلم بها صقورها.
إن إجتماع مخاطر السلال الثلاث سيكون إختاراً لصلابة الدولة الروسية. ومجموع الصدمات يمكن أن يؤدي إلى سيناريوهات كارثية، بما فيها إنقلاب قصر أو تمرد عفوي وحتى إلى حرب أهلية مع مشاركة خارجية. وقد يتبين أن الرهان على أفول الغرب مجرد وهم، وروسيا هي الحلقة الأضعف. لكن هذه السيناريوهات ليست حتمية، وروسيا في جميع الأحوال، ستمر بتغيرات مؤلمة حتمية وتتكبد خسائر ، لكنها ستخرج على أساس مختلف جذريًا في حياتها. إلا أنه يستحيل الآن بالمستقبل الذي ينتظر روسيا. ولا يجدر أن ننسى أن الإتحاد السوفياتي إنهار وهو في ظروف علاقات دولية أفضل بما لايقاس، ولذا الصدمات الداخلية والخارجية لا تحدد المستقبل بذاتها. المستقبل اللاحق لروسيا يتوقف عليها نفسها، والوقت الآن ليس للإتكال على القدر.
المصدر: موقع المدن (بسام مقداد)