جسر: متابعات:
منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في مختلف المناطق اللبنانية، مساء السابع عشر من تشرين الأول، كانت الأنظار تتجه إلى الرئيس سعد الحريري، وما الذي سيقرره. كان واضحاً أن الحريري هو موضوع الاستقطاب من مختلف القوى السياسية، الجميع يريد أن يفوز به ليعزز من وضعه السياسي، بحسب ما ستسفر عنه هذه التحركات الشعبية.
في موازاة تعاظم الحركة الاحتجاجية، كانت الاتصالات السياسية تدور نهاراً بين مختلف القوى، للبحث عن مخرج من المأزق. وقد انخرطت قوى سياسية متعددة في هذه التحركات، وفقاً لأهدافها.
حركة جنبلاط وجعجع والحريري
في هذا الوقت، جاءت دعوة وليد جنبلاط وسمير جعجع إلى استقالة الحريري والذهاب إلى المعارضة، لأن منطق حكومات الوحدة الوطنية في لبنان وفي ظل هذه الظروف أصبح كذبة. كان جنبلاط وجعجع يعبّران عن سوء الأحوال التي وصلت إليها الأمور. ويكشفان بشكل أو بآخر عن استمرار تطويقهما مع محاصرة رئيس الحكومة. استمر التجاذب وتفاقمت الاحتجاجات، حتى دعى الإشتراكيون والقواتيون صراحة إلى المشاركة بفعالية في التظاهرات “ضد العهد” ولإسقاط الحكومة وتغيير قواعد اللعبة.
طوال يوم الاحتجاجات، بقيت الأنظار متجهة إلى ما سيقرره رئيس الحكومة. تضاربت المعلومات حول تقديم استقالته من عدمها. بينما كانت الاتصالات السياسية مفتوحة لمحاولة ثنيه عن هذه الخطوة. إلا أنه لجأ أولاً إلى استخدام صلاحيته بوجه رئيس الجمهورية، بإقدامه على إلغاء جلسة مجلس الوزراء التي كانت مقررة في بعبدا. وهذه كانت إشارة مباشرة من الحريري إلى أنه لم يعد بوارد السماح بالتعدي على صلاحياته، أو الاستئثار بالقرارات المهمة، ومن ثم تحميله مسؤولية ما يجري فيما بعد.
حلف رباعي
بموازاة الاتصالات الماراتونية، عُقد اجتماع في بعبدا بين رئيس الجمهورية ووزير الخارجية وبعض الوزراء المحسوبين عليهما، للبحث في الخروج من المأزق. ظهر بعدها باسيل متحدثاً بإسم رئيس الجمهورية وحزب الله! وأيضاً حاول استباق موقف الحريري والحديث باسمه، بالحرص على الحكومة.. لـ”أن بديلها سيكون أخطر”، وكشف عن تفاهم مع الحريري وحزب الله وحركة أمل على ورقة الإصلاحات. ما يعني ضمناً أن هناك تحالفاً رباعياً تحدث عنه باسيل. وهذا التحالف سيكون على حساب الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات اللبنانية. وهذا ما قصده باسيل بوجوب “تشحيل اليابس لإبقاء الأخضر”. هذا الكلام يعني أن المسعى هو لإخراج القوات والاشتراكي من الحكومة. لأن باسيل يريد الحكومة بلا معارضة.
من الواضح أن اتفاقاً ضمنياً حدث بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ والحريري على عدم الاستقالة، وأخذ الوقت لمعالجة الأوضاع. والغاية من الاتفاق هي تجنب استقالة الحريري، والحفاظ على تركيبة الحكم، على الرغم من توجيه الحريري انتقادات ضمنية لباسيل ولممارساته، وحديثه عن العراقيل الدائمة والكثيرة. إلا أن خطابه كان متلاقياً مع كلام باسيل، بقناعة أن لا بديل عن الحكومة. وتؤكد المعلومات أن حزب الله تمنى على الحريري عدم الاستقالة. وباسيل نفسه أبلغ الحريري: “لا حاجة لـ72 ساعة، لنبدأ من الآن”. ما يعني أن الاتفاق تمّ.
التلويح بالاستقالة طلباً للصلاحيات
كان خطاب الحريري موفقاً نسبياً (في المضمون لا في الأداء). أعاد رمي الكرة إلى الوزير جبران باسيل وحزب الله، ودخل في عملية ربط نزاع معه. وكأنه أراد القول إلى من يهدد بقلب الطاولة، “أنا جاهز لقلب الطاولة”. وهذا ظهر بتعبيره عن عدم الندم في إبرام “التسوية”. بالطبع يقصد فعلياً أنه نادم عليها وعلى الآخرين تفهم موقفه وخياراته.. وإلا سيضطر إلى قلب الطاولة. طبعاً هو لا يريد تقديم استقالته، ولكنه يريد استعادة الصلاحيات هو الذي عندما وجد نفسه عاجزاً فيما يتم سحب كل الملفات التي كان يعمل عليها، ليستحوذ عليها باسيل ورئيس الجمهورية.
مهلة 72 ساعة التي أعطاها الحريري لنفسه هي لكسب الوقت وتجنّب خيار الاستقالة، بأسلوب المكيافيلية السياسية، أي توجيهه الاتهام إلى الجميع ووفق شرط إما أن يمنحوه ما يريده وإلا سيذهب إلى منزله. وهنا تؤكد مصادر مطّلعة، أن الحريري عازم على الاستقالة بحال عدم إنجاز الموازنة بشكل جدي وفعلي خلال يومين، وهو لم يكن يريد أن يستقيل الجمعة على وقع احتجاجات الشارع كي لا تكون الاستقالة مهينة. بل هو كتب استقالته قبل حصول اجتماع بعبدا. ولكن بنتيجة الاتصالات الكثيرة أحجم عنها وأجّلها، رهناً بالتطورات.
ما لم يعرفه أركان التسوية أن حراك الشارع تخطّى كل الحسابات. ومطالب الناس تجاوزت كل الحسابات السياسية. إذ أن مواجهتهم لم تعد مع الحكومة أو مع رئيسها. الحراك الشعبي كسر كل الحدود. وبمعزل عن استقالة الحكومة من عدمها، فإن ما أصيب بمقتل معنوي هو “العهد” برمّته. وهذه التحركات إن لم تؤسس حالياً لأي تغيير حقيقي، فهي بالتأكيد ستؤسس لتغيير في المستقبل القريب.