“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

شارك

“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

“حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الايطالية الأشهر عالمياً إيلينا فيرّانتي (فصل من الرواية)

جسر: ثقافة:

بعد ترجمته رباعية نابولي المؤلفة من “صديقتي المذهلة”، “حكاية الإسم الجديد”، “الهاربون والباقون”، “حكاية الطفلة الضائعة”، انتهى معاوية عبد المجيد من ترجمة “حياة البالغين الكاذبة” للكاتبة الإيطالية الأشهر عالميا، إيلينا فيرانتي. 

وقبيل صدورها بالعربية عن دار الآداب، نشر موقع النهار العربي” الفصل الأول من رواية فيرانتي، التي شغلت العالم بإبداعها وبهويتها السريّة.

 

قبل عامين من مغادرة والدي بيتنا، قال لوالدتي إنّني قبيحةٌ جدًّا. نُطِقَت الجملةُ بصوتٍ هامس، في الشقّة التي حصل عليها والداي حالما تزوّجا، في ريوني ألتو، عند قمّة سان جاكومو دي كابري. ظلَّ كلّ شيء على حاله: أمكنة نابولي، الضوء الأزرق الطاغي على يومٍ متجمّدٍ من شهر فبراير، وتلك الكلمات. أمّا أنا فانزلقتُ بعيدًا، وما زلت أنزلق حتّى الآن، داخل هذه الأسطر التي تحاول أن تمنحني حكايةً، بينما في الواقع لا شيء، لا شيء منّي، لا شيء قد ابتدأ حقًّا أو وصل إلى نهايته بالفعل: سوى حالة فوضى لا أحد يعلم – حتّى الذي يكتبها في هذه اللحظة – إن كانت تحتوي على الخيط الناظم لحكايةٍ ما أم أنّها مجرّد ألمٍ مشتَّتٍ لا شفاء منه.

 

2

 

 

لقد أحببتُ والدي كثيرًا، كان رجلًا لطيفًا على الدوام. وكان سلوكه رفيعًا ومتطابقًا كلّيًّا مع جسده النحيل حتّى إنّ ملابسه تبدو بمقاسٍ أكبر من مقاسه، الأمر الذي كان يضفي عليه في مرآي أناقةً متفرّدة. تقاسيم وجهه كانت ناعمة، ولا شيء فيها يُفسِد الانسجام ما بينها: عيناه العميقتان ورموشه الطويلة وأنفه ذو الهندسة المتقنة وشفتاه المنفوختان. وكان يعاملني بأسلوبٍ مرح في أيّ مناسبة، بغضّ النظر عن مزاجه أو مزاجي؛ ولا ينغلق في مكتبه – كان يدرس دائمًا – ما لم ينتزع منّي ابتسامةً على الأقلّ. وكان شعري سرَّ بهجته على وجه الخصوص، لكنّي الآن أستصعب التذكّر متى بدأ يتغزّل به، ربّما منذ أن كنت في عامي الثاني أو الثالث. المؤكّد أنّنا كنّا منذ طفولتي نجري أحاديث من هذا النوع:

«ما أجمل شعركِ، ما أجوده، أيُّ نورٍ يختزن، هلّا أهديتِني إيّاه؟».

«كلّا، إنّه لي».

«كوني كريمةً قليلًا!».

«إن أردتَ، بإمكاني إعارتك إيّاه».

«جيّدٌ جدًّا، فإنّي لن أرجعه لكِ أبدًا».

«لديك شَعرٌ أساسًا».

«شَعري هذا أخذته منكِ».

«ليس صحيحًا، أنت تكذب».

«تأكّدي: كان جميلًا للغاية فسرقته منكِ».

وكنت أتأكد على سبيل المزاح، إذ كنت أعرف أنّه ما كان ليسرقه منّي إطلاقًا. وكنت أضحك، وأضحك كثيرًا، وأستمتع معه أكثر ممّا أستمتع مع والدتي. كان يريد دومًا أن يأخذ شيئًا منّي: أحد الأذنين، الأنف، الذقن؛ ويقول إنّه متقن التكوين لدرجةٍ لا يقدر فيها على العيش من دونه. وكنت أحبّ تلك النبرة، وأتأثّر على الدوام من فكرة أنّه لا غنى له عنّي.

وبطبيعة الحال لم يكن والدي هكذا مع الجميع. ففي بعض الأحيان، عندما ينصدم بشيء ما، ينحو بعصبيّةٍ إلى الجمع بين كلامٍ رقيق ومشاعر مضطربة. وفي أحيان أخرى، كان يختصر الموضوع ويلتجئ إلى جملٍ قصيرة، عالية الدقّة، ومكثفّةٍ لدرجة أنْ لا أحد يردُّها عليه. كان فيه أبوان مختلفان جدًّا عن الأب الذي أحببتُه، واكتشفتُ وجودهما حينما كنت في السابعة أو الثامنة من عمري، عندما كنت أسمع نقاشاته مع أصدقائه ومعارفه الذين غالبًا ما جاءوا إلى بيتنا لعقد اجتماعات محتدمة حول إشكاليّاتٍ لم أكن أفهم منها شيئًا. وكنت في الغالب أنزوي مع والدتي في المطبخ، ولا أكترث إلّا قليلًا لمشاجراتهم على بُعد أمتار قليلة من هناك. إلّا أنّني في أحيانٍ أخرى، حين تكون والدتي مشغولة فتنغلق هي أيضًا في غرفتها، كنت أبقى وحيدةً في الممرّ للعب أو القراءة، لاسيّما للقراءة، لأنّ والدي كان يقرأ كثيرًا، ووالدتي كذلك، وكنت أودّ أن أصبح مثلهما. لم أكن أدقّق في النقاشات، إنّما أقطع على نفسي اللعبة أو القراءة كلّما ساد الصمت فجأة وانبثقت تلك الأصواتُ التي أستغربها من والدي. كان حينذاك يهيمن على المكان، فأنتظر ريثما ينتهي الاجتماع لأتأكّد ممّا إذا عاد إلى طبيعته وعادت نبرته اللطيفة والحنونة إلى سابق عهدها.

في المساء الذي نطق فيه تلك الجملة، كنتُ قد علمتُ توًّا أنّ أموري في المدرسة لا تجري على قدمٍ وساق. وكان الأمر مستغربًا. فلطالما كنت شاطرة منذ الصفّ الأوّل الابتدائيّ، ولم يتردَّ وضعي إلا في الشهرين الأخيرين. لكنّ والديَّ كانا يعوِّلان كثيرًا على نجاحي المدرسيّ، لاسيّما والدتي، إذ استنفرت حالما رأت نُذُرَ علاماتي السيّئة.

«ما الذي يحدث؟».

«لا أدري».

«عليكِ أن تدرسي».

«إنّني أدرس».

«فماذا إذن؟»

«بعض الأشياء أتذكّرها جيّدًا، وبعضها لا».

«ادرسي حتّى تتذكّري كلّ شيء».

وكنت أدرس حتّى الحدود القصوى، غير أنّ النتائج ما انفكّت تخيّب الآمال. عصرَ ذلك اليوم خصوصًا، كانت والدتي قد ذهبت للتحدّث مع الأساتذة وعادت ملؤها أسىً. لم توبّخني، والدي لم يكونا يوبّخانني أبدًا. إنّما اقتصرت على القول: «أكثر المعلّمين استياءً هي معلّمة الرياضيّات، لكنّها أكّدت أنّكِ بالإرادة القويّة ستحقّقين النجاح». ثمّ انصرفت إلى المطبخ لتحضير العشاء، وفي الأثناء عاد والدي. ومن غرفتي سمعتُها تلخّص عليه شكاوى المعلّمين، وفهمتُ أنّها تشير إلى التغيّرات التي ترافق بداية مراهقتي لتبرِّر وضعي. لكنّه قاطعها بإحدى تلك النبرات التي لا يستخدمها معي إطلاقًا، وسمح لنفسه باللجوء إلى العامّيّة التي كانت ممنوعة في بيتنا منعًا باتًّا، فتفوّه بما لم يكن يودّ التفوّه به بالتأكيد.

«لا شأن للمراهقة: وجهها يصبح مثل وجه فيتّوريا».

لو كان يعلم بأنّي أسمعه، فأنا على يقينٍ من أنّه ما كان ليتكلّم بذلك الأسلوب البعيد تمامًا عن البهجة الرقيقة القائمة بيننا. كان كلاهما يجزم أنّ باب غرفتي مغلقٌ، كنت أغلقه دائمًا، ولم ينتبها أنّ واحدًا منهما تركه مفتوحًا. وهكذا في عمر الثانية عشر عامًا، علمتُ من صوت والدي، المكبوت لشدّة ما أراد إبقاءه خفيضًا، أنّني أصبح مثل شقيقته، المرأة التي – بحسب رأيه الذي سمعته منه منذ أن تشكّلت ذاكرتي – يبلغ فيها الوفاقُ بين القبح والحقارة حدودَ الكمال.

لعلَّ أحدًا يعارضني هنا: ربّما أنتِ تبالغين، فوالدكِ لم يقل حرفيًّا: جوفانّا قبيحة. هذا صحيح، لم يكن من طبيعته أن يتلفظّ بكلمات قاسية إلى هذه الدرجة. لكنّني كنتُ في فترةٍ أشعر فيها بهشاشة كبيرة. فقد جاءني الحيض منذ عام تقريبًا، وصار نهداي مرئيّين إلى حدٍّ يشعرني بالحياء، وكنت أخشى أن تنبعث منّي روائح كريهة، فواظبتُ على الاستحمام باستمرار، وكنت أخلد للنوم بلا رغبة وأستيقظ بهمّةٍ فاترة. فكان عزائي الوحيد في تلك الفترة، وثقتي الوحيدة، في أنّه كان يعشق كلّ أشيائي بشكلٍ مطلق. لذا، فإنّ تشبيهه لي بالعمّة فيتّوريا، كان أسوأ عليَّ من قوله فرَضًا: جوفانّا كانت جميلة في الماضي، أمّا الآن أصبحت قبيحة. لأنّ اسم فيتّوريا كان في بيتي شبيهًا باسم كائنٍ شنيعٍ يوسِّخ ويُعدي أيَّ أحدٍ يمسّه. لم أكن أعرف عنها سوى القليل أو لا شيء، وما رأيتها إلّا نادرًا لكنّني – وهذا هو المهمّ – لم أكن أذكر من تلك المناسبات سوى الخوف والنفور. ليس الخوف والنفور اللذان قد تسبّبهما لي بلحمها وعظمها، لم يكن لديّ أيّ ذكرى عنها. إنّما كنت أفزع من الخوف والنفور اللذين يساوران أبي وأمّي. فلطالما تحدّث والدي عن شقيقته بأسلوبٍ غامض، كما لو أنّها تحضِّر طقوسًا مخزية تلطِّخُ سمعتها وسمعة أيّ شخصٍ يتردّد إليها. أمّا والدتي فلم تكن تأتي على ذكرها قطّ، لا بل كانت تتدخّل حينما يفضفض زوجُها وتحثّه على السكوت، كما لو أنّها تخشى أنّ فيتّوريا أينما كانت موجودةً بوسعها أن تسمعهما وأن تصعد فورًا إلى سان جاكومو دي كابري بخطوات سريعة على الرغم من طول الشارع ووعورته، متعمِّدةً أن تجرجر خلفها كلّ أمراض المستشفيات المجاورة لنا، وأن تحلِّق إلى بيتنا في الطابق السادس، وأن تهشِّم الأثاث بالشرر الأسود السكران والمتطاير من عينيها، وأن تصفعها إن هي اعترضتْ ولو بكلمة واحدة.

كنت أستشفّ طبعًا أنّ وراء هذا التوتّر لا بدّ من وجود قصّةٍ تأذّى فيها الجانبان، لكنّي لم أكن أعلم في تلك الفترة إلّا القليل عن المسائل العائليّة، كما أنّي لم أكن أعتبر تلك العمّة الفظيعة فردًا من الأسرة. كانت تمثِّل بعبعَ الطفولة، الشبحَ المتيبّس والممسوس، الطيفَ الأشعث المتربّص في زوايا البيوت عندما يهبط الظلام. هل من المعقول أن أكتشف أنّني أصبح مثلها هكذا بلا مقدّمات؟ أنا؟ أنا التي كنت حتّى تلك اللحظة أرى نفسي جميلةً، وأعتقد أنّني بفضل والدي سأبقى جميلةً إلى الأبد؟ أنا التي بفضل إقراره المتواصل كنتُ أظنّ أنّ شَعري رائع، أنا التي كنت أودّ أن أصبح محبوبةً مثلما يحبّني هو، ومثلما عوّدني هو أن أرى نفسي، أنا التي عانيتُ الأمّرَّين حينما شعرتُ أنّني سبّبتُ امتعاض كلٍّ من والديَّ، وأنّ ذاك الامتعاض تعاظم حتّى غبَّشَ عليَّ رؤية الأشياء؟

انتظرتُ كلمات والدتي، لكنّ ردّها لم يواسِني. فمع أنّها كانت تكره كلّ أقارب زوجها، وتكره أخت زوجها مثلما يكره المرء وزغةً تتسلّق على ساقه العارية، لم تصرخ عليه قائلة: هل جُننتَ، لا شيء مشتركًا ما بين ابنتي وشقيقتك. إنّما اقتصرت على تنهيدة قصيرة جدًّا: كلا، لا تقل ذلك! فما كان منّي وأنا هناك إلّا أن هُرِعت لإغلاق باب غرفتي لئلا أسمع مزيدًا. ثمّ بكيتُ في صمتٍ وما كففتُ إلّا حين عاد والدي ليعلن – بصوته الطيّب هذه المرّة – أنّ العشاء جاهز.

انضممتُ إليهما في المطبخ بعينين جافّتين، وتوجَّبَ عليَّ أن أحملق في الطبق وأحتمل مجموعة النصائح المفيدة لتحسين أدائي المدرسيّ. بعد ذلك عدت إلى غرفتي لأتظاهر بأنّني أدرس، بينما كانا يسترخيان قبالة التلفاز. كنت أشعر بألمٍ لا يتوقّف ولا ينضب حتّى. لماذا تلفَّظَ والدي بتلك الجملة، لماذا لم تعارضه والدتي بقوّة؟ هل كان مردُّ ذلك من استيائهما من علاماتي المتدنّية أم إنّه هاجسٌ لا صلة له بالمدرسة، ومَن يدري منذ متى يراودهما؟ وماذا عنه هو تحديدًا، هل نطق تلك الكلمات الذميمة بسبب امتعاضٍ مؤقّتٍ سبّبتُه له، أم إنّه بنظرته الثاقبة وشخصه الذي يرى ويعرف كلّ شيء، توصَّلَ منذ مدّة إلى تحديد أمارات العطل الذي سأعاني منه في المستقبل، والعلّة التي كانت تتقدّم وتثير مخاوفه والتي كان هو نفسه عاجزًا عن التصرُّف حيالها؟ رافقني الإحباط طوال الليل. وفي الصباح أقنعتُ نفسي بأنّني إن نويتُ النجاة حقًّا فلا بدّ لي من الذهاب لأرى كيف يبدو وجه العمّة فيتّوريا في الواقع.

شارك