أيمن الشوفي
تعاقبت فصول الخيبة والرداءة على مناخ علاقة السوريين باللبنانيين منذ مطلع العام 1976، فالجيش الذي أرسله حافظ الأسد لالتقاط اللبنانيين الموارنة قبل سقوطهم السياسي والعسكري، صار مع الوقت قوّةً عسكرية تعيد تكوين الحدود والأوزان بين أقطاب الحرب الأهلية اللبنانية، وتعيد ترتيب تحالفاتها، وتغييرها كلما اقتضت الضرورة وتبدّلت معها مقتضيات الحاجة. صار ذاك الجيش جيش احتلال عقب اتفاق الطائف عام 1989، وربما قبله أيضاً، وظلّ هكذا حتى خرج مرغماً ومحرجاً من هناك بقرار أممي، إثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري عام 2005.
كانت 30 عاماً من الوصاية السورية على حياة اللبنانيين كفيلةً بنهب مقتنيات متواضعة من الذاكرة الجميلة التي أثثتها بعناية المشتركاتُ الممكنة بين شعبين متجاورين، صارا كذلك عقب اقتسامهما الإرث السياسي الذي تركه لهما الانتداب الفرنسي على عجالة قبل مغادرته بلاد الشام في أربعينيات القرن الماضي، وظلّ ميناء بيروت الرئة الوحيدة التي يتنفس من خلالها الاقتصاد السوري هواء البحر المتوسط حتى مطلع خمسينيات القرن الماضي حين وجد رئيس الحكومة السورية آنذاك، خالد العظم، أنّ إنشاء مرفأ اللاذقية بات ضرورة اقتصادية ملحة يُمليها فكّ الارتباط الجمركي مع لبنان، بالرغم من الكلفة المرتفعة للمشروع، والمقدّرة حينها بنحو 25 مليون ليرة. لكن العلاقات السياسية بين سورية ولبنان لم تستشعر حميميّة ثابتة ومتماسكة، بل كانت تهتز وتتذبذب على وقع تبدّل القوى السياسية الحاكمة للبلدين منذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949، والذي تزامن مع رئاسة رياض الصلح الحكومة اللبنانية وقتذاك، حيث لم تكن الميول السياسية للرجلين لتجتمع على أي مشتركات، إلى درجة أن المعابر الحدودية كادت أن تُغلق بين البلدين، وصولاً إلى تباين الاستقطاب الذي استجرّته الوحدة بين سورية ومصر عام 1958 في الداخل اللبناني بين تيار رئيس الوزراء اللبناني رشيد كرامي المتحمّس للوحدة في وقتها وتيار رئيس الجهورية اللبناني الماروني كميل شمعون المعادي لتلك الوحدة، وكادت حربٌ أهليةٌ أن تولد في لبنان حينها، ولعل الولاءات المتباينة للقوى السياسية اللبنانية اعتباراً من النصف الثاني من القرن الماضي تجرّأت وحدّدت على نحو عميق الشكل العام لعلاقة اللبنانيين بالسوريين، والذين صادر منهم حزب البعث، ومن ثمّ زعيمه اللاحق حافظ الأسد، كامل الحياة السياسية منذ 1963، حيث المجتمع اللبناني المتنوع سياسياً، وإنْ بتركيبة طائفية معقّدة للغاية، لكنه المجتمع المنفتح ثقافياً واقتصادياً بفعل إرث الرئاسة المارونية للجمهورية. وإلى جواره، يقبع المجتمع السوري الذي صار مدجناً وكأنه طبعة ورقية كالحة أصدرها حزب البعث مرّة واحدة فقط، فهو مجتمعٌ منغلق، خائف، تراقبه الأجهزة الأمنية عن كثب، ويبحث عن قوته اليومية فحسب، كما جاء في توصيات الديكتاتور الأب لتحصين حكمه بعد 20 انقلاباً على الجمهورية الأولى.
وبهذا، صار لبنان السوق الحرّة التي يبتاع منها السوريون البضائع الأجنبية التي حرّمها عليهم حكم حافظ الأسد، أو يقصدون صحافتها اليومية ودور نشرها ومقاهي شارع الحمرا في عاصمتها هرباً من أحكام الدولة البوليسية التي استولت على الفضاء الاجتماعي في بلدهم. وتوالت الزيجات بين الأسر الكبيرة في البلدين، فلم تقطع تباينات السياسة في حكم البلدين عُرى تلك العلاقات، أو تلغي تكوينها واستمراريتها. وكان بإمكان محمد الماغوط أن يتغزّل بلبنان في قصيدة “جنازة النسر” الصادرة ضمن مجموعته الشهيرة “حزن في ضوء القمر” وفيها يقول: “ضمّني بقوة يا لبنان/ أحبك أكثر من التبغ والحدائق”. وتلك نظرة سادت لدى أدباء وصحافيين وشعراء سوريين كثيرين أبهرهم البلد الصغير الذي يصلون إليه بسيّارة أجرة صفراء، تنطلق من شارع بيروت المحاذي لوكالة الأنباء السورية (سانا)، ويدخلونه بالهويّة الشخصية فقط، وكأنهم لم يعبروا حدوداً دولية على الإطلاق. وبهذا استقرت بيروت في وعي الأنتلجنسيا السوريّة الهاربة من ديكتاتورية حافظ الأسد إلى الرئة القريبة، حيث كان بإمكانهم هناك التباهي بكميّة الأوكسجين الهائلة التي يمكن تناولها صباحاً مع فنجان قهوتهم، أو التي كان يرميها إليهم كلّ مساء كورنيشُ المنارة الملاصق لبحر بيروت. وبعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية صارت تلك الدولة مفتوحةً على مصراعيها أمام العمالة السورية المتعطّشة لكسب قوتها بالعملة الصعبة، فظهر اقتصادٌ كاملٌ قوامه تلك العمالة على جانبي الحدود، في حين كانت سورية سوقاً كبيراً يستهلك خلسةً وبشراهةٍ عالية معظم أصناف الأدب والفنّ اللبنانيين، وكانت أيضاً سوقاً رخيصةً يقصدها اللبنانيون لشراء ما ينتجه اقتصاد “البعث” المغلق للدولة المخيفة لهم دوماً، والتي تجاورهم وكأنها قدرٌ يصعب الانفكاك منه.
وجد سوريون كثيرون في لبنان، بعد عام 2011، ملاذاً لهم، وإنْ بصورة مؤقتة كي يقيهم آنيّاً من عسف القمع وسلطته الدموية، تلك التي خاطب بها بشّار الأسد معارضيه منذ البداية، وبعضهم حمل نشاطه الاقتصادي وقرّر الاستقرار في البلد المجاور لهم. ومحظوظون من استطاعوا مغادرته إلى بلدان اللجوء الأوروبي. وبقي الوضع ضمن هذه الاشتراطات، إلى أن باتت إجراءات الدخول إلى لبنان تخضع لقيود ومعايير عديدة. وأخيرا، استعرت حملة غير مسبوقة، هدفها إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، وقد بدأت مطلع الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) ضمن سياق حملة أمنية كبيرة نفّذتها قوى الأمن الداخلي اللبنانية على كثير من مساكن اللاجئين السوريين، تلك الحملة تزيّنت بحملة إعلامية موازية نشطت تحت شعارٍ مربكٍ وغريب التكوين: “الحملة الوطنية لتحرير لبنان من الاحتلال الديموغرافي السوري”. وذاك توصيف غير منهجيّ بطبيعة الحال، يحاول أن يلقي بتبعات الخيبة الاقتصادية اللبنانية، ومعها انهيار اقتصادهم الريعيّ الضعيف أصلاً، على اللاجئين السوريين، بالتزامن مع استمرار عرض مسرحية التطبيع العربي مع نظام بشّار الأسد. وربما، ووفق هذا المعطى فقط، يمكن أن نفهم الدوافع التي قادت رئيس الاتحاد العام لنقابات عمّال لبنان، مروان الخولي، إلى التصريح إن “الاحتلال الديموغرافي والغزو السوري للبنان يمثلان تهديداً حقيقياً للهوية اللبنانية وللأمن والسيادة الوطنية. ومن حقنا كشعب حماية حقوقنا في الدفاع عن هويتنا وحقوقنا المشروعة في أي إطار سلمي ديمقراطي”.
ليس سهلاً أو مقبولاً استساغة مثل هذا الكلام، أو استساغة إعادة اللاجئين السوريين المقيمين في لبنان إلى بلدهم بلا ضماناتٍ دوليةٍ مناسبة، وبلا ضماناتٍ حقيقية لا تستطيع تقديمها حالياً دولة النظام العاجزة والمفلسة في آن، سيكون ذلك بمثابة طرد تعسفيّ لهم، وإلى مصير ليس فيه سوى السجون والمعتقلات السوريّة الآثمة، والمهيّأة أصلاً لتكون قبوراً جماعيّة للسوريين الذين لا يرغب النظام وجودهم إلا أمواتاً. ولنتذكّر ما وثّقته منظمة العفو الدولية في تقرير سابق لها صادر في العام 2021 عن مقتل أكثر من 60 لاجئاً سورياً على أيدي أجهزة الأمن السورية عند عودتهم إلى بلادهم، بينهم أطفال، وأبسط ما يقال إزاء هذا الخوف وشبحه المقيم إن عذوبة الخمسينيات قد ترنّحت، وغادرت حياة السوريين واللبنانيين إلى غير رجعة، ولم يعد بمقدور أحدٍ أن يجد مكاناً هنا يحبّه أكثر من التبغ والحدائق!
المصدر: العربي الجديد