جسر: متابعات:
يستنتج الكاتب السياسي المهم ريتشارد هيرتسينغر، في مجموعة “دي فيلت” الإعلامية الألمانية، في مقالة له الشهر الماضي أن الأسد يريد استعادة أكثر من مجرد سلطته الكاملة، وأن نظامه يرى في حرب الإبادة ضد سكان سوريا شكلاً من “التطهير” أو التنظيف الواسع النطاق للمجتمع، والطريق المثالي لتحقيق هدف كبير، هو التشابه بين الباقين من السكان. وفقًا للأسد، فقد “فقدت سوريا أفضل أبنائها” في الحرب، وتم تدمير البنية التحتية للبلاد تمامًا، ولكن “حققنا مجتمعًا أكثر صحة وتناغمًا، بمعنى حقيقي وعميق من التجانس”.
يستخلص الكاتب أنه إذن مجرد بناء على الرمال، ذلك التقدير الذي يقول إن الأسد سيستقبل بعد نهاية الحرب، ملايين من اللاجئين غادروا البلاد، أو يعيد الملايين من المشردين داخلياً إلى منازلهم. يستطيع الآن أصدقاؤنا الذي كانوا الأقرب بيننا، إلى فهم طبيعة النظام لأسبابهم الاجتماعية والتاريخية، أن يقولوا: ألم نقل لكم؟ وفي الواقع لم نستوعب أسباب تحفظهم، حين أخذنا نطرح ما هو أكثر راديكالية أو إقداماً أو أعلى سقفاً في صراعنا مع النظام. كانوا يقصدون غالباً، تلميحاً أو تصريحاً، أنه سوف يقلب الدنيا رأساً على عقب، ويملأ الدنيا دماء ودماراً، ولن يستسلم، أو يقبل بأي تسوية تنازعه السلطة، أو حلٍّ تاريخي على طريقة بلدان العالم وأهله. في الحقيقة، تبقى هذه المسألة واحدة من معضلات النظام وأسراره، التي لم يعبّر عنها إلا في تلك التصريحات العابرة، من النمط الذي يمكن لأي عاقل أن يمرّ عليها ولا يتوقف.
من تلك الحقائق مثلاً، ما ورد أعلاه في حديث الأسد، الذي لم يكن له مثيل إلا تلك الجمله الرهيبة التي ملأت بخط بدائي ووحشي جدرانَ حربِ النظام على الشعب منذ أيامها الأولى: “الأسد.. أو نحرق البلد”. وقد فعل ذلك، مخلِّفاً ربعَ سوريا لاجئاً، وأكثر من ربعها الآخر نازحاً متشرداً داخل البلاد، وما يقارب المليون شهيد أو قتيل أو مفقود، وحتماً ضعفَهم من المُعطّلين بعاهات شتّى.. مع دمار لم يسبق له مثيل أو يكاد، إلا في الحرب العالمية الثانية. لا أذكر من القائل، جميل الحسن مدير المخابرات الجوية، أم غيره، بأن هنالك قوائم تحتوي على أسماء ثلاثة ملايين شخص مطلوب للاعتقال في سوريا. ولكنني أذكر جيداً في المقابل ضابطَ الحرس الجمهوري عصام زهر الدين، وهو ينصح الذين هربوا من سوريا ألا يرجعوا، لأنهم – هم أبناء النظام- لن يسامحوا ولن ينسوا. وكانت تلك الأقوال العابرة التي قد يركنها أي باحث رزين جانباً، بداية للحديث عن التهجير القسري، والتطهير الفئوي وغير الفئوي، الذي يستهدف تقطيع جغرافيا وديموغرافيا البلد، بحيث لا تمرّ أي حلول سياسية تنتقل به إلى حالة أخرى تراعي الشرائع والأعراف الدولية الحديثة، وتعترف بأن السلطة للشعب وحده، تتداولها قوى سياسية متعددة ومختلفة، تطرح نفسها أمام مواطنين متساوين، من خلال انتخابات حسب المواصفات الحديثة وفي بيئة آمنة. كل ذلك دونه خرق القتاد، وخراب لا يتوقف عند حدود ولا نواظم.
كانت النكتة السرية قبل خطابات بشار الأسد هي الدعاء ألّا يرتجل ويخرج عن النص المكتوب ليمارس التلقين على طرائق التعليم القديمة. وليٌذكّر بالمثل العربي القديم المنقرض الذي يقول عن شخص إنه “أنوق- أكثر حمقاً وخرقاً- من مؤدب الصبيان”، ولا أذكر هذا إلا لأضع كلامه بين تلك الأقوال العفوية التي أستند إليها في كلامي هنا.
فقد كان مدهشاً ومفيداً لإيقاظ الحالمين منا، أن يسمع من بشار الأسد مفهومه حول “سوريا المفيدة”، في أواسط عام 2015. يومَ كانت المناطق التي بقيت في يد النظام لا تزيد ربما عن ربع مساحة البلاد، أو أن يقول أيضاً إن “سوريا ليست لمن يسكن فيها أو من يحمل الجنسية السورية، بل لمن يدافع عنها”، أو أن يذكر ما قاله بشار في 2017 بلغة ربما كان يحسبها مشفّرة أو ملغزة، “خسرنا خيرة شبابنا والبنية التحتية، لكننا ربحنا مجتمعاِ أكثر تجانساً”، ليقول واحدنا ما ورد أعلاه في اقتباس هيرتسينغر، وأحسب أنه هذا الاستشهاد الأخير قد خرج عن النص المكتوب المحسوب، فأبدع وابتكر من عندياته كما كان دائماً يفعل فيزيد من فضائح النظام. في ذلك، ينبغي للعالم أن يرى، وينبغي لنا أن نساعده على أن يرى، أن نظام الأسد نسخة متفوقة من أسوأ ما عرفه الكوكب من الطغاة، الذين يشكلون خطراً على شعبهم، وعلى النظام العالمي، الذي يحمل أساساً شيئاً كثيراً من الخلل في هذه الأيام. وهو لا يستدعي من ذاكرة العصر الحديث أشخاصاً من مستوى أقلّ في الإيحاءات والمعاني من ستالين وبول بوت وهتلر.
عن الأخير خصوصاً، ورغم ميلنا السوري إلى التواضع، ينتصب مفهوم الحل النهائي أمام أعيننا المجهدة. فكما هو معروف، كان ذلك ترميزاً لخطة التصفية العنصرية ليهود ألمانيا النازية وأوروبا، لدفع البقية إلى مغادرة القارة والذهاب إلى حيث “ألقت رحلها أم قشعم”، التي صدف أن كانت من أهل فلسطين، جنوب سوريا. وليس هنالك في أنطولوجيا الأسد ونظامه وأبيه، ولا في جعبته، أقل من ذلك.
يستغرب كثير من السوريين لا مبالاة العالم، الذي يحسب بعضه أنهم يتوسّلون النجدة والعون والإمداد وحسب، في حين أنهم يرون في ذلك أولاً خروجاً عن أبسط قواعد بناء هذا الكوكب، من حيث هو مجتمع دولي له قانون دولي وقانون دولي إنساني وقانون دولي لحقوق الإنسان. يرى بعض السوريين على استحياءٍ – في موقفٍ حازمٍ يتخذه المجتمع الدولي مصلحةً لتوازن العالم ومستقبله، حتى لا يدخل في دوامة أكبر مما يعيشه الآن ويعاني منه.
وفي ما يخصنا، اكتشف كثيرون، ومنهم أنا، ألّا شيءَ مما اعتدناه ينفع مع هذا النظام، وأن “العودة إلى الوطن” تستدعي طرائق جديدة ومختلفة كلياً في الفكر والاستراتيجيا والعمل.
٭كاتب ومعارض سوري
القدس العربي 3 أيلول/سبتمبر 2019