يتأمل أبو خالد حارته في داريا، من خلال فتحات صغيرة في الجداران، أحدثها المقاتلون في حقبة الحصار والمعارك، واسموها “الطلاقيات”، حيث لاشئ سوى الجدران المتصدعة، والركام الذي خلفته الهجمات الشرسة لنظام الأسد على المدينة، والدفاع المستميت لسكانها لأربع سنوات.
وكان خالد قد عاد لتفقد البلدة التي نزح عنها في بداية الصراع العسكري، بعد أن أعلن النظام السوري نهاية آب الماضي، فتح داريا والمنطقة المحيطة بها بعد عامين من إخلائها بشكل كامل، بعد الاتفاق الشهير الذي تم بموجبه ترحيل معظم سكانها، لكنه وجد منزله الذي قضى سنوات شبابه في تجميع ثمنه عبارة عن جداران عارية، وقد انتزع منه حتى بلاط الأرضيات واسلاك الكهرباء المخفية داخل الجدران، لكنه اعتبر مع ذلك أن حالة منزله جيدة، مقارنة بالمنازل الأخرى، فجدرانه مازالت قائمة، وبها صدوع قليلة، ويمكن اكساءها مجدداً، وبالتالي، اتخذ قراره بترميمه والعودة إليه، للتخلص من عبء أجور المنازل، التي ارهقت كاهله لسنوات طويلة، ومازالت بارتفاع.
وبحسب خالد، الذي تجول في المنطقة المحيطة بمنزله، فإن أحياء “شريدي، النكاشات، الشاميات، الكورنيش، دوار الزيتونة” التي بقيت تحت سيطرة النظام اثناء الصراع، أو مابات يعرف اليوم بالمنطقة “أ” قد تم نهبها وتعفيشها بالكامل، لكن وضعها الهيكلي مقبول، إذا لا يخشى وقوعها في أي لحظة بسبب الصدوع البنيوية التي أصيبت بها المنازل في قلب داريا، بسبب البراميل المتفجرة والقنابل الارتجاجية، كما أن البنية الأساسية للخدمات في هذه الاحياء لازالت قائمة، ويمكن لاصحاب البيوت في هذه الاحياء ترميمها والعودودة إليها، لكن كلفة المواد الأولية باهظة بطبيعة الحال. أما بقية أحياء المدينة، والتي بات تعرف تنظيمياً بالمنطقة “ب”، وهي التي كانت تخضع لسيطرة قوات المعارضة، فقد تعرضت للتدمير الممنهج بنسبة لا تقل عن 90%، عدا عن أنها ما تزال مغلقة حتى اليوم، وتخضع لسلطة “المخابرات الجوية” أمنياً، وللفرقة “الفرقة الرابعة وميليشيا كتائب البعث والميليشيات الإيرانية طائفية” عسكرياً وميدانياً.
وكان محافظ ريف دمشق “علاء منير إبراهيم” قد أعلن عن عودة ألفين من أهالي داريا إلى المدينة خلال شهر كانون الأول الماضي، موضحا نية النظام إعادة 19 ألفاً من المهجرين في دمشق وضواحيها في الفترة المقبلة، وتلاه تصريح نشر اليوم لرئيس مجلس داريا مروان عبيد بوصول ثلاث آلاف عائلة مهجرة إلى داريا، لكن مصادر أهلية أوضحت لجسر أن الأرقام التي يعلنها النظام عن أعداد العائلات التي عادت إلى مدينة داريا واستقرت فيها غير صحيح، وهي لا تتجاوز العشرات في أفضل الأحوال، وأن العودة تقوم دونها مصاعب عديدة، اقلها ابراز الأوراق ثبوتية التي ضاع معظمها اثناء الفرار، والموافقات التي يجب الحصول عليها من الأمن الوطني.
أما “أبو محمد” الذي يقع منزله على تخوم داريا، فقد قام بترميمه بالفعل وعاد إليه، هربا من جحيم البيوت المستأجرة، يقول “على الرغم من ارتفاع تكاليف الترميم إلا أنها تبقى أقل كلفة من دفع الإيجار الذي تزداد قيمته يوماً بعد يوم نظراً لكثرة الطلب على المنازل في دمشق”. فاتخذ قرار العودة بعد أن تم تأمين الخدمات الأساسية بشكل نسبي في المنطقة، لكن ذلك لا يتوفر داخل داريا، ولن يكون متاحاً في المدى المنظور على ما يعتقد.
وأوضح “أبو محمد” من خلال مراقبته اليومية للعائدين، إن غالبية السكان يدخلون لتفقد منازلهم، لكنهم يغادرون فوراً ما أن يروا الحال التي وصلت إليها، لكن عدداً محدوداً جداً بدؤوا بصيانة منازلهم. أما في المنطقة الشرقية، حيث يقطن، فقد بدأت نسبة أكبر من العائلات بالعودة لمنازلها بعد فتح النظام لطريق الدحاديل واتستراد درعا، وتأمين الخدمات الأساسية بشكل نسبي، وينوه إلى أنه لايمكن لأي شخص من السكان إنشاء أو ترميم أي منزل في المنطقة بدون موافقة واستصدار رخصة من البلدية مهما كان حجم العمل صغيراً.
وكان المكتب التنفيذي لمدينة داريا قد أعلن عن قيام البلدية بإزالة أي بناء تقوم به “المخالفات” دون استخراج رخصة وذلك بموجب المرسوم 40 لعام 2012.
وفي سياق متصل فرضت حكومة النظام على الراغبين بدخول المدينة بطاقة للدخول يتم التقديم عليها عبر مراجعة بلدية “داريا”، الواقعة في حي “الدحاديل” وتقديم استمارة تحوي كافة البيانات التفصيلية من رقم العقار وعدد أفراد الأسرة وأعمارهم ومن ثم الانتظار حتى تعلن قوائم مستحقيها عبر صفحة البلدية في موقع التواصل الاجتماعي، بحسب ما أوضح مصدر في محافظة ريف دمشق رفض الكشف عن اسمه.
وبحسب المصدر ذاته فإن العائلات قد قامت بتسجيل بياناتها مرتين أملاً في الحصول على بطاقة الدخول إلا أنه لا توجد تسهيلات جدية لعودة السكان حالياً، ولم يتم توزيع سوى ألفي بطاقة على المواطنين حتى الآن. مضيفاً أن ما ينشره النظام حول عودة السكان ما هو إلا دعاية لكسب دعم المنظمات والجهات الدولية.
وتستمر معاناة العائدين حتى بعد الحصول على البطاقة الأمنية، فقد قال “أ. ح” وهو من أبناء المنطقة لجسر “إن أبرز العوائق التي يعاني منها الأهالي خلال ترميم منازلهم هو إدخال المواد الأولية إلى المدينة، فالعناصر الأمنية والحواجز التي مازالت منتشرة، تطلب مبالغ طائلة للسماح بإدخال مواد البناء، واحياناً قد يتم منع دخول هذه المواد حتى مع الرشى، دون سبب واضح”.
يذكر أن مدينة داريا، التي بلغ عدد سكانها سنة وفق إحصاء سنة ٢٠٠٧ نحو ٢٥٥ ألفاً، قد شهدت معارك ضارية بين قوات المعارضة المتمثلة بالجيش الحر، الذي حوصر مع المدنيين المتبقين في المدينة، وقوات الأسد لأربع سنوات، قبل خروج الآلاف من المدينة إلى الشمال السوري في شهر آب من عام ٢٠١٦ بعد اتفاق مع النظام يقضي بإفراغ المدينة من سكانها برعاية الأمم المتحدة.