أمام مركز لقوات النظام في قرية البوحمد شرق الرقة، يَشرُدُ أحمد، أحد الناجين من الطوق المفاجئ الذي ضربه تنظيم “الدولة الإسلامية” في بادية الرقة على جامعي الكمأ، محاولاً تذكر ما حصل. ينصت أحمد إلى أهالي المخطوفين المصدومين، ويقول ذاهلاً: “ابن الوحش اعدموه أمامي، هو وابن الحبل وغزال الحبيتر”. وما أن يلفظ اسم غزال، حتى تصرخ امرأة خمسينية: “يا وليدي..”.
الحادثة ليست الأولى من نوعها، وإن كانت الأضخم. والظاهرة لا تقتصر على البادية السورية، بل تمتد شرقاً إلى بادية الانبار العراقية. أحمد كان قد نجح بالفرار في 3 آذار/مارس، في حين اختطف التنظيم المتطرف نحو 60 شاباً من بلدات معدان وزور شمر والبوحمد، كانوا يجمعون الكمأ، وأعدم عشرة منهم في المكان، ربما بسبب العثور معهم على وثائق تشير لانتسابهم لمليشيا “الدفاع الوطني” التابعة للنظام. “داعش” ترك النساء، واستطاعت قلة الإفلات من قبضته والفرار. من بقي على قيد الحياة، فقد نقله التنظيم أسيراً إلى مكان مجهول.
قبل ذلك اختطف التنظيم مجموعات أخرى من جامعي الكمأ، زاد عددهم خلال شباط ومطلع آذار، عن 100 شخص، من أبناء الرقة وديرالزور، بينهم 20 عنصراً من قوات النظام ومليشيا “الدفاع الوطني” في فيضة ابن موينع جنوبي مدينة الميادين. وما يزال مصير المدنيين منهم مجهولاً حتى اللحظة.
من أين يأتي الدواعش؟
بعيداً عن المحاصرين في الباغوز شرقي الفرات، تقول مصادر عشائرية، على معرفة وافية ببوادي الرقة وديرالزور لـ”المدن”، إن “داعش” ومنذ العام 2017، اتخذ من مناطق صحراوية في عمق الشامية “أوكاراً” له؛ وأبرزها جبل البشري في أقصى جنوب شرقي الرقة، ومنطقة الدفينة جنوب غربي ديرالزور، والمنطقة الصحراوية الممتدة بين مدينتي تدمر والسخنة غرباً ومنطقة 55 جنوباً ومحطة T2 شرقاً، وفيضة ابن موينع شمالاً.
وتتصف هذه المناطق بوجود تضاريس تسمح بالتخفي فيها مثل الجبال والاودية والمغاور الطبيعية الكلسية العميقة جداً. في جبل البشري منجم للإسفلت يمتد لمسافات طويلة يمكن استخدامه كمستودع أو معسكر تدريب. هذا عدا عن المساحة الشاسعة للمنطقة، والعواصف الغبارية اليومية التي تحجب الرؤية الجوية وتزيل آثار التحرك بسرعة.
ويتحرك التنظيم ليلاً، بحرية تامة، وتتنقل مجموعاته ودورياته رافعة راياته، وتنقل الذخائر والمؤن بعربات دفع رباعي من طرز حديثة استولى عليها التنظيم أو اشتراها ما بين العامين 2014-2017. في النهار، يتنقل “الدواعش” عند الضرورة، منتحلين صفة عناصر النظام، أو مدنيين من سكان البادية.
يتمتع عناصر التنظيم في تلك الجيوب الصحرواية بالقدرة والخبرة للتكيف مع ظروف الصحراء القاسية. والنواة الصلبة بينهم هي ما كان يدعى “قطاع البادية”، ومعظم منتسبيها من سكان المنطقة الصحراوية على جانبي الحدود السورية-العراقية. ويضاف إليهم بشكل يومي عناصر هاربة من مناطق أخرى، مثل المجموعات التي انسحبت من الحدود السورية-اللبنانية، ومن محيط دمشق، بعد اتفاقيات الإخلاء التي عقدت مع مليشيا “حزب الله” والجانب الروسي خلال الشهور الأخيرة من العام 2017.
ويُقدّر عدد مقاتلي التنظيم في الجيوب الصحراوية شرقي سوريا، بنحو 1000 عنصر، اضافة إلى أكثر من 800 ينتشرون في بادية السويداء الشرقية.
وترتفع أعداد مقاتلي التنظيم في الصحراء، حالياً بشكل كبير، بعد هزيمة التنظيم شرقي الفرات على يد “التحالف الدولي” و”قوات سوريا الديموقراطية”. وتلتحق بهم اعداد أخرى من الوافدين من العراق ومناطق التنظيم السابقة في سوريا. وتشكل المنطقة فرصة للتنظيم يلتقط فيها انفاسه، متطلعاً لمرحلة جديدة.
ملاذ البغدادي المفضل
مصادر محلية مطلعة قالت لـ”المدن”، إن زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية” أبو بكر البغدادي، قد أمضى الفترة بين العاميين 2014-2017، متنقلاً بشكل دوري بين مناطق سيطرة التنظيم المختلفة والصحارى السورية والعراقية، التي يوليها اهتماماً خاصاً نظراً لخبرات التنظيم السابقة فيها. إذ أعاد “داعش” تنظيم وتشكيل نفسه في العراق، في الجيوب والمخابئ الصحراوية، وربما ايضاً أدرك قادته أنهم بصدد مرحلة صحراوية جديدة، فأعدوا لها مسبقاً، على التوازي مع خطة أمنية لحياة تنظيمية سرية تحت الأرض، أو ما بات يعرف اليوم بـ”الولايات الأمنية” للتنظيم.
وهو ما تؤكده المصادر الأمنية العراقية، التي قالت إن مكان تواجد البغدادي الرئيسي هو صحراء الأنبار مع مجموعات من قيادات التنظيم وعناصره، وأضافت أن “هدف التنظيم في المرحلة الحالية تجميع عناصره ومحاولة ادخالهم إلى المدن، للبدء بمرحلة عمل أمني يستهدف المناوئين له”.
قوات النظام حاولت القيام بعمليات عسكرية في باديتي الرقة وديرالزور، ضد جيوب التنظيم، لكنها باءت بالفشل. وعلى العكس من ذلك، أصبحت مواقع قوات النظام ومقراتها على ضفاف الفرات عرضة لهجمات متصاعدة لعناصر التنظيم، الذين ينطلقون من الاوكار الصحراوية على تخوم المناطق الحضرية الفراتية.
عزاوي، من أبناء ريف ديرالزور الغربي، قال لـ”المدن”، إن قوات النظام أمهلت المدنيين في بادية ديرالزور الغربية، ثلاثة أيام، لإخلاء المنطقة لتبدأ عملية تمشيط بحثاً عن عناصر “داعش” ومقراتهم. وأكد مشاهدته آليات عسكرية خاصة بالعمل في الصحراء، وكشف الألغام المتفجرات، تصل إلى “اللواء 137” في منطقة عياش غربي ديرالزور، استعداداً لهذه العملية. لكنه أشار إلى أن هذه القوات لا تعرف ماذا ينتظرها هناك، مؤكداً أن تحرشات التنظيم وعملياته، هي بغرض استدراج خصومه إلى عمق الصحراء. وختم تعليقه بالقول: “لن يجدوا سوى حتفهم في تلك الرمال!”.
أبو تراب: نحن عائدون
الجمعة، الأول من آذار، اختطف عناصر من التنظيم 5 أشخاص من بادية قرية عياش، أربعة منهم مدنيين والخامس منتسب لمليشيا “الدفاع الوطني” فقتلوه على الفور بسحق رأسه بين صخرتين. المجموعة نقلت الآخرين إلى مقر، في مغارة عميقة بمنطقة الدفينة، وبعد التحقيق معهم، انتقى القيادي الداعشي المعروف بوحشيته، أحد الموقوفين، وأطلق سراحه لنقل رسالة قصيرة لأهالي منطقته التي خضعت لسيطرة التنظيم لأربع سنوات خلت. الرسالة تقول ببساطة:” أبو تراب يقول لكم.. نحن عائدون، وسننتقم منكم جميعاً”.
المصدر: صحيفة المدن : ٦ آذار ٢٠١٩