قصفت قوات “التحالف الدولي” الذي تقوده الولايات المتحدة، فجر الثلاثاء، معابر تهريب النفط من مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” إلى مناطق سيطرة النظام في ديرالزور. وأعقب ذلك حملة برية في ساعات النهار، شنتها قوات خاصة أميركية، بحماية غير مباشرة من “قسد”، لتدمير البنى التحتية لعمليات التهريب مثل الناقلات النهرية وانابيب ضخ النفط عبر الفرات.
وتأتي هذه الخطوات على أثر الاحتجاجات التي اندلعت في المنطقة، مطالبة بتوزيع عادل للثروات النفطية ورفع يد “أكراد قنديل” عن القرار الأمني والسياسي والاقتصادي في ديرالزور بعد عملية تحريرها من “داعش”. وقد شارك أبناء الدير بكثافة بعملية تحريرها، بخلاف ارياف الحسكة والرقة وحلب. ولذا، فقد رفع المحتجون في الدير، الأعلام الاميركية، مطالبين القوات الأميركية بالتدخل لردع تسلط كوادر قنديل، “قبل فوات الآوان”.
الاميركيون يراقبون.. ويتدخلون
راقب الأميركيون الاحتجاجات عن كثب، وشوهد عناصر من قوات “التحالف” يصوّرون المظاهرات. وعلمت “المدن” أن قياديين أميركيين، وعناصر من استخباراتهم العاملة في المنطقة، قد تواصلوا بطرق خاصة مع نشطاء لمعرفة مطالبهم، ووعدوهم بتنفيذ الممكن منها، وعلى رأسها حل مشكلة التنازع على الموارد النفطية. وكانت شكوى المكون العربي واضحة بالأرقام، فاللتر الواحد من المازوت المستخرج من المنطقة والمكرر بطرق بدائية، يباع في ديرالزور بنحو 175 ليرة سورية، بينما يباع في المناطق ذات الكثافة الكردية التي يُستجّر إليها بنحو 70 ليرة فقط!
ويعزى ذلك إلى التمييز الممارس من القيادة الكردية بحق الأهالي من ناحية، وإلى عمليات تهريب وبيع النفط للنظام، والتي تديرها “قسد” وتجني منها مكاسب مالية وسياسية كبيرة على حساب المكون العربي. وتسبب ذلك بشح المشتقات النفطية وارتفاع ثمنها.
الاجراءات لم تتوقف عند منع التهريب، فقد أوعز الأميركيون بتسليم جزء من آبار النفط التي تسيطر عليها “قسد” إلى السكان المحليين لاستثمارها. وقد اطلعت “المدن” على مضمون أول عملية تسليم، والتي لم يعلن عنها بعد.
الاتفاق النفطي الأول
اتفقت قيادة “قسد”، ممثلة بقيادي كردي من إيران يدعى “أوغر”، وهو مسؤول حقول النفط بريف ديرالزور، مع مجموعة مستثمرين محليين على إدارة عملية الانتاج في عدد من آبار حقلي التنك والصيجان في بادية ديرالزور الشمالية الشرقية.
وتعكف مجموعة المستثمرين المحليين الآن على دراسة عملية الإنتاج وإدارته، بعدما اتخذوا مقراً لهم في حقل الصيجان لتشغيل ثلاثة آبار شرقي حقل التنك؛ آبار التروش وبير الملح وبير الجيدو.
وينص الاتفاق على اشراف المستثمرين المحليين على تشغيل آبار الملح والأحفاد والشفاف والتروش والبنزين، وفق الشروط التالية؛ تزويد صهاريج تابعة لـ”قسد” بما نسبته 70% من انتاج كل بئر منها، وثانيها عدم تهريب النفط إلى مناطق النظام عبر نهر الفرات، بل بيعه لمالكي الحراقات المحلية من أصحاب مصافي النفط البدائية والتي يملكها الأهالي لتلبية حاجتهم من المشتقات النفطية والمساهمة بخفض أسعارها. والشرط الثالث، هو عدم اقتناء وشراء مستثمري الآبار سلاحاً ثقيلاً بحجة حمايتها مستفيدين من مردودها المادي، وعدم تجنيد عناصر جدد تحت إمرتهم، من دون موافقة قيادة “قسد” في المنطقة.
ويُقدّرُ فنيون متخصصون، تواصلت “المدن” معهم، أن انتاج بئر الملح يمكن أن يبلغ نحو 100 برميل يومياً، وكان ينتج سابقاً أكثر من 2000 برميل، لكن غارات لـ”التحالف” أدت إلى تدمير جانب من منشآته، التي سيكون بالإمكان إصلاحها مع مرور الوقت. بينما قدر الفنيون انتاج بئر التروش حالياً بنحو 30 برميل يومياً، في حين ما زالت اعمال الإصلاح والصيانة مستمرة في آبار الأحفاد والشفاف والبانزين ومن المتوقع أن يفوق انتاج كل بئر من هذه الآبار نحو 40 برميل يومياً.
“غوردينه”
وقال أحد المستثمرين المحليين لـ”المدن”، إنه اجتمع مع القيادي الكردي الإيراني “أوغر”، قبل يومين، للتباحث بمسألة حماية فريق عمله المكون من 10 فنيين، والاتفاق على الاجراءات التي ستتخذها “قسد” لوقايتهم من هجمات محتملة لخلايا “داعش” المنتشرة في المنطقة. لكن اهتمام المستثمر، انصب بشكل أساسي على الحصول على ما يدعى “غوردينه طيران”، وهي وصف محلي يشير إلى تأمين الحماية من قصف طائرات “التحالف الدولي”، في حال حدوث هجوم واسع في المنطقة الصحراوية.
أبعد من النفط؟
يعي الاميركيون خطورة التناقض العرقي العربي-الكردي في منطقة شرق الفرات التي يسيطرون عليها اليوم. فالعرب يشكون من تهميشهم مجدداً، بعدما مرّت عليهم مدحلة “داعش” وسطوة أمرائها المجلوبين من كافة أصقاع الأرض لمدة 4 سنوات. وكان نظام الأسد قد سحقهم لنحو نصف قرن. وهم غير مستعدين بعد اليوم، للوقوع تحت سطوة متنفذ جديد، تحت شعارات واهية تنادي بالديموقراطية واخوة الشعوب، للتغطية على نهبهم واستعبادهم.
الأمر الأكثر خطورة بالنسبة للأميركيين الذين تتمركز كبرى قواعدهم في سوريا في منطقة عربية محضة، هي إمكانية لجوء السكان لدعم “داعش” على نحو انتقامي فيما لو تمّ تجاهل مطالبهم. وهذا الذي يعول عليه نظام الأسد، وطهران وموسكو، كوسيلة وحيدة لطرد الاميركيين من تلك المنطقة الاستراتيجية. وهناك شائعات تدور حالياً تقول بإن ضباطاً مع النظام يتفاوضون مع بقايا “تنظيم البغدادي” في البادية السورية غربي الفرات لعقد ما يشبه الهدنة بينهما، وترك مجال حيوي لتجمع وتحرك عناصر التنظيم في تلك المنطقة بشرط أن تتوجه فعاليتهم نحو الوجود الاميركي في الجزيرة السورية شمالاً، وقاعدة التنف جنوباً.
هذه المعضلة الأمنية التي تواجه المخطط الأميركي، لن يكون بالمستطاع حلها من دون شك، بتوزيع بعض العوائد النفطية، بل من خلال إقامة تحالف استراتيجي مع المجتمع المحلي، يقوم على منح السكان العرب القدرة على إدارة مناطقهم بشكل كامل، وعلى رأسها المسألة الأمنية والعسكرية. وهذا ما يصيب قادة “قسد” الأكراد بالجفلة، فاحتكار العمل العسكري والأمني، والصلة مع الاميركان على هذا المستوى، هي الورقة الوحيدة التي يتمتعون فيها بالامتياز والتفوق، والتفرد بها يبدو خطاً أحمر. وربما سيحتاج اقناعهم بالتنازل عنها، إلى ما هو أكثر من التظاهرات والأعمال الاحتجاجية المطلبية.
نقلا عن “المدن” ٨ ايار ٢٠١٩