محمد حجيري
من الصدف المفيدة والمعبّرة، وفيما أحاول أن أدلي بدلوي عن “جائزة قاسم سليماني للأدب”(*)، آخر صادِرات الثورة الإيرانية إلى لبنان، انتشر تحقيق نوعيّ في جريدة “الغارديان” حول مجزرة مروعة ارتكبها جيش الأسد العام 2013 في دمشق، إذ قام كل من أمجد يوسف ونجيب الحلبي، بإعدام 41 شخصاً عبر الإلقاء بهم في حفرة إعدّت مسبقاً لهذا الهدف في وسط أحد الشوارع “غير المأهولة” في حي التضامن، وبعد الانتهاء من إطلاق النار على الضحايا واحداً تلو الآخر، أضرمَ الجناة النار في جثث ضحاياهم عبر إحراق إطارات سيارات وُضعت مُسبقاً في قعر الحفرة.
والمجزرة بتفاصيلها وطريقة تنفيذها، وضحك المسؤولين وغايتهم، تذكرنا بكتاب “أنا الضحية الجلاد أنا” لجوزيف سعادة ومجزرة “السبت الأسود”، وتبدو كافية لدحض كل هراءات تأسيس جائزة أدبية “ممانعة” و”مقاومة”، مع ذَهَبها الخالص وأحلام أصحابها ولجنتها الموقرة ورعاتها المقدّسين ومكان توزيعها ورسالتها وأسماء الفائزين والفائزات بها… والجوائز إذا كان ينبغي أن تُعطى، فيجب أن تًعطى لأولئك الذين يعرون التوحش والشرّ، سواء أكان الشرّ تابعاً للنظام الأسدي أو الدواعش أو المليشيات الإيرانية أو الثوريين أو أي جهة كانت. أما جوائز التمجيد والتعظيم التي تقدًم المغريات للأسماء المغمورة، من المسكوكات أو السبائك الذهبية، فهي في أحسن الأحوال لا تنتج إلا مواعظ التمجيد وتأبيد الشرّ باسم المقاومة ولا تقترب من الأدب، وليستْ غاية مؤسسيها أن تقترب من الأدب المعرفي والانساني.
وجائزة سليماني في جوهرها، هي مجرّد “توابل” ومبهّرات على التدخلات الإيرانية في بلدان المنطقة. فقبل نحو سنتين أصدر الرئيس الإيراني (السابق) حسن روحاني، قراراً مقدّماً من قبل “المجلس الأعلى للثورة الثقافية”، يقضي بإنشاء لجنة مكونة من 19 عضوًا باسم “مجلس سياسة تعيين جائزة اللواء سليماني العالمية”، وفق ما أفادتْ وكالة الأنباء الإيرانية “إرنا”. وبحسب الوكالة نفسها، فإن بعض أعضاء المجلس الـ19 هم وزير الخارجية، ورئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون وممثلون عن مليشيات “حزب الله” في لبنان و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” في فلسطين و”أنصار الله” الحوثية في اليمن. وتهدف الجائزة إلى “تكريم خدمات سليماني” وكذلك “الترويج والحفاظ على القيم الإنسانية والإسلامية السامية بما يشمل التضحية والنضال والمقاومة بوجه الاستكبار العالمي”، وفقاً لنص البيان. ورسالة الجائزة “إعلاء شأن الإبداع المقاوم ونقل مسرح قضايا الأمة إلى العالمية”، و”إثبات قدرة الإبداع للارتقاء بالمزاج الشعبي فناً وموضوعاً وصونه من أي انحراف وابتذال”…
ولا يحتاج المرء كثير جهد ليعرف أن الأنظمة التوتاليتارية، ومنها إيران والصين والاتحاد السوفياتي السابق، تضع كل أدب مغاير لسياساتها في خانة الانحراف والابتذال والعهر، وتمجّد ثقافة الانتصارات والحروب. والأنظمة “النضالية” أنتجت آلاف الكتب والروايات والأشعار الرثة التي تمجّد المواجهة، وفي النهاية لفظَها الزمن، فهي مجرّد بيانات إيديولوجية تستعمل في أوقات بروباغندا السلطة أو الحرب. ولا أظنّ أن المسار الإيراني يختلف عن المسار الشيوعي أو البعثي أو القومجي. فهناك آلاف القصائد عن صدّام حسين، مَن يذكرها؟ ومئات المقالات مدفوعة الثمن عن “أدب” معمر القذافي أصبحت في مهوار التاريخ. ومع القضية الفلسطينية، ظهر عشرات الشعراء الذين يرفعون شعار أدب المقاومة، لكن في النهاية لم يبق منهم إلا مَن يحترف الشعر، لا البروباغندا والشعارات. ومن المفارقات أننا كتبنا قبل أيام أيضاً عن “قوس النصر، الفن الشمولي في عراق صدام” لكنعان مكيّة. وفي رأي صاحب الكتاب أن أسوأ ما في كلمتي “النصر” و”الاحتفال” بهذا النصر، كان وما زال يكمن في أن الكلمتين تخفيان أعداد القتلى، إنهما بذلك تخفيان قبح تلك الحرب… والحق أن أدب المقاومة، وشعار “صانعو النصر” الذي أطلقته الجائزة في موسمها الجديد، يساهمان في طمس وقائع المقتلة السورية الكبرى… فـ”خدمات” قاسم سليماني “الإنسانية” و”السامية” و”الإسلامية”، تجلّت في حماية نظام جزار حي التضامن الدمشقي وسجن صيدنايا، فضلاً عن تأسيس مليشيات جرارة وطائفية، ساهمت في توسيع الشرخ المجتمعي في الشرق الأوسط، وتدمير مدن وتهجير شعوب وتفكيك أوطان، في سوريا والعراق واليمن ولبنان. فحيثما ظهَر الحاج قاسم، كانت المدن المهجورة والدمار والتشريد، وذلك كله نتاج معاركه وتدخلاته وبفعل ألويته المنتشرة ومتعدة الهويات والتسميات من لواء الفاطميين إلى لواء الحسينيين وكلها مجموعات تابعة للحرس الثوري الإيراني. وطبعاً هذا لا ينفي الوجه الآخر للحرب من الروس والدواعش وغيرهم، ولم يكن سليماني مسؤولاً عن الملفات الإقليمية السورية واليمنية وتصدير الثورة فحسب، إذ يحكى عن مشاركته الفعالة في قمع الاحتجاجات الإيرانية العام 1999، واحتجاجات العام 2009…
على أن فكرة “أدب المقاومة” ليست جديدة. أول من قدّم هذا المصطلح في الساحة الثقافية العربية هو الأديب الفلسطيني غسان كنفاني العام 1966، عبر كتابه “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968”. وهذا الأدب، بحسب عباراته، يمثل “صرخة شجاعة”، ويجسد حالة من حالات “الصمود من الداخل”. ففي زمن “الحرب الباردة”، وحتى زمن التخلص من الانتدابات، كانت حاضرة بقوة ولها نجومها وكتبها وتقلصت مع التحولات السياسية، لكنها الآن بنسختها الإيرانية تبدو ضيقة الأفق، وهي أقرب إلى أدب تمجيد وتعظيم قاسم سليماني وسياسات ملالي بلاده. والجائزة، في جوهرها، جزء من ثقافة الحرب التي يتبناها “حزب الله” والذي يعمل في السياسة كأنه في حرب دائمة. فخلال إعلان أسماء الفائزين، ومعظمهم من حاشية “حزب الله”، قال الشيخ هاشم صفي الدين “إن رسالتنا اليوم في ظل كل هذه الأزمات في بلدنا ومنطقتنا هي الحفاظ على هويتنا (…) التي نخوض من خلالها مواجهات ضارية في كل ساحات الصراع والتحدي لنكون نحن من يصنع الحاضر والمستقبل”… وأعلن أن “محور المقاومة بقيادة الحاج قاسم سليماني، أعاد الأمل وأحيا النفوس ووضعنا على سكة الخلاص الآتي وهو آتٍ حتما، لإنقاذ الكرامة والعروبة وهوية الأمة وهو أعظم وأكبر وأهم من كل ما قدمه أولئك المتبجحون اليوم الذين يرفعون شعار الدفاع عن العروبة”…
نحن هنا أمام نسخة جديدة من العروبة، لا يستطيع تفسيرها ميشال عفلق ولا ناصيف اليازجي ولا قسطنطين زريق… ربما تحتاج مفكراً إيرانياً لتفسيرها. وعدّد صفي الدين بأن “ما خطّته المقاومة بشهدائها ومجاهديها، هو مشروع كامل ينقذ الوطن والأمة ويأخذنا الى العزة والكبرياء وتحرير فلسطين والقدس”، وهو يقول كلامه عن العزة والكبرياء على وقع وصول الدولار إلى عتبة الـ30 ألف ليرة في بيروت، وما يحمله من انعكاسات معيشية وصحية وإنسانية… على أن جريدة “العهد” التابعة لـ”حزب الله”، عنونت في تغطية خبر الجائزة: “أدب سليماني ذَهَبٌ خالص”، وصنفت كتابات التعظيم والتمجيد للأعمال الحربية في خانة “الذهب”، هذا عدا عن أن ثمن الجائزة بالذهب، وثمة من كتب أن الجائزة بالذهب لأن الحاج قاسم كان يرفض الدولار ويعتبره “عملة الاستكبار العالمي”. ولا ندري مدى دقة هذا التخمين، فحين قُتل سليماني، نُقل بسيارة أميركية. وقال أمين عام “حزب الله”، حسن نصرالله، غداة انفجار الأزمة الاقتصادية والنقدية في لبنان إنه يدفع رواتب مقاتليه وموظفيه بالدولار الأخضر أو العملة الأميركية.
في المختصر، يسعى نظام الملالي الإيراني، جاهداً، إلى جعل قاسم سليماني، قائد “فيلق القدس” الذي قُتل بغارة أميركية في بغداد في 3 يناير/كانون الثاني، بطلاً قومياً وأيقونة شعبوية وسياسية إيديولوجية تعبوية، سواء من خلال الأنصاب والتماثيل في لبنان وإيران، أو الصور الضخمة والبوب آرتية، أو المناهج المدرسية أو البرامج التلفزيونية والوثائقية أو التسريبات “الأسطورية” حول حياته، وصولاً إلى إنشاء جوائز، في زمن يشهد فيه لبنان أفدح كوارثه، الاجتماعية والاقتصادية. ولبنان، واحة الأدب والتيارات الأدبية والشعرية، في زمن هلاكه، يستضيف جائزة غايتها بث أدب التمجيد الرث الذي لا طائل منه، ولا جدوى…
(*) لا يمكن الكلام عن الجائزة القاسمية من دون التطرق إلى لجنة تحكيمها، ولا ندري إن كان أحدهم اطّلع على ما نشرته “الغارديان” في تحقيقها، سواء أحد أبرز “شعراء الجنوب” محمد علي شمس الدين، وصولاً إلى المترجم والشاعر والمطّلع على الأدب العالمي اسكندر حبش، أو الصحافي السابق في جريدة تشرين حسن م. يوسف أو ورشاد أبو شاور، وهو أحد مبجلي نظام الأسد وجيشه، وغيرهم.
المصدر: المدن