جسر: متابعات:
تلقي طفلة بنفسها منتحرة من فوق جسر في وسط دمشق، بعد حوالي أسبوعين من الضجة التي أحدثها اغتصاب أحد الشبيحة طفلةً في الحديقة العامة في حلب. يصادف أن الطفلتين في الثانية عشر من عمرهما، من دون أن نربط بين الدوافع التي لا نعرفها لانتحار الأولى وما هو معروف عن اغتصاب الثانية. ما هو مؤكد مجازياً وفعلياً أن الطفولة تُغتصب وتنتهك في سوريا على كافة المستويات، فلا يكون مفاجئاً تصنيف تقرير الايكونوميست، في تقريرها السنوي الثلاثاء الماضي، دمشق كأسوأ مدينة للعيش، ولنا أن نتخيل الوضع المزري لباقي المدن والمناطق إذا كان هذا هو موقع العاصمة.
بالتزامن، كان سهلاً على كثر من السوريين تصديق قرار، نُشرت صورة منه على وسائل التواصل الاجتماعي، ينص على تغريم من يقوم بـ”فعل فاضح” في مكان عام، وصولاً إلى معاقبته بالإخصاء في حال تكرار المخالفة للمرة الثالثة. صورة إيصال الغرامة انطلت على معارضين وموالين، ليرمي نائب في برلمان الأسد مسؤولية فبركتها على “غرف الموك” أي على المخابرات الأمريكية، مؤكداً في المقابل وجود قرار قديم يمنع المعانقة في الأماكن العامة ويفرض غرامة عليها. على صعيد متصل، تبنى مشايخ عقل الدروز في مدينة السويداء، بحسب بيان صادر عن المكتب الإعلامي للمشيخة، ما سموه مطالب وفد من الأهالي يرفضون تحويل المدارس الثانوية في المدينة إلى مدارس مختلطة، الإجراء الذي فوجئوا به مع افتتاح العام الدراسي.
نحن إزاء سلطة لا يحرّك فيها ساكناً انتحار طفلة في وسط العاصمة، ولا تتحرك إزاء قيام شبيح من شبيحتها باغتصاب طفلة أخرى وسط مدينة حلب. سلطة تفاجئ أهالي السويداء بجعل التعليم مختلطاً، بينما تعاقب عاشقين على عناق في مكان عام، المكان ذاته الذي تُغتصب فيه طفلة. فضلاً عما سبق، نحن بالأحرى إزاء عصابة لا يُستغرب على الإطلاق أن يصدر عنها مختلف الأفعال والتوجهات المتضاربة، ويكفي أن يفبرك أيّ كان خبراً يخصها “مهما بلغت غرابته” ليصدّقه مؤيدوها قبل معارضيها.
لكن قولنا أنها عصابة، بمعنى أنها لا تشكّل نظاماً له هوية واضحة بصرف النظر عن وحشيته وعن رأينا فيه، لا يكفي لتحري الوضع البائس لمحكوميها. قولنا أن كل ما يصدر عنها، أو ما يحدث في أماكن سيطرتها، قابل للتصديق أمر يخاطر بجعل كافة أنواع معاناة السوريين نتيجة متوقعة، ولا تقتضي تالياً التوقف عندها. ذلك قد يصنع فجوة حقيقية بين سوريين واقعين تحت سيطرة العصابة، ولا حيلة لهم إزاء توحشها، وسوريين آخرين توقفت معرفتهم بالواقع “أو انقطعت” منذ سنوات.
لا يكفي مثلاً أن نعرف اليوم أن انحدار سعر صرف الليرة قد هبط بدخل آلاف العائلات إلى ما بين الخمسين والمئة دولار، في حين تتطلب معيشتها في الحد الأدنى ما يعادل 500 دولار شهرياً. نحن لا نتوقف مطولاً للتساؤل عن كيفية سد الفجوة بين الدخل وتكاليف المعيشة، وهي فجوة لا تكفي لسدها تحويلات السوريين في الخارج. ثم إنها فجوة ليست بالمستجدة مع التراجع الأخير في سعر الصرف، بل تعود لسنوات. أي أننا مررنا بمدة كافية ليستنفذ فيها بعض العائلات مدخراته، وليستنفذ البعض الآخر إمكانية الاقتراض إذا وجدت، وصرنا في مواجهة معادلة واضحة لا رحمة فيها، وبما لها من آثار اجتماعية ونفسية.
قد يكون هذا صادماً، لكننا كنا نراه قبل سنوات: امرأة شابة اضطرت إلى النزوح من منطقة تقصفها قوات الأسد إلى منطقة أخرى تحت سيطرته، لترى في منطقة إقامتها الجديدة أسواقاً تُباع فيها ممتلكات عائلتها أو عائلات أخرى لها وضع مشابه، وترى الشبيحة الذين سرقوا تلك الممتلكات يمارسون سلطتهم ويبذرون أموال سرقاتهم في المكان الجديد. لا يندر في هذه الحالة، تحت الضغط الذي لا يرحم لحاجتها الشخصية أو حاجة أطفالها، أن تمارس تلك المرأة الدعارة، وأن يكون زبائنها هم أنفسهم الذين قتلوا أفراداً من عائلتها وسرقوا بيتها، وفي الأصل يندر وجود زبائن ضمن الوضع الاقتصادي المتردي سوى من الشبيحة وشركاء الجريمة.
بالطبع، طرح المثال السابق لا يأتي من موقع حرّاس العفة، بل من الموقع المغاير تماماً الذي يحرص على حرية تصرف المرأة بجسدها. فعل الدعارة في هذه الحالة، وآلاف الحالات المنتشرة والمسكوت عنها، هو فعل اغتصاب مدفوع الأجر، وإلى جانبه هناك الكثير من حالات الاغتصاب غير المدفوعة، والتي يقوم بها أولئك الزبائن أنفسهم ويكون ضحاياها نساء “ومنهن طفلات” يرفضن الاغتصاب. ولنا أن نتخيل في هذه البيئة المتوحشة حجم الآثار النفسية الفظيعة على الضحايا المباشرين للاغتصاب، وعلى ضحايا الدرجة الثانية والثالثة من عائلاتهن بمن فيهم الأطفال على نحو خاص.
علينا ألا نهمل أيضاً ذلك النزوع المحافظ المرافق للاستباحة والاغتصاب، فقد وردت مثلاً أخبار سابقة عن قيام رؤساء الكنائس في مدينة اللاذقية بالطلب من النساء توخي “الحشمة” في ملابسهن ومكياجهن لئلا يصبحن محط أنظار الشبيحة ويتعرضن للاغتصاب، وهو توجه مشابه لطلب مشيخة الدروز منع الاختلاط في المدارس أو قصره على الراغبين فقط. وفي مناطق أخرى تزايدت ظاهرة الحجاب على نحو لا يمكن ردّها كما يريد كثر من أنصار الأسد إلى تقاليد محلية محافظة، بل يمكن أن نعزو الأمر إلى نوع من الحماية الشخصية ضمن فضاء عام من الاستباحة. كنا في تجربة قديمة قد رأينا تكاثر الظاهرة نفسها، عندما قامت مظليات رفعت الأسد قبل نحو أربعة عقود بنزع الحجاب عن النساء في شوارع دمشق، لينتشر الحجاب إثر الحادث على نطاق أوسع مما كان قبله، لا في دمشق فحسب وإنما في العديد من المناطق بما فيها مدن الساحل التي كانت مهد نشوء ظاهرة الشبيحة.
ليست مفارقة على الإطلاق أن ما تفرضه تنظيمات إسلامية متطرفة في أماكن سيطرتها يحدث تلقائياً في مناطق سيطرة بشار، فنحن في أماكن سيطرته أمام رأس بشار وذيل داعش معاً، حيث يقدّم الرأس نفسه للغرب كممثل للحداثة بينما تؤدي استباحته المجتمع إلى جعل الأخير محافظاً بحكم الضرورة. استطراداً، سيكون من الضروري تفكيك سردية شائعة في بعض الأوساط السورية، فحواها أن العصابة الحاكمة تقدّم تنازلات للإسلاميين “بأسلمة المجتمع” عندما تنتصر عليهم عسكرياً أو أمنياً، وهي سردية مستمرة منذ تجربة المواجهة مع الإخوان حتى الآن. فالأقرب إلى الواقع أن المجتمع يتجه إلى المحافظة كسلوك وقائي غريزي عندما يُستباح، وفي كل الأحوال من يدفع الثمن هي الفئات الاجتماعية الأضعف طبقياً وجندرياً.
يصعب في حيز محدود التطرق إلى جوانب أخرى لا تقل أهمية من الكارثة السورية الحالية، وتحديداً الكارثة المتضخمة مع استعادة بشار وحلفائه السيطرة على المساحة الأوسع من سوريا. إننا إزاء نصر عسكري لا توازيه قدرة ولا رغبة في تحمل نتائجه المدنية والإنسانية، ولا ننسى ما واكب النصر من بيع ثروات البلد لموسكو وطهران، ما يعني استمرار مشروع الإفقار وتبعاته ضمن المستقبل المنظور. ثمة سردية سورية أخرى شائعة، فحواها قيام مخابرات الأسد باصطناع تنظيمات إسلامية تخدمها، وهي إذا صحّت أحياناً فالأكثر صحة منها أن بقاء هذه العصابة وحده كفيل باصطناع مختلف أنواع الجريمة والتطرف، والأخبار القادمة من الداخل هي رأس الجبل فحسب إذ نراه من البعيد البعيد.
المدن 7 أيلول/سبتمبر 2019