جسر: ثقافة:
تكاد المصادر التاريخية تنعدم حول منطقة الجزيرة الفراتية ومدنها في مطلع العهد العثماني، خصوصاً مدينة دير الزور وما يتبع لها، في ظل الكشف عن الوثائق العثمانية العائدة لتلك الفترة، والتي تظهر الصراع الدموي المحتدم بين قوات العثمانيين والقبائل العربية البدوية التي لم تستلم للواقع الجديد بسهولة، وبقيت في معظمها عاصية على السلطة الجديدة في مناطق شاسعة من هذا البلاد الممتدة.
ويبدو أن العثمانيين في هذه المرحلة كانوا يهدفون إلى السيطرة على بعض المراكز الحضرية، وهي قليلة على كل حال، نظراً لانشغالهم بحروب أخرى في أوروبا، وعلى تخوم إيران مع الصفويين، ومع الإمارات المحلية داخل بلاد الشام. وتقف رحلة عالم النبات والطبيب الهولندي ليونهارت راوولف عام 1574م، والتي سبق أن تناولنا بعض فصولها، كواحدة من أهم مصادر معرفتنا عن هذه المنطقة في تلك الفترة التاريخية الحساسة التي تلت القضاء على حكم المماليك، في وقت كان أمير العرب البدو محمد أبو ريشة يبسط سيطرته على أجزاء واسعة من هذه المنطقة.
مقارنة الولاءات
بعد أن يغادر راوولف منطقة الرقة في هيئة تاجر تركي، على متن سفينة للتجار الأرمن الحلبيين تتجه إلى بغداد، ضمن قافلة من السفن الأخرى يحمل بعضها القمح، يبدأ بعقد مقارنة بين ولاء البدو لأميرهم محمد أبو ريشة، وولاء الأتراك لسلطانهم، وكان يومها سليم الثاني ابن سليمان القانوني، حيث لاحظ ولاء العربان المطلق لأميرهم مقابل استخفاف الأتراك بسلطانهم، إذ يقول: “إن طلبت إلى الأتراك أن ينجزوا لك أمراً ما باسم سلطانهم، فإنهم لا يستجيبون إلى ذلك إلا إذا كان مثل هذا الأمر يحقق لهم أرباحاً وفيرة، ولو استعنت بأحد الأدلاء من الأتراك لاقتضى منك هذا قدراً كبيراً من النفقة؛ أكثر مما يتقاضاه الدليل العربي، بينما يتذكر الأعراب سيدهم كل يوم ويندر أن يتحدثوا عن شيء آخر سواه، وعن ثرائه واتساع ملكه بفخر ومباهاة، ذلك لأن جزءاً من مملكته يعود إليهم أنفسهم، ولهذا فإن عليهم أن يحترموها”.
ولا يبخل علينا هذا الرحالة في الحديث عن طعام المسافرين وطريقة إعداده: “كنا مضطرين إلى أن نقنع ببعض الأطعمة الخفيفة أو غيرها، أو أن نكتفي باللبن الرائب والجبنة والفاكهة والعسل وما سواها، فنتناول هذه الأطعمة مع الخبز، ونستمتع بتناولها. العسل في هذه المناطق جيد جداً وهو من نوع أبيض اللون ويحمله القوم هنا في القوافل والسفن في مزاود من الجلد تملأ به، وهم يقدمونه إليك في أقداح صغيرة، ويضيفون إليه قليلاً من الزبدة، وبذلك تستطيع أن تتناوله مع البسكويت”. وبالإضافة إلى ذلك يحدثنا عن شي اللحوم في بعض الأوقات عندما تتوقف السفينة، حيث يسارع ربان السفينة إلى البر بحثاً عن الحطب، في الوقت الذي يكون فيه البعض الآخر قد حفر حفرة في الأرض عند الشاطئ في شكل موقد يشوى فيه ما لدى الركاب من لحوم. فالبعض يطبخ الرز والبعض الآخر يطبخ البرغل وغيره. أما الخبز الطازج فيصنعونه في الحال بعد أن يغطوه بالرماد والفحم، كما يقول.
حصن زلبية
في اليوم الرابع من مغادرة الرقة، وهو آخر يوم من أيلول/ سبتمبر وصلوا عند الظهر إلى نهاية سلسلة الجبال، وكانت تقوم أمامها وعلى هذا الجانب من النهر قلعة كبيرة فوق تل عال شيدت مربعة الشكل ولها فتحتان تنحدران إلى النهر، في حين تؤلف الفتحة الثالثة طريقاً واسعة إلى الجبل. ويشبّه هذه القلعة في وضعها بقلعة “بادن” السويسرية. ومع أنها مهدمة إلا أن جدرانها كانت لا تزال قوية جداً، سواء في القمة أو الجوانب، وعلى الأخص الجدران المتجهة نحو الجبل والنهر، والقصد من ذلك هو الحيلولة دون الوصول إليها من ناحيتي النهر والجبل معاً. ويلفت الأنظار إلى أن بعض أبراج المراقبة كانت قائمة، وهذه الأبراج لا تضم سوى ثلاثة أو أربعة جنود عثمانيين، وما سوى ذلك فهي في شكل خرائب لا تسكن فيها سوى الطيور والهوام.
ويشير رحالتنا إلى حصن آخر على مسافة ستة أميال إلى الجنوب وعند الشاطئ الآخر لنهر الفرات يدعى “الزلبية الواطئة” على ضفة عالية من النهر. ويقول: “لقد سررت كثيراً بما عرفته عن هذين الحصنين، وعن الطريق الذي يسلكه حكام الجزيرة العربية أو ملوكها، ولكن اللغة التي لم أكن ألم بها جيداً كانت تعوقني عن ذلك. وحتى لو كنت قد عرفت هذه اللغة جيداً، وأجريت ما فيه الكفاية من التحري عن هذه الأشياء، فلن أستطيع أن أنجز ذلك كله دون خطر التعرض للاعتقال بتهمة التجسس، ذلك لأن القوم سرعان ما يشتبهون بالأجانب في أي حادث طفيف يحدث، وعلى هذا فإن التجارة في هذه الأنحاء لا تمارس من دون المزيد من الخسائر والأخطار”.
أراض خصبة
وقد شاهد الطبيب راوولف في هذه المنطقة مساحات شاسعة من الأراضي المزروعة وعدداً كبيراً من السكان العرب أكثر مما شاهده في أي منطقة أخرى من حلب إلى الرقة قبلاً، وقد نزل ربان السفينة إلى إحدى القرى ليشتري لهم بعض الأطعمة لسفرتهم المقبلة، حيث اعتاد السكان أن يجلبوا اللحم والبطيخ لبيعه للمسافرين. ويروي لنا حادثة رآها بعينية عندما دفع بدوي أحد الجنود الأتراك إلى النهر، ويبدو أنه لم يكن يجيد السباحة، وراح ذلك التركي يصرخ وسط النهر طالباً النجدة. وكيف أنقذه من الغرق ويقول: “لقد سر جميع الأتراك بذلك لأنني تحركت بكل قواي لصالحهم، فراحوا يزجون الثناء عليّ طوال الطريق إلى أن وصلنا بغداد، حيث مقر الحامية التي أرسلوا لتعزيزها”.
في اليوم الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 1574، وبينما كانت الرحلة مستمرة، أقبل سعاة البريد في بكرة الصباح إلى جانب النهر، وكانوا ستة من العرب يمتطون الخيول، ليستفسروا عما إذا كان شيخهم محمد أبو ريشة قد رحل من هناك، وأين يمكنهم العثور عليه إذ إنهم كانوا يحملون إليه رسائل من السلطان العثماني، ولا بد لهم أن يتعقبوه إلى أن يجدوه. وقد أنبأهم ربان السفينة بأنه قد شاهده في إقليم يدعى الخابور، وقد ارتحل عنه مع رجاله متوجهاً إلى الجزيرة وفي مقدورهم أن يعثروا عليه هناك.
وبعد هذه الاستفسارات غادر السعاة، بينما واصلوا هم مسيرتهم فشاهدوا أمامهم وعلى بعد، مدينة على الجانب الأيمن من النهر تدعى السكرية تخضع لحكم أمير العرب (أبو ريشة)، ومنها توجهوا مباشرة نحو “الدير” (دير الزور) التي كانت تبعد مسافة ثلاثة فراسخ. ويشير إلى أن البدو لا يقيسون المسافات بالفراسخ لأنهم لا يعرفونها، وإنما يحسبون المسافات بأيام السفر. وسبب ذلك أن مدنهم تقع على مسافات بعيدة يضطرون إزاءها إلى الغوص في أعماق الفيافي عدة أيام قبل أن يصلوا إلى تلك المدن.
دير الزور وغرق القمح
قبل أن يصلوا إلى مدينة دير الزور راحت إحدى السفن تجري بسرعة نحو جانب واحد متجهة إلى أحد فروع النهر الذي يمر بالمدينة، حيث ينقسم النهر هنا إلى عدة فروع، وسرعان ما غطست في الطين وتوقفت على السير. وهو ما وفر له بعض الوقت لفحص النباتات والأشجار القائمة عند الشاطئ حيث شاهد الكثير من الطرفاء، ونوعاً خاصاً من الصفصاف يسميه السكان باسمه العربي القديم، وهو “الغرب”، ويقول إن هذه الأشجار عالية وتنتشر بكثرة وأغصانها أقوى وأكثر ليناً حيث تصنع منها المرابط والمشدات بالشكل الذي يفعلونه في هولندا.
ويقول إن التركي الذي يقود السفينة المحملة بالقمح، رفض أن يتوقف إلى أن يخرجوا السفينة الغاطسة من الوحل، وواصل سفره، ولكن سرعان ما تحطمت سفينته تلك، وفقد قدراً كبيراً من القمح الذي كان يريد إيصاله إلى بغداد ليبيعه هناك نظراً لقلة الغلة فيها بسبب انحباس الأمطار، وعدم سقوطها طيلة سنتين ونصف السنة. ويبدو أن جهود الرجال أفلحت في إنقاذ بعض القمح من الغرق. غير أن الصخور كانت تعترض طريق السفينة، وكان المرور فيما بينها ينطوي على مخاطرة. ولذلك ما إن فهم بعض ملاحي السفينتين الأخريين عمق الماء حتى أقبلوا لمساعدتهم حيث استطاعوا الخروج من المنطقة الخطرة بسلام.
وفي وصفه لمدينة دير الزور يقول: “تقع مدينة الدير، وهي ليست كبيرة وتخضع لحكم السلطان، على هذا الجانب من النهر فوق مرتفع. وتقوم فيها مساكن حسنة البناء. وقد وقف عدد كبير من الناس لمشاهدتنا ونحن ندخل إلى المدينة، وكانت أسوارها والخنادق المحيطة بها شاخصة للعيان. وحين وصولنا لأول مرة ظننا أن في مستطاعنا أن نتفاهم مع موظف الجمرك حول المكس المفروض على سلعنا ونتحرك ثانية، لكننا لم نجده في المدينة فاضطررنا إلى أن نمكث فيها مدة ثلاث أيام انتظاراً لمقدمه إليها. وفي الوقت ذاته تعرفنا إلى سكان المدينة وقد وجدناهم حسني الصور، أصحاء الأبدان، وكانوا أكثر انتظاماً وتأدباً من غيرهم. فقد كانوا يزوروننا من دون كلفة، ويتحدثون إلينا برقة، وهكذا وجدنا فرقاً شاسعاً بينهم وبين غيرهم ممن سبق لنا أن شاهدناهم قبلاً”.
وحين قصدوا موظف الجمرك الذي حضر في اليوم الثالث، وجدوه لم يكن أقل تأدباً من غيره، فقدم لهم صحناً كبيراً من الزبيب، وأنواعاً أخرى من الحلويات محاطة بقطع من الصابون، ويبدو أنها عادة متبعة، وفي مقابل ذلك قدموا له ولجماعته أوراقاً بيضاء تقبلوها بسرور كبير.
ويقول: “الأرض هنا خصبة غنية بالقمح والشعير والقطن وغيره، بالإضافة إلى البساتين الواسعة الحسنة، ومزارع الخضار المنتشرة على ضفاف الأنهار والتي تضم مختلف الثمار والأشجار، ومنها البطيخ والخيار والشمام التي توجد بوفرة، حيث يستطيع المرء أن يشتري أربعين بطيخة كبيرة بمبلغ بسيط. وبالإضافة إلى ذلك تكثر أشجار النخيل والليمون والبرتقال وغيرها مما لم أستطع تمييزه عن بعد”.
وبعد أن دفعوا الرسم الجمركي إلى الملتزم الذي كان على قدر كبير من الأدب بالقياس إلى الموظف الذي شاهدوه في الرقة، وبعد أن تزودوا بالحاجيات، وضعوا نصف الحمولة في سفينتهم كي يسحبوها من الفرع إلى النهر ثانية، وإذ ذاك نقلوا بقية الحمولة إليها في زوارق صغيرة. وهكذا أقلعوا من هناك في مساء اليوم الرابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فأمضوا الليل كله غير بعيدين عن مدينة الدير. وفي صباح اليوم التالي استأنفوا رحلتهم، فسارت بهم السفينة سيراً حسناً حتى الظهر، حين وصلوا إلى مكان ضحل وواسع في النهر، لم يعرف ربان سفينتهم كيف يخرج منه. وبينما كان مضطرباً دائب التفكير، ظهر على الشاطئ بعض الأعراب، فأشاروا لهم إلى المجرى الذي يجب أن يسيروا فيه، وقد خرجوا من ذلك الموضع خلال ساعة واحدة بعد أن سحبوا سفينتهم قليلاً إلى الوراء ثم دفعوا بها إلى الماء العميق الغور، ما أثار دهشة أولئك الأعراب. أما السفن الأخرى التي كانت تسير مع سفنهم، فمع أنها لم تتأخر طويلاً إلا أنهم مع ذلك بذلوا جهوداً لإخراجها من الماء الضحل.
ملتقى الفرات بالخابور
في وقت مبكر من الغروب شاهدوا على مسافة غير بعيدة في الجانب الآخر من النهر قلعة تقوم في سهل يدعى البصيرة، وذكر لهم الأعراب عنها أنها قد تهدمت منذ سنين عديدة، وأن نهر الخابور، وهو من الأنهار الكبيرة نوعاً ما، يبدأ من شمالها ثم يمر بها ويكون ماؤه نقياً أشبه بماء الينبوع، ثم يجري أسفلها بمسافة قليلة ليصب في نهر الفرات. ويقول الرحالة راوولف: “كنا نعتقد أننا من هناك سنصل إلى الرحبة التي تخضع لحكم أمير العرب (أبو ريشة)، إلا أننا توقفنا في ملاحتنا، وإذ ذاك هبطنا على مقربة من القلعة بعد حلول الظلام حيث استأنفنا في صباح اليوم التالي مسيرتنا إلى المدينة، وكانت هذه كبيرة نسبياً وتقع على مسافة نصف فرسخ من النهر وفي أرض خصبة جداً، وقد مكثنا فيها حتى اليوم التالي لنبيع فيها بعض السلع، بينما تجول اثنان من رفاقنا في داخل المدينة لدعوة التجار فيها إلى المقايضة معهم”.
ويضيف: “بعد أن أمضينا ذلك اليوم كله تحركنا في صباح اليوم التالي نحو العشارة وهي قرية صغيرة تقع على الضفة اليمنى من النهر، وعلى مسافة نصف فرسخ منه، وتخضع لحكم أمير العرب. وقد هبطنا إليها لكي ندفع الرسم المعتاد، وكنت وأنا في السفينة أشاهد على جوانب النهر عدداً كبيراً من الأشجار والنباتات التي لم أستطع أن أتبين أنواعها لبعدها عني”. ومن العشارة سارت سفينتهم سيراً منتظماً ولأيام عدة، وشاهد في طريقه خرائب وأبراج لمدينة أثرية أطلق عليها اسم أنسبي، ومن المرجح أن يتحدث عن خرائب دورا أوروبس، قبل أن يصلوا بعد أيام إلى مدينة عانة التي يتحدث عن جمالها، وكثرة الأشجار المثمرة فيها كالزيتون والليمون والبرتقال وكذلك شجر النخيل.
بطاقة
ليونهارت راوْوُلْف (1535 – 1596 م) هو عالم النبات وطبيب ورحالة، ألماني / هولندي. يشتهر برحلته إلى المشرق التي بدأت في أيار سنة 1573 م وانتهت شباط سنة 1576 م. وهو واحد من عدة رحالة أجانب زاروا بغداد في العهد العثماني. طبعت الرحلة باللغة الهولندية في ليدن سنة 1581م ثم ترجمها نيكولاس ستافورست Nicholas Staphorst إلى اللغة الإنكليزية سنة 1693م. عرّب سليم طه التكريتي (من الإنكليزية) الأجزاء المتعلقة بالبلاد العربية ونشرث في بغداد باسم “رحلة المشرق إلى العراق وسورية وفلسطين سنة 1573م” للرحالة الهولندي الدكتور ليونهارت راوولف، (وزارة الثقافة والفنون، بغداد 1978 م).
المصدر: صحيفة العربي الجديد