رواية الثورة لا الزلزال

رواية الثورة لا الزلزال

رواية الثورة لا الزلزال

رواية الثورة لا الزلزال

رواية الثورة لا الزلزال

رواية الثورة لا الزلزال

رواية الثورة لا الزلزال

شارك

رواية الثورة لا الزلزال

رواية الثورة لا الزلزال

فواز حداد

يختلف النظر إلى الحدث السوري بين المثقّفين الموالين والمعارضين، فالموالون ينكرون الثورة ويعتبرون ما جرى حرباً ضدّ الإرهاب، بينما يعتبرها المعارضون انتفاضة ضدّ النظام تجلّت بمظاهرات واحتجاجات. بعدما عمّت هذه الاحتجاجات البلادَ، اعتُمد وصف “ثورة”، وشملت العامين الأوّلين: في العام الأوّل وكانت احتجاجات سلمية، وفي العام الثاني تسارعت الانشقاقات وحمل المحتجّون السلاح دفاعاً عن أهاليهم.

لم تتخلّف الكتابة عن الثورة، تدفّقت بالمئات؛ ولن نجادل في قيمتها الفنية، بل سنجادل في ضرورتها. فقد كانت عمّا عاناه السوريون من خلال تجارب شخصية أو كشهود عيان، أو تعبيراً عن واقع الحال. ما كُتب كان مثالاً على حرّية تعبير مارسها الذين عانوا من القهر. هذا الحدث انعكس أيضاً على الرواية، فزمن الطغيان امتدّ ما يقارب نصف قرن، وما زال مستمرّاً، فتدفّقت روايات تحكي عن نظام مَعالِمُه المخابرات والمعتقلات والسجون والتعذيب.

ليس في الكتابة عمّا قاسوا منه تزيّداً ولا إقحاماً أو تطفّلاً؛ هناك مَن فتحوا عيونهم على هذا العهد، وأغلقوها عليه. إنها كتابة عن آلامهم، عن الرعب والخوف، وأيضاً عن عواطفهم وأفراحهم وأحزانهم في عهد بوليسي راقب حتى أنفاسهم، اعتمد الاضطهاد بأقصى درجاته. إنها كذلك عن تجربة الحرب القاسية بوحشيّتها وهمجيتها، إنها الكتابة عن هذا الموت المجحف المستمرّ، وما هو أشدّ من الموت.

كشفت الثورة عن طبقة مدرّبة من مثقّفي النظام ترعرعت في كواليسه، تضمّ كتّاباً وصحافيين وشعراء وروائيين “يساريين” و”ليبراليين”، التشكيلة المعروفة من المحتالين الجدد الذين ينشرون الإشاعات عن معاناتهم في الداخل وعن تشبّثهم بالوطن، ولديهم القدرة على التظاهر بالتقدّم والعدالة. ادّعى بعض هؤلاء عدم الإعلان عن مواقفهم خشيةً من بطش النظام، فأعلنوا الحياد، على الرغم من علاقاتهم الطيّبة معه، فلم يدينوا قتل المتظاهرين ولا الاعتقالات ولا المجازر، وهبط الصمت عليهم. وكان من الطبيعي مؤخّراً ألا يدينوا مجزرة حيّ التضامن ولا الإذلال الذي تعرّض له الأهالي في انتظار المعتقلين.

منذ سنوات، دأب ناقدٌ وروائي على ترويج تصنيف يشمل تقريباً كلّ ما كُتب في فترة الثورة والحرب تحت عنوان “الزلزال”، ونشر مقالاته في أكثر من موقع ثقافي، وهي عبارة عن المقالة نفسها بعد تدويرها مع بعض التقديم والتأخير في المعلومات المرافقة، ومديح كلّ رواية بعدّة كلمات، يسترضي المؤلّفين بها ليضعهم تحت هذا التصنيف، على أساس أنه ناقد محترف، مزمن وخبير.

الهدف من هذا التنظير نفيُ الثورة وإلحاقها بالإرهاب. عموماً لا يحتاج هذا الجهد التنظيري إلى شرح مفصّل، فهو لا يزيد عن أن الثورة السورية زلزال على حدّ اعتباره، أمّا غموض الوصف، فلأنه يعبّر عمّا يُراد له، فهو من عوامل الطبيعة، يمكن تفسيره جيولوجياً، بمعنى عودة الطبقات (الأمور) إلى وضعها السالف، وإذا استعمل النظام الدبّابات والطائرات في القضاء على المظاهرات، فذلك لظهور الإرهاب.

أجهد الناقد المذكور أدواته النقدية في تسويق نظريته. في الواقع، لم يستلف النظر إلّا لأنه في الفترة الأخيرة أخذ يتفاخر بتعميمها في الصحافة الثقافية، ففي تكريسها ما يلغي الثورة: إنجازٌ يتباهى به، فلا جريمة ولا مجرم محدّد يوجّه الاتّهام له، لا نظام ولا رئاسة ولا جيش وعسكر، ولا شبّيحة، لا ميليشيات مذهبية ولا روسيا ولا إيران ولا حزب الله…. مجرّد زلزال غامض. ما يحيل القارئ إلى أن المظاهرات والاحتجاجات كانت حدثاً عابراً انتهى، وستعود البلاد إلى ما كانت عليه، بينما الثورة انتقلت إلى خانة الإرهاب.

لن نناقش خياره، فهذا شأنه، يحقّ له اختيار موقفه، لكنْ دون أنْ يتعدّى على مواقف الآخرين الذين كتبوا رواياتهم وشهاداتهم من موقع الثورة لا من خدعة الزلزال، مئات الروايات كُتبت من هذا الموقع. وإذا ادّعى بأنه كتب رواياته تحت راية الزلزال، فلأنه في الخندق الآخر، إنه هناك، وأنْ يكون ضدّ الثورة، فهذا موقعه، صرّح به مراراً، ولا يهمّنا، لكنْ على ألا يتنطّع ليتكلّم نيابةً عن الأدباء الذين دفعوا الثمن باهظاً في الإعدامات والسجون والتهجير. الثورة ليست زلزالاً، ليوفر هذا التصنيف لرواياته.

لا يُستغرب ما قام به؛ لديه جهود سابقة في النقد، عندما أدلج الأدب وطرد كبار الكتّاب السوريين من “جمهورية الأدب التقدّمية الاشتراكية”؛ هذا في الزمن البعثي. أمّا موضوع الثورة فمختلف: نحن في زمن آخر، ولا تلاعب بعذابات السوريين وإنكارها، ما طالبوا به هو الحرية والكرامة، ورفع الظلم عنهم، أمّا تحويله الى هراء الزلزال، فادّعاء وتزوير.

نعم، الثورة هُزمت، لكنّها لن تتوقف، طالما الناس يفتقدون إلى الحرية والعدالة. الثورة باقية، لقد استقرّت في الرؤوس، ليس قدرنا العيش في دولة شمولية، بل العيش بكرامة، وسنتغلّب على نوازع الكراهية التي زرعتها دكتاتورية منحطة. ولدى الرواية القدرة على أن تقول أشياء كثيرة عن الوطن والحب، البشر والعذاب، وأيضاً الحقيقة.

المصدر: العربي الجديد

شارك