جسر: ثقافة:
صدرت رواية ينزلون من الرحبة في القاهرةسنة 2006 عن دار رامة للنشر والتوزيع وللأسف لم يكن نصيبها من النقد كبيرا …
وهي من الروايات التي تستنفر الذهن وتترك القارئ في تفكير يستمر لعدة أيام بعد الانتهاء من قراءتها، وربما يعيد القراءة عدةمرات ليستطيع ربط أفكارها لاستجلاء عوالمها الواقعية والغرائبية.
يعد عنوان الرواية جزءا هاما منها ويشكل مفتاحا أوليا للولوج إلى عوالمها، فالرحبة قلعة تقع على الضفة اليمنى لنهر الفرات وتبعد عن مدينة الميادين بضعة كيلومترات،هذه القلعة أوهذه الروايةلايستطيع القارئ الدخول إلى فضاءاتها
دون مفاتيحها العديدة التي تتعدد أبوابها، إذ حين يجد القارئ مفتاحا ليفتح به بابا لا يفتئ أن يبحث عن باب آخر أحكم الكاتب إغلاقه بتخيلات غرائبية تبتعد كثيرا عن الواقع زمانياوتقترب منه مكانيا,إذ يختلط التاريخ القديم بالتاريخ الحديث ليعود بنا في النهاية إلى الزمن الآني زمنكانيا محطما حواجزهما مشركا القراء بوضع خطة الكتابة وطرائق رسم الشخصيات مشرعا بابه على مصراعيه ليستضيفنا في غرفته المطلة عبرالنافذة على طريق(اﻵي تن)في هيوستن,ولنستمع معه إلى أصوات القطارات والشاحنات التي تمر بالقرب من منزله الذي يعني المكان فقط،إذ لا أهمية للزمان هنا ، بل إن المكان يكتسب أهمية كبيرة عنده، أما الزمن فلايحتفي به كثيرا بسبب التداعيات التي تدفق عبر تيار الوعي، فحينا نكون في وسط أحداث طفولة الراوي الصوفي وأحايين يقفز بنا إلى مرحلة ما بعد الشباب والهجرة إلى أمريكا،ثم العودة مجددا إلى حلب والأحداث الدامية التي جرت فيها عام 1980بين نظام الحكم و تنظيم الأخوان المسلمين بجناحه العسكري (الطليعة) فلولا أمكنة كقلعة الرحبة والعلوة والمياذين
ودير الزور وحلب وحماة ودمشق وهيوستن لن يرى هذا العمل النور لأن زمن الحدث لم يكن ممتدا لسنوات طويلة(1979-1980)،فالرؤى التي بثها الروائي بين ثنايا أمكنته الكثيرة الرئيسة والفرعية في نصه هي بالنتيجة رؤية واحدة مجزأة ومنثورة في ستة وأربعين فصلا شكلت أحداث الرواية ،ويلاحظ القارئ أن أهم مايميز نص حسين سليمان هو شخصياته المتعددة الوجوه والمتغيرة حتى في تسمياتها الرمزية والواقعية، فنرى أن لكل شخصية من شخصياته اسم تتسمى به حسب المكان الذي تتواجد فيه أو يوجدها فيه الراوي، فنجد أن الصوفي(الراوي) هو رطب ورطب هو الصوفي وسارة هي خود وسيرا وأحيانا غيرهما، والعمة هي نزهة ووضحة وفضة، وكذلك زهرة سلطان هي صباح، وأبا محمدزهير هو ذاته مزعل، وحتى لمداد عدة وجوه وأسماء ولجيمي أيضا في رؤية الراوي (الصوفي)وجوه عديدة فمرةهو أخ لكارولين وسيرا وأخرى عشيقها ومغتصبها ومجرما حقيرا، وكل شخصية رسمها الكاتب هنا ومنحها اسما أواسمين أو أكثر لها رمزودلالة، من ذلك نراه يرمز ل (خود وسنان) بالتاريخ الأولي وبداية الانتقال من طور زمنكاني إلى آخر، أما العمة هنا فهي رمز فقدان العاشق وضياع الحب الذي قضى على حياتها مما جعلها تتقوقع على ذاتها في زاوية مظلمة ببيت عائلة الصوفي لا ترغب بمغادرته نحو الجديد والمعاصر..،
كما يستحضر الكاتب في الرواية العديد من الأسماء الحقيقية منها:فواز النعمان وعبد الرحمن الحاج حسين وقاسم الرحبي ونزيه الضويحي الذي اعتقل سنة 1980 ولايزال مصيره مجهولا حتى اللحظة ،وعمر البطي وفاتح المدرس ولؤي كيالي ووليد إخلاصي ونواف حديدي والضابط المصري الشهير عبد المنعم رياض حيث، لاتزال صورته مرسومة على جدار الثانوية التي حملت اسمه في مدينة الميادين بريشة الفنان الراحل نواف حديدي، وكل ذلك كان لعبة فنية من الروائي ليضفي على نصه(ربما) صفة الواقعية أو أراد أن يمزج بين الواقع والخيال ، أو هي عودة بالقارئ من سماء الوهم إلى أرض الحقيقة ليقنع القارئ بأن جميع الأحداث المتداعية من ذهن الصوفي جرت في هذين المكانين (قلعة الرحبة والميادين -العلوة-)،فرغم وجود الصوفي في حلب عام
1980،وفي هيوستن بعد هذا العام يسرد لنا الصوفي أحلامه وأوهامه وخيالاته في الماضي البعيد والقريب من خلال شبكة أسماء وشخصيات حقيقية وواقعية يلبسها الكاتب لبوس الماضي مرةوأخرىلبوس الواقع والحاضر وذلك من خلال تغيير أسمائها (كماذكرت) ضمن هذين الزمنين(الماضي-الحاضر) فتكون للشخصية اسم جديد حين تنتقل من مكان إلى آخر أو لنقل دلالة تناسبها فسارة في الميادين هي سيرا في هيوستن وحركتها هناك تختلف عنها في الميادين مع وجود رابط أو قرينة بين الاسمين وهو العنف الذي تتعرض له هذه الشخصية من خلال عملية اغتصابها مرتين وفي مكانين مختلفين الأول في الميادين والفاعل هو أيسر الرغوة والثاني على يد جيمي في هيوستن،وكذلك نجد أن الشخصيات خود وهجع ومداد وسنان وزهرة وصباح تختلف رموزها ودلالاتها باختلاف الأمكنة التي يضعها فيها الكاتب ،فالعمة في الميادين تختلف عنها في حلب، ففي الميادين لاتغادر زاويتها في بيت عائلة الصوفي، أما في حلب فهي تتمشى بشارع التلل مع الصوفي تلبس تنورة قصيرة وكعب عالي ولكن ذهنيتها وطريقة تفكيرها لاتتغيران رغم تحديث شكلها الخارجي، فحين تمر بحي الشهباء الحلبي وتشاهد الفلل المبنية بطراز حديث تستنكر ذلك بقولها لصوفي الذي كان يرافقها:
(هذه ليست أبنية العرب يا الصوقي).
ولاننسى أيضا شخصية زهرة الحسكاوية التي يكون اسمها صباح في حلب ابنة الحاج ابو محمد وهي ذاتها هدىالتي قتلت تحت أنقاض بناية دمرتها قذيفة دبابة للجيش سنة 1980 أثناء الصراع المسلح بين النظام وجماعة الأخوان المسلمين.
إنها شخصيات يحركها خالقها (الكاتب)عبر تداعيات وأحلام الراوي من مكان إلى آخر على مسرح أوراقه بكلماته مسافرا بها إلى بلاد بعيدة عن مسقط رأسها لتشاركه خيالاته وأوهامه وأحيانا يجعلهاتسردلناواقعا عاشته،ولما لانقول يسبغ عليها اللون والرؤية اللتين يريدهما؟
يقول الكاتب في الفصل السابع والعشرين من الرواية (بلسان الصوفي)والذي يسرد فيه وما يتلوه من فصول جزءا من تجربة حياة الصوفي في حلب أيام دراسته الجامعية بين العامين 1979 و1980وما جرى فيهما من أحداث داميةنتيجة الصراع المسلح بين النظام والجناح العسكري للأخوان المسلمين:(الدراسة إنها التفاحة التي ركضت وراءها وكانت تفاحة نجاة تلاها ركض فوق أرض غريبة لا موطئ لها،أرى أنني أبتعد آلاف الأميال ولايوجد سوى الذكرى)،
كما يسرد لنا في هذالفصل (27)كيف تعرضت حياته للخطر خلال المواجهات المسلحة بين الجيش والأخوان المسلمين في حلب آنذاك وطرق نجاته ولعدة مرات من موت محقق حين كان يعود من وسط المدينة إلى غرفته في المدينة الجامعية،ويخبرنا أيضا أن العمة نزهة قد اختفت من الميادين ساعة بدء الأحداث 1980 آنذاك ولكنه على يقين أنها لم تمت:(لدي يقين أنهالم تمت كما يعتقد البعض،هي في مكان ما تراقبنا).وربما كان يرمز هنا بالعمة إلى الماضي الملآن بالخراب والحروب والجهل والتخلف الذي لم يستطع أحد من تغييره أو تحديثه وعصرنته وعقلنته على مدى عقود طويلة، رغم التقدم الذي حصل ويحصل عند الآخر (الغرب)يقول الصوفي :(جاءتني خاطرة مرت سريعا في ذهني :ماذا لو كانت العمة قد لحقت بي,فبعدي عنها قد آلمها وبالتالي لم تصبر على الفراق، لذا قررت السفر إلى حلب).
إنه الإرث التاريخي والاجتماعي والديني الذي يلاحقه هو الماضي المتخلف الذي كلما أردنا الابتعاد عنه يلاحقنا ليعيدنا إليه،ويغرقنا بترهاته وخرافاته وجهله. يقول الصوفي عن حلب :(كأن المدينة معلقة بحبل سماء يطوف بين الشرق والغرب ,يمرعلى بقاع الدنيا) .
ثم يعود بنا إلى الواقع الذي عاشه الصوفي سنة 1980ليصف مشهد تدمير شقة في بناية بشارع التلل بقذيفة دبابة للجيش السوري كان متواجدا فيها ونجا منها بأعجوبة(انهار مدخل الشقة وفجأة بدا المشهد قديماأكله الزمن كأنما مر عليهآلاف السنين أحجار صغيرة وحصى وألوان …..لم يحمل سمة الحاضر بل كان في داخلها ضغينة الماضي ضغينة ألف عام ثمانينياتي لحظة زماني قد انبعجت انبوبة حياتي في ذاك العام ودفعني الأشرار….أندفق إلى
الخارج)مشيرا بعد هذه التداعيات الحزينة إلى محاولات السلطة الحاكمة تزوير وتغيير التاريخ بقوله:(دعهم يقولون بل يلعبون كما يريدون….التاريخ الذي يحاولون كتابته هو وهمهم أنظر إليه بأنه هراء لايعمر بداخلي لبنة واحدة…لم الشعارات والخطابات,ثلاث ساعات لم أسمع شيئا).
وتتوالى فصول الرواية ليمتزج الواقع بالوهم والحلم بالخيال,إذ تحضر العمة في الفصل الثلاثين ومايتلوه من فصول لتكون رفيقة الصوفي في حلب فتشاركه غرفته في المدينة الجامعية وتتمشى معه في شوارع الشهباء مبدية رأيها بالمدينة وقلعتها(رأت الأحجار والأعمدة المقامة وسلالم الدخول إليها قالت العمة:لازالت في أول عمرها يالصوفي ولاتقارن هذه بتلك…لزمت الصمت حيث المجادلة مع ابنةالعلوة مجادلة عقيمة لانتيجة لها)،و كل ذلك يسوقه الكاتب ليؤكد تخلف العمة ورفضها لكل حداثة رأتها في المدينة،أما رمز التحرر والحداثة والانعتاق من إسار التخلف والجهل الذي يعيشه مجتمع العلوة فقد حملته سارة ولكنها كما بدا للقارئ لم يكن أمرا سهلا أن
تسير في هذا السبيل وتحطم قيود الماضي دون معوقات وعقبات لأن حمل إرث العمة والماضي جعل حركتها بطيئة ….
ولاتخلو فصول الرواية من أفكار ورؤى مباشرة حيال الشرق العربي(الشيء المفقودهوالحب والخبرة والحياة في الشرق).
وقوله(حلب قبل 1980 غيرها بعد1980) إن الحياة التي عاشتها شخصيات حسين سليمان لاتشبه حياتنا،
فهي غرائبية في أفعالها وأحاديثها، فقد رسمها لقارئه لتكون منسجمة مع أمكنتها العجائبية،
فبئر شمر في النص لايشبه آبار البادية بالواقع ففيها تكون وظيفتها الشرب والسقاية، أما هنا فقد كان البئر لنزول سنان نحو قاعه لقطع حبل المودة مع خود ويتألف من عدة طبقات يجد في قاعه رجل على شكل أفعى داخل خابية كما نلاحظ أن سنان الذي نزل البئر غير سنان الذي ينام جانبه باحثا عن حلم يقصه على الناس الذين تحلقوا حول فراشه، ولاينس الكاتب وهو في غمرة ذكرياته وتداعياته البعيدة في الماضي, رغم المسافات الطويلة بينه وبين أماكن عاشها طفولة وبداية شبابه أن يعبر عن حنينه اللاهب إلى تلك الديار متفوقا بذلك على أحلام جميع المغتربين عن أوطانهم والمكتوين بنار الاشتياق :
(لو أنهم يتاخمون المدن ويقربون التنائي يصلون طريق الآي تن يقربون الأزمنة ولوأنني أقفز من هذه الغرفة إلى غرفة العام 1980 ) ، كما تحضر في الرواية ذكريات العيد أيام الطفولة في الميادين لتنثال كدث مطر عبر الذاكرة
فهاهو باص العيد يزدحم بالأطفال يسير متهاديا على وقع أهازيجهم الشعبية في شارع النهر
(يا أهل البلعوم إيش جايبكم شايبنا يطكع شايبكم …دوس ياشفير دوس الله يبعثلك عروس…).
ويكشف لنا الروائي-(مقتحما النص)- في فصول روايته سرا من أسراره الفنية وهو أن شخصياته لاسيما النسائية منها والتي رسمها لنا ليست حقيقية بل هي خيال محض حيث:(لازهرة ولا سارة ولا صباح كلهن نائمات يشخرن
بكوابيس أحلام).وكأنه بهذا أراد أن يأرجحها بين خيال وواقع، وكما حضر في النص التراث الشعبي الريفي بعاداته وتقاليده في الأفراح والأتراح في مدينة الميادين أوالعلوة تحضر أيضا الخرافات الدينية والشعبية كقصة الأعور الدجال وما ذكر في كتاب شمس المعارف،وكذلك قصص الشعر والشعوذة الممزوجة ببعض الحكايا الدينية الخيالية لتضفي على الرواية لونا من ألوان العجائبية والغرائبية…
وكل ذلك كان كما (يخبرنا)الكاتب ( الذي يدخل إلى نصه ) ….هومن نسج خياله يقول:(أخلق أخرس الطاحونة…وأخلق أهلي وأختي سارة فهي تلعب دورا رئيسيا في حياتي..أصنع شائبة عجوزا رائحتها رائحة نهر في زاوية الغرفة تقفز وتهزهز جسدها كسمكة تطلب الحياة ,إذن لم الخوف.؟).
لكن تظل الأمكنة التي تحركت عليها شخصياته هي المسرح الحقيقي والواقعي بل الأرض الصلبة التي بنى فوقها الكاتب عالمه الروائي لأنها موجودة قبل وجوده ووجودنا ولايد لنا فيها إنها قلعة الرحبة والميادين والعلوة ودير الزور وحلب وحماة ودمشق وهيوستن، أماكن واقعية استطاع أن يحولها بل يصورها لنا بأنها ليست من هذا الكوكب حين أضفى عليها وعلى ناسها الكثير من الغرائبية والعجائبية.