جسر – صحافة
تبقى النّهاياتُ الغامضةُ مؤرّقةً، ويزداد السّؤال إلحاحًا حين تتشابك خطوط الدّم ليختفي وراءَها مَن سَفَكه، ويزداد التّعقيدُ حين يغطّي غبار التّفجير الصّورة وتعلو من خلفة الأصوات بتبادل الاتّهامات، في تلكم اللّحظة يكون الاتّهام نوعًا من الاستثمار السياسيّ للحادثة، وضربًا من الطّعن في العدوّ وإطلاق النّار على الخصم، وهو استثمارٌ لا يبحثُ عن الحقيقةِ بقدر ما يسعى لاستخدام الحدث.
اليوم الذي هزّ سوريا، والاتّهام السّهل
لم يكن يوم الحادي والعشرين من شهر آذار “مارس” من عام 2013م يومًا عاديًّا؛ فقد شهد مساءه تفجيرًا تردّد صداه في جنبات الأرض كلّها، وتجاوزت حدود التّفاعل معه سوريا إلى عواصم كثيرةً في العالم.
في مسجد الإيمان وهو يعطي آخر دروسه يوم الخميس ما بين المغرب والعشاء وقع التّفجيرُ الذي وضع حدًّا لمسيرة الدّكتور البوطي، وقتل معه حفيده أحمد وأكثر من أربعين من الحاضرين درسه.
إنّ اتّهام النّظام السوريّ بهذه الجريمة هو الخيار الأسهل، والأكثر دغدغةً لعواطف الجماهير الثّائرة، وهو يريحُ أصحابَه من البحث والتّحقيق والمساءلة وتحمُّل التّبعات، وهو اتّهامٌ سيلقى آذانًا صاغيةً ونفوسًا مرحّبةً لانسجامه مع الطّبيعة الإجراميّة التي يتسربلُ بها نظامُ الأسد وأجهزته الأمنيّة التي نشرت الموت المريع في البلاد طولًا وعرضًا.
لكن المعلومات التي بدأت تتكشّف مع الأيّام وتتسرّب رويدًا رويدًا تغلبُ التّحليلات المحضة، وهذه المعلومات تؤكّدُ أنّ مَن قام بالاغتيال ليسَ نظام الأسد.
بين موافقة “الجولاني” وفتوى “أبو خديجة الأردنيّ”
جبهة النّصرة التي أوجدت لنفسها مكانًا مركزيًّا في ساحة الفعل على امتداد الجغرافيا السّوريّة كان كثيرٌ من أفرادِها يحملون عداءً قديمًا للدّكتور البوطي من قبلِ التشكُّل، فكثيرٌ من هؤلاء جاؤوا من خلفيّات سلفيّةٍ عُنفيّةٍ أو تقليديّة وكانوا يرون في الدّكتور البوطي عدوًّا لهم في مجال العقيدة والإيمان والفكر.
هذه العداوة وجدت لها أرضًا خصبةً لتتحوّل من عداوةٍ كلاميّة إلى تنفيذٍ تفجيريّ بعدَ تبلور تنظيم جبهة النّصرة وتعيين الشّرعيين والأمنيّين في مختلف محافظات سوريا ومنها دمشق وريفها.
يذكر الباحث المتخصّص في الحركات الجهاديّة حسام جزماتي:
“في آذار 2013م، بعد سنتين على اشتعال “الفتنة” التي فرّغ البوطي وقته وجهده وعلمه لمحاربتها، وقارن الجيش الذي يقمعها بصحابة الرّسول؛ ضاقت أبرز الحركات الجهادية على السّاحة السّورية وقتها “جبهة النصرة” ذرعًا بتصريحاته المستفحلة.
كان تيّار العراقيّين، الموفدين من “دولة العراق الإسلامية” والذين سيستمرّون معها حين ستختلف مع أبو محمد الجولاني بعد شهر، يسيطرون على فرع التّنظيم في دمشق، وكانوا قد اعتادوا المفخخات و”الاستشهاديين”.
وبدعم من أردنيّين، سيستمرّون مع الجولاني عند الشّقاق ثم سيغادرون مركبه باتجاه “حراس الدين” ومجموعاتٍ مشابهة؛ اقترحَ الجميع على أميرهم قتل البوطي.
نعم؛ إنّ وجودَ شرعيّين وأمنيّين على رأسِ مناطق دمشق من العراقيّين الذين تمرّسوا في “ثقافة المفخّخات” و”الاستشهاديّين” كان له دورٌ كبيرٌ في التّوجّه إلى قرار اغتيال الدّكتور البوطي، وتمّ رفع الأمر إلى الجولاني قائد جبهة النّصرة بعد تشكيل رأيٍ عامٍ عند عموم الأمنيّين والشرعيّين بضرورة تنفيذ عمليّة الاغتيال، وأنّها ستكون ضربةً قاسيةً للنّظام في قلب العاصمة واستهداف أهمّ رموزه الدّينية، وقد وافق الجولاني على العمليّة وأوكل متابعة التّفاصيل إلى “أبو خديجة الأردني”، واسمه بلال خريسات؛ وهو أردنيّ الجنسيّة، كان مقربًا من “أبو محمّد المقدسي” وأمضيا معًا عدّة سنوات في السّجن، الذي قضى فيه خريسات أكثر من عشر سنوات ثم خرج منه مع بداية الثورة السورية.
انشقّ أبو خديجة عن تنظيم جبهة النّصرة ليكون أحد أبرز مؤسّسي تنظيم “حرّاس الدّين” ولتنتهي حياتُه باستهدافٍ مباشر من طائرة بدون طيّار في “ترمانين” قرب إدلب بوم 21 من كانون الأوّل “ديسمبر” 2019م
تمّ تكليف “أبو خديجة الأردني” بالمهمّة بوصفه المسؤول الشرعيّ في قاطع الغوطة الشرقية، وكان القرار الأوّل الذي تمّ اتخاذُه بالتّشاور مع الأمنيّين هو اغتيال الدّكتور البوطي بتفجير أحد “الاستشهاديّين” نفسه في الدّكتور البوطي أو سيّارته عند خروجه من صلاة الجمعة في جامع بني أميّة الكبير بدمشق.
طلب أبو خديجة الأردنيّ تعديل الخطّة لاعتباراتٍ “شرعيّة” لأنّ التّنفيذ سينتج عنه قتل أشخاص لا يستحقون القتل بنظره، كما سانده الأمنيّون في قرار تعديل الخطّة لاعتباراتٍ “لوجستيّة” متعلقة بصعوبة التّنفيذ وإمكانيّة فشل الخطة.
طُرِحَت مسألة التَّفجير داخل المسجد أثناء الدّرس، وخاض الشّرعيّون والأمنيّون نقاشًا حول مشروعيّة التّفجير داخل المسجد، وبعد نقاشٍ مستفيضٍ صدرت الفتوى من “أبو خديجة الأردني” بأن يتمّ التَّفجير داخل مسجد الإيمان أثناء الدّرس، ولكنّه وضع شرطًا بأن لا يتمّ التّفجير إلّا بعد انتهاء صلاة السنّة وخروج المصلّين العابرين الذين لا يريدون حضور الدّرس وبقاء من يريدون حضور الدّرس على اعتبار جواز استهدافهم كونهم موالين للدّكتور البوطي فيأخذون حكمه، وأمّا من بقي ولم يكن مواليًا له وقُتل في التّفجير فإنّه يجوز استهدافه ويُبعث على نيّته يوم القيامة بناءً على فتوى “التّترّس” الشّهيرة.
وفعلًا تمّ تنفيذ عمليّة الاغتيال عبر تفجيرِ أحد “الاستشهاديّين” من جبهة النّصرة نفسه داخل المسجد، وكانت النّتيجة مقتل الدّكتور البوطي وأكثر من أربعين شخصًا من الحضور.
تعليقات على تحليلات
من التّحليلات التي تكاثرت لإثبات أنّ النّظام هو من قام بعمليّة الاغتيال؛ التّصوير الذي تمّ تسريبُه من كاميرا المسجد للتّفجير، والذي يظهر فيه الدّكتور البوطي وقد سوّى جلسته بعد التّفجير وعدّل عمامته بيديه، ووصل إليه أحد الأشخاص، وفور انصرافه عنه ظهر والدّم ينضح من فمه، فتمّ اعتبار هذا دليلًا على أنّ الرّجل قد أطلق الرّصاص بشكل مباشر على فم الدّكتور البوطي وقتله.
وهذا يبقى تحليلًا لا يرقى للقطع أو اليقين، واعتبار هذا الشّخص من عناصر المخابرات ونفي أنّه من المصلّين الذين هبّوا لرؤية ما حلّ بالدّكتور البوطي هو محض تحليلٍ لا يستندُ إلى أيّة مقوّمات، وأمّا انصراف الرّجل السّريع عن الدّكتور البوطي فهو أمر مفهوم في ظلّ حالة الصّدمة والهرج إثر التّفجير وما تلا ذلك من إطلاق نارٍ كثيفٍ من مفارز الأمن القريبة جدًا من المسجد وبعض الدّوريّات التي كانت على أبوابه حتّى ظنّ بعضُ مَن في المسجد أنّ إطلاق النّار أعقبَ التّفجير داخل المسجد.
وهناك تحليلٌ ثانٍ يستندٌ في اتّهامه لنظام الأسد على قدرة المنفّذ على الوصول إلى المسجد الواقع في منطقة المزرعة، وهي منطقة أمنيّة في قلب دمشق، فكيفَ يتسنّى للمنفّذ الوصول بكلّ هذا اليُسر لو لم يكن من النّظام؟
والحقيقة أنّ مسجد الإيمان كان منطقة أمنيّة رخوة يستطيع عامة النّاس الوصول إليه دون كثير عناء في ذلك الوقت، كما أنّه لم يكن هناك تفتيش أمنيّ عند أبوابه للدّاخلين، إضافةً إلى التمرّس الأمنيّ لجبهة النّصرة في التّعامل مع هكذا حالاتٍ اكتسبوه من ساحاتٍ سابقةٍ أهمّها السّاحة العراقيّة.
وهناك تحليلٌ ثالثٌ يؤكّدُ أنّ النّظام تخلّص من الدّكتور البوطي كونه انتهى دوره، وهذا محض تخيّل، فالنّظام كان في غاية الحاجة لشخصيّة الدّكتور البوطي، وكان يعوّل كثيرًا عليه في السّنوات اللّاحقة لحشد طاقات العلماء خارج سوريا وتشكيل جبهة مساندة للنّظام، وقد خسر النّظام كثيرًا باغتيال الدّكتور البوطي ولم يأت إلى الآن من يسدّ ولو جزءًا يسيرًا من الفراغ الذي تركه.
ومن أطرف التّحليلات ذلك الذي يتّهم النّظام باغتيال الدّكتور البوطي لأنّه كان قد غيّر موقفه وبدأ التّفكير بالانشقاق عن النّظام ومغادرة سوريا، وهذا محض تخيّل رغائبيّ، فمن يعرف الدّكتور البوطي يعلم أنّ هذا الأمر هو من أبعد الأمور عنه وعن خلفيّات مواقفه وعن طبيعته المغرقة في العناد، كما أنّ الواقع يؤكّد أنّه إلى قبل قرابة عشرة أيّام من اغتياله كان يتمنّى لو أنّه كان مقاتلًا في صفوف جيش النّظام.
وهناك تحليلٌ خامسٌ يستندُ إلى أنّ الاعترافات التي بثّها النّظام لمن قال إنّهم ضالعون في عمليّة اغتيال الدّكتور البوطي هي كعموم الاعترافات التي يقوم النّظام ببثّها وقد تواتر فيها الكذب وإنّها تؤخذ تحت الإجبار، وهنا لا بدّ من التأكيد أنّ النّظام قد أسرف في الكذب وانتزاع الاعترافات وبثّها تحت الإجبار إسرافًا لم يسبقه إليه أحد، ومن الطّبيعيّ أن لا يصدّق أحدٌ هذا النّوع من الاعترافات، لكن من الإنصاف القول إنّ الاعترافات التي بثّها النّظام يوم 23 كانون الأوّل “ديسمبر” 2013م أي بعد قرابة تسعة أشهر من عمليّة الاغتيال كانت في العموم صحيحةً مع إضافة حبكات دراميّة واضحة، ومن نافلة القول إننا نحكم على هذه الاعترافات المبثوثة بالصّحة بناءً على المعلومات التي تسرّبت من داخل جبهة النّصرة لاحقًا، ولا نعدّ هذه الاعترافات بمفردها مصدرًا موثوقًا لأيّة معلومة.
لماذا لم تعلن جبهة النّصرة مسؤوليّتها عن العمليّة؟
من الطّبيعيّ أن يبدرَ هذا السّؤال لأنّ جبهة النّصرة اعتادت أن تعلن مسؤوليّتها عن العمليّات التي تنفّذها، فما دامت هي التي نفّذت الاغتيال فما الذي منعها من إعلان مسؤوليّتها؟
لقد تفاجأ الجولاني بطريقة التّنفيذ التي لم يعلم بها إلّا بعد حدوثِها، إضافةً إلى تفاجُئه مع قيادات جبهة النّصرة بحجم ردّات الفعل على عمليّة التّفجير والاغتيال، فالمعارضة بكلّ أطيافها السّياسيّة والعسكريّة المتمثلة بالائتلاف الوطني والقيادة المشتركة للجيش الحرّ أدانت عمليّة التفجير ووصفتها بالإرهابيّة، كما أدانت الأمم المتحدة وجامعة الدّول العربيّة والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والدّكتور يوسف القرضاوي وحركة حماس وعدد من الدّول العربيّة عمليّة الاغتيال ووصفتها بالجريمة الإرهابيّة.
ردّات الفعل الواسعة والإدانات الكبيرة والمزاج العام عند جمهور الثّورة الرّافض للتّفجير داخل المسجد، واتّهام هذه الجهات النّظام بوصفه المفسد في الأرض؛ كلّ ذلك أدّى إلى صدور تعليمات من الجولانيّ بعدم إصدار أيّ شيءٍ حول تبنّي العمليّة، كما صدر قرارٌ بإيقاف العمليّات الكبرى لجبهة النّصرة في مدينة دمشق.
وهكذا تطوى باغتيال الدّكتور البوطي صفحةُ أحد أهمّ الأعلام الشرعيّين في تاريخ سوريا القديم والحديث، ومَن يمكن وصفه بالشّخص الذي صاغ العقل الشرعيّ في سوريا عقب ثمانينات القرن الماضي، وكان محيّرَ العقول بمواقفه، وموضع الجدل الأكبر في الحالة الدّينيّة السوريّة المعاصرة في طريقة حياته وطريقة موته على حدٍّ سواء، وما بين “الإمام الشّهيد؛ شهيد المحراب” و”عمامة السّلطان” سيبقى الدّكتور البوطي في الوسط الشّرعيّ والشّعبيّ لعقودٍ قادمة مالئَ الجلساتِ وشاغلَ الحوارات.
المصدر: تلفزيون سوريا