قررت لجنة تحكيم جائزة مصطفى الحسيني للمقال الصحفي بالإجماع منح الجائزة عام 2019 للكاتبة فلك الفرج عن مقال “سجن داعش في الطبقة : شهادة شخصية” المنشور على موقع الجمهورية في 24 مايو أيار 2018.
فلك فرج الحسين ناشطة وصحفية سورية، مولودة بدير الزور عام 1988، شاركت بتأسيس جريدة صدى الثورة(جريدة محلية سورية) عملت مراسلة لعدد من مواقع الإعلام البديل السورية في مدينة ديرالزور إبان سيطرة تنظيم داعش عليها، شاركت في برنامج زمالة الجمهورية للكتاب السوريين الشباب، وهي خريجة جامعة الآداب والعلوم الإنسانية قسم اللغة العربية.
سجن داعش في الطبقة
انطلقت السيارة بنا نحو حلب، بعد انتظار عشرين يوماً في مدينة الرقة. وما إن تجاوزنا حاجز الجسر استقبلتنا غيمة ماطرة تبدو وكأنها ضلّت الطريق، فمن النادر جداً أن ترى مطراً ينزل في شهر آب في هذه البقعة الجافة من شرق سوريا. كانت كالرسالة السماوية، أو هكذا رأيتُها، أنا المتهمة دائماً بسعة الخيال مع الطبيعة. لم أكد أصحو من نشوة المطر، حتى وجدتُ نفسي في كابوس الأسبوع الأسود في سجن الطبقة، بعد أن تم اعتقالنا من قبل كتيبة أمنية لتنظيم الدولة في بلدة دبسي عفنان بريف الرقة الغربي. على الضفة الجنوبية للفرات وبالقرب من مدينة الطبقة، كان التشديد الأمني في أوجه خلال صيف 2016، وبشكل خاص على طريق الرقة حلب، لمنع الناس من الخروج من حدود سيطرة التنظيم باتجاه الشمال السوري.
لم تساعدنا ملابسنا والأدوات الزراعية، ولا قيامنا بوضع حقائبنا في أكياس الخيش للإيحاء بأننا ذاهبون للعمل في أرضنا، فكل الحجج تسقط أمام الهوية، التي بمجرد أن ألقى العنصر نظرة عليها انتهى النقاش. سيارةٌ أمامنا ودراجةٌ نارية خلفنا، كان موكباً يليق بالفارين. تمَّ اقتيادنا إلى مقرهم في دبسي عفنان للتحقيق.
لم يكن أمامنا وقت للبكاء، ففي هذه الدقائق القليلة كان علينا إخفاء أشياء كثيرة أو التخلص منها، حواسيبنا وجوازات السفر والمال. قمتُ بإفراغ هاتفي وإخفائه في جواربي، ووضعتُ حاسوبي تحت كتفي وغطيته بعباءتي. كان من الممكن لأيّ حركة غير محسوبة أن تؤدي إلى وقوع هاتف أو جواز سفر، وأول ما تمّت ملاحظته كان حاسوب أخي، أخذوه وكأنهم قد وجدوا كنزاً ثميناً.
الكارثة كانت تحت عباءتي، في حاسوبي الطافح بالملفّات المتعلقة بالثورة وعملنا الميداني السابق. بينما كان أخي يُضرَبُ تحت التحقيق في الغرفة المجاورة، وقفت زوجته أمامي وتواريتُ خلفها، فأخرجتُ حاسوبي وقمتُ بسحب بطاريته ورميها تحت الكنبة الموجودة في الغرفة. قدّرتُ أنهم حتى في حال وجدوه، فإنه من المستحيل أن يجدوا له بطارية في دولتهم.
خلال ساعات التحقيق مع أخي، أذكر أنني تلوتُ سورة «يس» خمس مرات، فأنا دائماً قريبةٌ من الله، ولكن في هذا الوقت كنتُ بحاجة أكثر إلى قرب الله مني واحتواء خوفي على أخي. انفصلت روحي عن الزمان والمكان، ولم أعد أعي ما يدور حولي.
في الغرفة المجاورة صرخ المحقّقُ مستهزئاً: «هذا الحاسوب آخذينوا معكم على الحقل لتحصوا المحاصيل».
بعد اعترافنا بأننا كنّا ننوي السفر، جمعونا في سيارة وأعادونا إلى الطبقة. في الطريق أخبرونا بأننا سنُعرَضُ على القاضي لنُحاكَم. هنا بدأتُ أشعرُ ببعض الطمأنينة، إذ حتى لو عدنا إلى نقطة البداية، لكن بالنسبة لي فإن عدم رؤيتهم لحاسوبي كان حياةً جديدةً قد كُتِبَت لنا.
مع ارتفاع أصوات آذان المغرب وصلنا إلى مدينة الطبقة. توقفت السيارة أمام بناء كبير، أغلبُ المنازل المجاورة له مدمرة نتيجة القصف. في البداية أخذوا الرجال، وبعد قليل عادوا وطلبوا منا النزول. سألتُ أحدهم عن أخي، فأجاب أن القاضي غير موجود، لذلك سنمضي الليلة في هذا المقرّ النسائي على حدّ تعبيره. لم يراودني الشكُّ ولو للحظة في كلامهم، فهم يملكون قدراً كبيراً من الوقاحة، وليسوا مضطرين للكذب.
نزلنا عبر درج إلى تحت الأرض، فَتَحَ العنصرُ الذي رافقنا أول غرفة على يساره، وطلبَ منا إبقاء حقائب السفر في الخارج والدخول. الغريب في الأمر كان استسلامي وصمتي وعدم مجادلتي لهم على غير عادتي، ربما لأنني شعرتُ بالانتصار بسبب نجاحي في إخفاء حاسوبي عنهم. رافقني الحاسوب طيلة أيام السجن، ونجحت في إخفائه دائماً تحت كتفي بالاستفادة من اللباس الشرعي المفروض على النساء، الدرع.
أغلقَ باب الغرفة بسرعة، وقبل أن أُعاينَ المكان استدرتُ إلى الباب، كان باباً حديدياً أسوداً لا يوجد فيه أي منفذ للخارج، وقبل أن تكتمل الأسئلة في عقلي جاءت الأجوبة من إحدى السيدات الموجودات في الغرفة: «ما هي التهمة التي سجنوكم بها؟». ضحكتُ وأجبتها: «لسنا سجينات، نحن هنا لنمضي الليلة فقط». ضحكت أكبر الموجودات سناً، وقالت: «أنتم في سجن الطبقة… ونحن جميعاً تمّ إخبارنا بالشيء ذاته عند اعتقالنا».
«السجن».. كانت الكلمة كبيرة جداً على ذنبنا المفترض؛ «السفر إلى حلب». غرفة صغيرة لا تتجاوز الأربعة أمتار، والعديد من النساء والأطفال بعمر الشهر محشورون داخلها. كانت أشبه بحاوية قمامة، أرضها الموحلة وفضلات الأطفال المرمية في زواياها والرائحة النتنة التي تصدر عن الحمام الموجود في الزاوية، كانت أموراً كفيلةً بإسقاط اسم غرفة عنها، إذ أن مجرد تركيز النظر على الأشياء الموجودة فيها، كان يدعو للإقياء والإعياء.
بينما كنتُ غارقةً في الصدمة الأولى، ضربَ السجان على الباب الحديدي وطلبَ أن نغطي أعيننا. كان طلبه غبياً، لماذا نغطي ونحن في صندوق مغلق لا نرى شيئاً؟ فتحَ نافذة صغيرة في أعلى الباب ورمى من خلالها ربطة خبز وكيساً من البلاستيك يحتوي على وجبة العشاء، صلصة من البيض والبندورة تم طبخها ووضعها في الكيس، كان منظرها مؤذياً للكرامة الإنسانية أكثر من أذية الجوع بكثير، فحتى الحيوانات عندنا في القرية كنا نفرغ طعامها من الأكياس ونضعه في وعاء عندما نقدمه لها.
رفضنا تناول الطعام معهم، تجمّعَ باقي النساء والأطفال حول الكيس، وبدأوا بالأكل والدهشة لا تفارق وجهي ووجه زوجة أخي. قطعت تلك النظرات ابنة أخي ذات الخمس سنوات، عندما طلبت أن تشرب ماء. تذكرنا أننا لم نتناول أي شيء منذ الصباح. تركت إحدى الفتيات الطعام وحملت قنينة بلاستيكية ودخلت إلى الحمام وخرجت بالماء، قبل هذا كان كل شيء يمكن استيعابه، ولكن أن يشربوا الماء من الحمام ذاته الذي نتجنب النظر إلى الزاوية التي يوجد فيها!!!
سألتُها وعيناي تكادان تخرجان من مكانهما: «لماذا تشربون الماء من الحمام؟». أجابت بأن عناصر التنظيم لم يحضروا لهم الماء منذ أسبوع، وأنهم وجدوا هذه القنينة في الداخل عند مجيئهم. «ولماذا لم تطلبوا منهم أن يحضروا ماءاً نظيفاً؟». ضحكت وقالت: «أنت مستغنية عن راسك كأنو»، وأكملت: «ونبهونا كمان ما نستخدم الحمام والماء إلا بالحالات الطارئة، لأن الصرف الصحي مليان وممكن يفيض الطابق السفلي بأي لحظة». هذا الحمام لا يصلح حتى للحالات الطارئة.
بدأتُ أشعرُ بثقل في رأسي، شعرتُ أنني أتلاشى أمام تلك الصدمات، اتجهتُ نحو الباب وبدأتُ بضربه حتى جاء السجان، طلبتُ منه حقائبنا لكي نجلس عليها فرفض في البداية. أخبرته أن الصغيرة تحتاج لملابسها، ففتح لي الباب وسمح لي بأخذ حقيبة ابنة أخي. أثناء بحثي عن الحقيبة بين الأكياس، تقدَّمَ مني شاب تونسي وسألني: «لماذا تريدون الهجرة؟»، فأجبته بأننا ذاهبون لرؤية إخوتي الذين لا يستطيعون العودة إلى سوريا. ردَّ بغضب: «ولماذا لا يهاجرون إلى أرض الخلافة؟ هجرتهم الآن فرض». رددتُ عليه بغضب أكبر: «هم في الأرض الإسلامية التي تتخذها قبلة عند أدائك الصلاة، والرسل عندما أشتد الأذى عليهم هاجروا، فلماذا لا نهاجر نحن؟».
تدخّلَ رئيس السجن وأوقف الجدال، عدتُ إلى الداخل بحقيبة ابنة أخي، فوقفت المرأة ذاتها وكانت من دير الزور وقالت لي: «سمحلك تطلعي لأنك طويلة، وما عصّب عليكي». لو أن هذا الكلام صدر عنها في مكان آخر، كانت ردة فعلي لتكون عنيفة، ولكني تعاطفتُ معها، إنها غريزة الخوف التي غرسها آل الأسد في قلوبنا وسار على نهجهم آل البغدادي، هذه الغريزة هي التي تتحدث أمامي، وهي ذاتها التي دفعتها لشرب الماء من الحمام لأسبوع هي وصغارها تجنباً للاقتراب من الباب، وهي ذاتها التي أصابت بصرها، فلم ترَ أنها تساويني في الطول.
انتهى العشاء وعاد السجان مرة ثانية ليضرب الباب، طلب من جميع النساء الموجودات قبلنا أن يغطينَ عيونهنَّ ويخرجنَ لرؤية القاضي. بقي الأطفال معنا، ولم يمض كثيرٌ من الوقت حتى بدأنا نسمع صوت ضربات الجلاد، وبكاءً بعيداً. أعادوهنَّ إلى الزنزانة بحالة مزرية بعد أن تمَّ جلدهنّ، ثلاثون جلدة لكل واحدة من النساء بعد أن جعلوهنَّ يركعنَ بحضور أزواجهنّ، ومئة وثلاثون جلدة للرجال «تعزيراً»، وهو عقابٌ تأديبيٌ فقط كما يرونه. لم يكتفِ الجلاد بالجلد، بل طلب منهم جميعاً بكلمات مؤدبة مغلّفة بعبارات دينية أن يسامحوه، لأنه ينفّذ شرعَ الله.
كانت لديهم قدرة غريبة على الخلط بين الإجرام والدين، لكن الأغرب من ذلك أن الضحايا أجابوه بالسماح. تذكرتُ وقتها نقاشاً قديماً دار بيني وبين أحد عناصر التنظيم بعد قصاص تمّ في قريتنا، سألته وقتها: «لماذا يكون جميع من تقع عليهم عمليات القصاص والرجم وقطع الأطراف خاضعين مستسلمين لكم، لا يبدون أي ردة فعل أو مقاومة في محاولة منهم للنجاة»، فأجاب بأنهم قبل أن يقام عليهم الحد يخضعون لدورة شرعية مغلقة، تستمر حتى يتم إقناعهم أنهم كانوا على خطأ، وأنهم قد تجاوزوا حدّاً من حدود الله ويستحقون ما حلَّ بهم تكفيراً عن ذنبهم، ثم يتركونهم لفترة يمارسون العبادة والتوبة فيها، وعندما يصبحون مستعدين نفسياً يُنفّذُ بهم الحكم. كلّ شيء محسوب حسابه في دولتهم، ومبررات الجريمة حاضرة قبل ارتكابها.
أصغر المجلودات كانت أكثرهنَّ تأثراً، وضعت صغيرها الذي لم يكمل الشهر في حضنها وأدارت نظرها باتجاه الحائط المقابل لها وأعطتنا ظهرها، عزّة نفسها منعتها من النظر إلينا بعد جلدها، كم كانت مكسورة أمامنا. بقيت في مكانها تبكي حتى خروجهم عند منتصف الليل.
بقينا لوحدنا دون أن نُصدِرَ أي صوت، كانت أصوات ضربات الجلاد لا تزال تتردد في آذاننا. بدأتُ أفكّرُ كيف سأُجلَد، قلتُ لنفسي إنني لن أركع حتى لو قتلوني، سأُجلَدُ وأنا واقفة، هكذا يكون وقع السوط أرحم على نفسي.
أكثر ما أثار حفيظتي هو فعل الركوع، لماذا الركوع؟! لماذا يمارس الجميع ديكتاتوريتهم وتسلطهم ضدنا. كان أمير السجن تركي الجنسية، والسجانان تونسيٌ ومغربي. هل من المعقول أنهم قطعوا كل هذه المسافات ليصبحوا جلادين في بلد غالبية سكانه سجناء حتى في منازلهم، وجيشُهُ قطيعٌ من الجلادين. كنتُ أفكرُ أن هذه اللذة في الجلد وإذلال الآخر وإهانته، ربما تكون كلها نتيجة تراكمات استمدوها من حكوماتهم القمعية، وجاءوا لإفراغها في بلادنا. جميع الجلادين في السجن يعودون إلى بلاد ذات حكم استبدادي، وطيلة السنوات التي قضيتها تحت حكم تنظيم الدولة، لم أرَ أي غربياً يخدم في الشرطة أو الجهاز الأمني أو السجن، بل معظمهم كانوا عرباً أو سوريين، وكأن هذا النوع من الأعمال يرتبط بمن عاشوا حياتهم تحت القمع وعدم احترام القيم الإنسانية.
كان بكائي في ذاك اليوم يعادل كل بكاء عمري. وأنا غارقة في التفكير متكورة على نفسي فوق حقيبتي، غفوتُ أو فقدتُ وعيي من هول ما شاهدت، لا أذكرُ كيف انتهى ذلك اليوم.
استيقظتُ قُبيلَ الفجر على صوت زوجة أخي وهي تهزّني بعنف: «فيقي فيقي… ما وقفوا تعذيب وصراخ طول الليل». نظرتُ حولي وتذكرتُ أننا في السجن الآن، لقد استوعبنا الصدمة، لم يكن كابوساً بل استمراراً للسجن الكبير الذي يفرضونه على شرق سوريا. تقدّمنا باتجاه الباب، وبدأنا بضربه بكلّ قوتنا، وعندما تتعب أيدينا كُنّا نبدأ بركله بأقدامنا.
لم نتوقف عن الضرب والصراخ حتى الصباح، عندما جاء العنصر التركي يحمل الطعام، فأعدته إليه وأخبرته أننا لا نريد طعامهم بل نريد الخروج، فجاء صوته من خلف الباب: «لن تخرجوا حتى تُحاكموا»، واستمرّ بالسير في الممر وهو يضرب بسوطه على الأبواب: «كل أهالي أرض الشام المباركة يريدون الهجرة إلى تركيا… حسناً تركيا ترحب بكم، تركيا ستسلخ جلودكم».
يأسنا من الضرب وتورمت أيدينا، فعدنا للانتظار. عاد بعد قليل وطلب منا أن نستعدَّ للخروج لتغيير الزنزانة، لأن مياه الصرف الصحي بدأت تطفو. عندما خرجنا طلب منا حمل حقائبنا معنا، رأيتُ فوق حقيبتي علم الثورة الصغير الذي جلبته معي وكنتُ أخفيه في أسفل الحقيبة. كان هؤلاء العناصر يجهلون أنه علم الثورة لذلك تركوه، أسرعتُ لإخفائه، وأخفيتُ رغبتي بالضحك من جهلهم.
أدخلونا إلى غرفة نظيفة في نهاية الممر فأصبح بإمكاننا أن نتمدد على الأرض، ولكي أواسي نفسي بدأتُ أفكر بالسجناء لدى النظام، الذين مرّت عليهم سنوات في غرف كنتُ على ثقة تامة بأنها أسوأ مما نحن فيه. التفكير بهم كان يمدّني بالقوة والصبر، حتى عندما كنتُ خارج السجن.
كنتُ أفكّرُ بالسجون، وأقولُ لنفسي إن هذه السجون السوداء كلها امتدادٌ لسجون الأسد، وإن هذا التوحش الذي يحمله السجانون امتدادٌ لتربية النُظم الاستبدادية، والفرقُ الوحيد أن الغطاء دينيٌّ هنا وسياسيٌّ هناك. بينما كنتُ غارقة في تلك الأفكار، جاء صوت صراخ فاطمة التي تمّ اعتقالها معنا: «إبني عم يمشي أول خطواتو بالسجن، باينتك رح تطلع خريج حبوس». تجمعنا حوله، وبدأنا نراقب خطواته المتعثّرة بدهشة.
كانت فاطمة أكثرنا تضرراً من التنظيم والنظام، فهي تنتمي لعشيرة الشعيطات التي ارتكب التنظيم بحقّ أبنائها جريمة إبادة. تم تهجيرهم لأكثر من عام من قريتهم شرقي دير الزور، وبعد أن عقدوا الصلح معهم وأعادوهم، وبسبب القصف المتكرر للتحالف والنظام على مناطق الآبار المجاورة لهم، قامت فاطمة ببيع خاتم زواجها وكل الأشياء الثمينة التي في بيتهم، واشترت العائلة دراجة نارية لاستخدامها في التهريب من دير الزور إلى حلب، على أن يقوموا ببيعها بعد وصولهم إلى حلب ليدفعوا باقي تكاليف الرحلة إلى تركيا. الدراجة هي كل ما يملكون، وتمّت مصادرتها على الحاجز ذاته الذي ألقى القبض علينا. لم تكن مشكلة فاطمة هي السجن أو الجلد، بل كانت خسارتهم للدراجة التي كانت تحملهم وتحمل أحلامهم بالنجاة، فهي الآن لا تملك حتى آجار عودتها إلى بيتهم.
لم تتوقف طوال الأسبوع عن البكاء على الدراجة، كانت تجهل أن ثمن الدراجة لن يكيفها حتى للوصول إلى الحدود فقط. لم نخبرها بذلك، بل آثرنا السكوت أمام بكائها.
بالرغم من أنها كانت أكثرنا تعرضاً للظلم، لكنها كانت تصرّ على أن وجود داعش كان عقوبة إلهية لانشغال الناس بالنفط، وتركهم هدف خروجهم لإسقاط النظام.
في المساء بدأ التحقيق والتعذيب اليومي، ولسوء حظنا كان في الباب ثقب كبير يطل مباشرة على غرفة التعذيب المقابلة لنا. مجموعةٌ من الجلادين يرتدون الأقنعة ويغطون عيون السجين بقناع أسود أيضاً، كانوا يسألون السجناء، ومهما كانت إجابتهم ينهالون عليهم بالضرب بالسياط وبأيديهم وأقدامهم، وعندما يتعب أحدهم كان يسلّم سوطه للآخر. كانوا يقفزون حول الضحايا بكل رشاقة كأنهم يرقصون، يضربونهم من كل الجهات وبكل الوسائل، حتى صرت أتخيلُ أنهم يقفون على السطح ويتحركون على الجدران وهم يتفننون بالتعذيب. لم يسبق لي أن رأيت تعذيباً مباشراً بهذا العنف، أغمي عليَّ مرتان، وكنتُ كلّما استعدتُ توازني أعود إلى الثقب للمشاهدة، وكأنه واجبٌ علينا أن نتلقى الضربات معهم، أن نحقد ونكره أكثر.
بدأنا بضرب الباب والصراخ عليهم: «أخرجونا، لا يحقّ لكم اعتقالنا… اجلدونا الآن لنخرج». أثار صراخي غضب أحد السجانين، ففتح النافذة ووضع عينه في عيني وأجابني: «أنا ناطر القاضي أكثر منك بس لأجلدك أنت بذات».
كم تمنينا وقتها لو بقينا في الزنزانة القديمة، حتى لو اختنقنا برائحة الحمّام وتفسخنا وتم نسياننا هناك. كان ذلك أفضل من رؤية ما نراه الآن، وحوشٌ بشريةٌ تمارس الإجرام في سبيل البقاء، شراسةٌ لا يمكن للإنسان العاقل أن يستوعبها.
انهارت ابنة أخي الصغيرة التي حاولنا منذ البداية ألّا نوضح لها أننا في السجن، ولكن لم يعد الأمر الآن ممكناً، فهي تعي وتسمع أصوات الضرب. كانت تبكي ولا تصدر أي صوت، تضع يديها على عينيها أغلب الوقت، أو تخفي رأسها في حضن أمها، ولم تتحدث أبداً. الناجي الوحيد من تلك المجزرة النفسية كان ابن فاطمة.
انتهى التحقيق بعد ساعات، خلعوا الأقنعة وعادوا للّعب بهواتفهم. عرفتهم الآن، الجلاد المغربي أبو سلمان كان يعيش في السجن مع ولده الذي لم يبلغ العاشرة من عمره، هذا الرجل كان بحجم ثلاثة رجال، وسيتضح لنا لاحقاً أنه السفاح ذاته الذي نراه في إصدارات التنظيم في الرقة. إضرابنا عن الطعام وفقداننا للشهية لم يكن عبثاً إذن، لأن أيدي من يعدُّ لنا الطعام كانت ملوثة بالدماء. الجلاد الآخر كان الشاب التونسي الذي جادلني في اليوم الأول، وشاب آخر لم يقترب من زنزانتنا أبداً. لن أنسى ما حييت وجوههم وحركات أيديهم وأصواتهم البشعة.
بدأتُ أشعرُ بفقدان قدرتي على التنفس، فقد لوثوا كل الهواء الذي في المكان. عندما كنتُ في منزلي، وبعد كل عملية قصاص، عندما تتسلل إلى عقلي بعض الأفكار التي من الممكن أن تزعزع إيماني بقضيتي، كنتُ أخرجُ من المنزل وأبدأُ بالسير في مكان يخلو من البشر لأُبعِدَ تلك الأفكار عن عقلي. وحدها الطبيعة كانت كفيلة بشفائي، ولكن الآن في هذه الزاوية السوداء لم يكن أمامي سوى النوم لقمع عقلي المثقل.
استيقظنا على صوت الباب عندما أحضروا سجينة جديدة، اسمها «سميرة». كانت من مدينة الطبقة، وتمّ إلقاء القبض عليها بتهمة السرقة. لم تتوقف عن بكاء زوجها المريض الذي لا يستطيع الحركة وبقي لوحده في المنزل: «هسا يقول شردت مرتي وتركتني». هنا صببتُ جام غضبي عليها: «أنت في هذه البقعة المغضوب عليها، وفي حال عدم عودتك، سيكون التفسير المنطقي الوحيد هو أنكِ قد قتلتِ في إحدى الغارات، أو تم اعتقالك لمخالفة شرعيّة. لا يوجد خيار ثالث». هدأت قليلاً وشعرتُ بأنها اقتنعت، ثم عادت للعويل وضرب رأسها بيديها حتى المساء، عندما جاء التاجر الذي ادعى عليها وأخرجها.
عندما فتحوا لها الباب حملت حذاءها بيدها وركضت إلى الخارج حافية. من شدة سعادتها نسيت ارتداءه، ولعلّ كل تلك السرعة كانت لتبشرّ زوجها أنها كانت في السجن ولم تَشرُد. عاد الصمت ليخيم على المكان، لقد كان وصول سجينات جديدات والاستماع إلى قصصهنَّ يخفّف عنا بعض الشيء.
لم يستمرَّ الهدوء طويلاً، أحضروا دفعة كبيرة من النساء والأطفال فلم يعد هناك مجال للملل أو حتى للنوم. عندما دخلوا كانت بينهم طفلة صغيرة في السابعة من عمرها، تقفُ بشكل غريب وتبكي بحرقة ولا تتحرك من مكانها. ظننتُ أنها تريد الدخول إلى الحمام، فأشرتُ لها إلى مكانه ولكنها لم تتحرك. ظلّت تبكي حتى تأكدَت والدتُها أنه لا يوجد سجانات نساء في المكان، مدّت يدها في ملابس الصغيرة الداخلية وأخرجت النقود، فتوقفت الطفلة على الفور عن البكاء، وكأنها تعي حجم المسؤولية التي كانت تحملها.
لم يعد في الزنزانة مكانٌ حتى لنمدَّ أقدامنا.
الطعام الذي كنا نعيده أصبح لا يكفي الصغار، فقد أكلوا حتى قطع الخبز اليابس المتعفن المرمي في زاوية الغرفة. كلما ازداد بكاؤهم بسبب الجوع، كان يزداد غضب إحدى الأمهات، فتبدأ بشتم زوجها المغترب: «يلعن أبو أحسن رجال بالدنيا يلي يخلينا نتشرشح بالسجون كرمال نوصله». فيردّ عليها السجان في الخارج: «أخفضي صوتك يا امرأة». هو لا يكترث لأصوات الصغار الجائعين، ولكن يغضبه ارتفاع صوت أمّهم. كانت المرأة تردّ عليه على الفور بضرب صغارها فتبدأُ موجةُ البكاء، كانت تفعل ذلك عمداً لتُغضِبَ السجان. كانت تلك منظومة قمع متكاملة، تبدأ من الحاكم والسجان وتنتهي بالأم والزوج والزوجة، الجميع يمارسون الاضطهاد بحقّ من يملكون سلطة عليهم.
لم تتوقف عن شتم زوجها حتى وأنا نائمة، كنتُ أستيقظُ على صوت شتائمها، وفي أكثر من مرة تمنيتُ لو أن سميرة لم تخرج، كنتُ أريدُ أن أشاهد ردة فعل هذه المرأة على نحيب سميرة على زوجها، سيكون التناقض بينهما مثيراً. لم تترك تلك السيدة مكاناً للملل منذ دخولها، كانت كالتلفاز لا تتوقف عن الكلام، وأنا كنتُ أشغلُ نفسي بالنظر إليها حتى لا أفكّرَ بالقسم الآخر من عائلتي، الذين من المفترض أنهم أصبحوا في حلب، وحتى لا أفكر في مسألة وجودنا هنا.
بقينا على قدم واحدة طوال الأسبوع، حتى نوديَ علينا أن نستعدَّ للخروج أنا وزوجة أخي. أسرعنا إلى إفراغ حقائبنا وارتداء كثيرٍ من الملابس للتخفيف من وقع السوط. أصبحنا جاهزات نفسياً وجسدياً للجلد. كان في الممر رجلان غريبان، فطلب منا أمير السجن مرافقتهما إلى الخارج، حيث كان هناك شباب من عشيرتنا بانتظارنا.
بعد أن تأخرنا في الوصول إلى حلب، أجبرت أمي أفراد العائلة الذين وصلوا إليها على العودة إلى الرقة، لأنها كانت واثقة أنه تم إلقاء القبض علينا. تواصلوا مع أقربائنا في دير الزور، وتمّ إخراجنا لأننا نساء، وللمرة الأولى شعرتُ بالامتنان للعشيرة.
خرج أخي بعدنا بيومين، بعد أن تمت محاكمته وجلده 190 جلدة، أي ضعف العدد الذي جُلِدَ به باقي المساجين. لقد تم جلده عني وعن زوجته أيضاً، فخرج بالكاد يستطيع السير وقد تفسّخَ جلده من الضرب. أخذوا كل نقود السجناء، ولم يتركوا لهم سوى ما يكفيهم للعودة إلى مدنهم وقراهم.
أمّا فاطمة التي لم يفارقنا الشعور بالذنب تجاهها لأننا تركناها وحدها، فقد أخبرنا أخي أنه تم استدعاء زوجها لنقلها هي وابنها إلى المشفى بعد أن تسمموا من الطعام. كانت فاطمة مرضعاً لذلك لم تشاركنا الإضراب عن الطعام، لم يكن ينقصها سوى أن تتسمم ليكتمل شقاؤها.
إضرابنا عن الطعام تحوّلَ إلى مرض فقدان شهية طويل الأمد، فلم نعد نشعر بالجوع أبداً، وأصبح تناولنا للطعام وسيلة لاستمرار الحياة فقط. بقينا على هذه الحالة لأشهر، حتى أصبحتُ لاحقاً أحسدُ فاطمة لأنها تسممت فأفرغت كل السموم والإهانات التي تسللت إلى روحها في السجن.
مرَّ أكثر من عام على مغادرتنا سوريا، ولا زلنا حتى الآن نبحث عن فاطمة وابنها بين أسماء الشهداء القادمة من دير الزور. ذلك الصغير الذي خطى خطواته الأولى في السجن ونجى من السم الأسود، هل ساعدته قدماه الصغيرتان في النجاة من مجازر التحرير المزعوم ومن خلافة العصر في الشرق السوري المنكوب.