حسام حزماتي
ضبطت ديكتاتورية حافظ الأسد الحواف الناتئة للتاريخ السوري الحديث. سواء عبر المناهج المدرسية التي تصنع الوعي الوطني الجمعي، أم في الكتب المطروحة في المجال العام بعد خضوعها للرقابة.
سلمان المرشد أحد أبرز الشخصيات الإشكالية السورية في النصف الأول من القرن العشرين، خاصة مع استمرار تأثيره من خلال الطائفة التي نشأت على يديه وعُرِفت باسمه. وبعد طول غموض بدأت الكتابات عن هذه الدعوة/ الحركة تظهر بحذر وبطء. فنشر محمد جمال باروت مذكرات أحمد نهاد السياف، أول مدير وطني لشركة حصر التبغ والتنباك (الريجي) في اللاذقية، والذي تولى الوساطة بين الحكومة والمرشد عندما تأزمت العلاقة بينهما أخيراً، في كتاب بعنوان «شعاع قبل الفجر» (2005). ونشر ابن المؤسس، نور المضيء المرشد، كتاب ذكريات وشهادات ووثائق باسم «لمحات حول المرشدية» (2007). وأعدّ الدكتور عبد الله حنا دراسة تاريخية بعنوان «المرشدية في محيطها العلوي وأجواؤها السياسية والاجتماعية 1933-1946» (2015). وبين يدينا الآن رواية «سلمان عند جبل العزرا»، بقلم فيصل سامي جزعة، وهو مدرّس فلسفة مرشدي سبق له أن أصدر رواية «سنونو الجبل» عام 2009. أما روايته عن المرشد فاعتمدت على محكيات شفوية متناقلة في البيئة المحلية، مدعومة ومحفَّزة بما ورد في الكتابين الأولين المشار إليهما أعلاه. فجاءت، بشكل وثائقي، في 480 صفحة. صدرت عن دار رؤية بالقاهرة سنة 2019، وحازت موافقة التداول في دمشق.
وفيها يغور الجانب الديني لشخصية المرشد إلى الثنايا. ولا يكاد يحضر بشكل واضح إلا مرة واحدة وفي سياق النفي، حين يقول سلمان للقاضي والمدّعي العام اللذين مثُل أمامهما: «لو أنني رب كما تدّعون، ما كنت خلقتكم»، إنكاراً للفكرة الشائعة عن ادعائه الألوهية. فيما تقدّمه الرواية بصيغة الثائر الطبقي والمصلح الاجتماعي الذي استنهض أبناء عشيرته (الغسانية) لرفع الظلم التاريخي عنهم.
ترصد الرواية حياة سلمان منذ ولادته في جوبة برغال أواخر 1907، كابن بكر لمرشد يونس، وحتى إعدامه في دمشق أواخر 1946. مروراً بنشأته راعياً لعدد قليل من رؤوس الأغنام والماعز التي تملكها أسرته، وإطلاقه «صيحته» الدعوية الأولى في 1923، وهو في السادسة عشرة. ثم زواجه، بعد ذلك بسنتين، بهلالة محمود حسن، وهي ابنة شيخ معروف من دير ماما آمن بأقواله، ستصبح أحد أهم داعميه وتُعرف بلقب أم فاتح. ثم نفيه إلى الرقة لأكثر من سنتين بسبب دعمه تمرداً محلياً ضد الفرنسيين. وعودته وانتشار حركته بين العلويين في أرياف اللاذقية وحمص وحماة وسواها. ودخوله المجلس النيابي منذ عام 1937، حيث اصطف مع الزعيم المعروف عبد الرحمن الشهبندر،
وخاض معارك لتمكين جماعته وكانت له صدامات مع كبار الملّاك.
والرواية تقدّمه كشخص ذي مناقبية عالية. يأمر أتباعه بالصمت والصبر على ما يعانونه من عذاب وظلم على يد الدرك، مما «يذكّر بأشجع وأعظم مناضل في القرن العشرين ألا وهو المهاتما غاندي» على حد قول المؤلف الذي لا يغفل، في موضع آخر، عن التفصيل في أن عضو البرلمان سلمان المرشد أسس، بين عامي 1938 و1943، قوات مسلحة خاصة أطلق عليها اسم «الفداية»، تكونت من أربعمئة رجل. مبرراً بأن للجماعة أعداء كثراً، «ولم يكن من يحميهم ويدافع عنهم».
يجدل الكاتب بين دعوة مهدوية هامشية بشّر بها سلمان وبين متن حياته التي يصوّرها بشكل يساري. ففي يفاعته كان الرعي عند جبل العزرا بالنسبة إليه خروجاً عن الواقع إلى عالم الفضاء الرحب، يلقي همومه في ذلك الاتساع من الطبيعة الواقعية، والاتساع الأكبر الذي يسمى «الاتساع الروحي» الذي حوى «الكثير من التنبؤات» التي عايشها الفتى ذو الرابعة عشرة فحذّره والده من أن يخبر بها الناس: «لأن أحداً لن يصدق ما تقوله».
لكن رفاقه لاحظوا أن «عينيه تشعّان بشكل غريب»، حتى قبل أن يبدأ جولاته على سكان بعض القرى «يحضّهم على الوعي وعلى التكاتف جنباً إلى جنب وعلى أنهم أناس مضطهَدون في هذه الأرض، والمضطهَد يجب أن يكون أخاً للمضطهَد، وإن المهدي سوف يأتي يرفع الراية المنتصرة». وحتى المهدي الذي سيأتي «ليملأ الأرض عدلاً بعدما مُلِئت جوراً» كالمعتاد، يحمل طابعاً علمانياً كما ينقل الكتاب عن المرشد: «لقد جاءني هاتف هتف في أعماقي وفي روحي بأن الفرج قريب وأنكم، وجميع المضطهَدين في هذا العالم سوف تلتقون بمن يخلصكم من هذا الظلام الذي تعيشون به». سينثر المهدي «بذور الفرح والحب ويكافح مع الفقراء كي ينالوا حقوقهم». وسلمان، بحسب الكتاب، هو «الزعيم والمرشد الروحي لهذه العشيرة» لا أكثر، والعامل على بث تعاليم العدالة هذه عبر «الأقطاب الثمانين» الأوائل.
بالضبط كما كان يفعل البعثيون. إذ كان الحزب يومئذ حديث النشأة، و«الرفاق البعثيون يعانون نفس معاناة جماعة “سلمان” من الظلم والاضطهاد، وكانت كلمة “البعث” تعني الكفر بحد ذاته بالنسبة للإقطاع والحكومة» الذين يحتلون هنا موقع الشيطان الحقيقي.
لا تتورع الرواية عن تسمية عائلات إقطاعية محلية بأعيانها. وأبرزها «آل شريتح» الذين كانوا «يعملون عند العثمانيين، وعندما تم طرد العثمانيين من البلاد لم يجد هؤلاء بدّاً من التعلق بالفرنسيين والبريطانيين، وعندما لم يكن حظ الفرنسيين والبريطانيين بأفضل من حظ الذين سبقوهم، لم يكن من “آل شريتح” سوى التمسك بآخر منقذيهم تجار “الكتلة الوطنية”» التي يخصّها بسدرة منتهى الشر. ويرى أنها سُمّيت بالوطنية «زوراً وبهتاناً»، في حين يجب أن يكون اسمها «الكتلة “البورجوازية – الإقطاعية”». فقد انتقلت البلاد على يدها «من احتلال إلى احتلال» حكمها زعماؤها الشهيرون من «إقطاعيي المدينة» الذين «لا يريدون لغيرهم أن ينعموا بأي شيء». ويحدد المؤلف هنا أسماء من نوع شكري القوتلي (الذي يذكر أن المرشد اصطدم معه جسدياً في إحدى جلسات البرلمان) وهاشم الأتاسي وسعد الله الجابري ولطفي الحفار وجميل مردم وصبري العسلي ومصطفى الشهابي. فهؤلاء كانوا السلطة السياسية العليا التي مثلت الخصوم المحليين كآل شريتح ونعمة وطريفي في اللاذقية، وسويدان في حمص، والبرازي في حماة، وسواهم. حتى أطاح بهم جميعاً انقلاب حزب البعث في 8 آذار 1963، حين تولى السلطة «بالضربة الفنية القاضية»، على حد تعبير الرواية…
المصدر: تلفزيون سوريا