جسر – صحافة
هناك سوء فهم بين أهالي السويداء وبشار الأسد. سوء فهم أوصلهم بدءاً من يوم الخميس الفائت للنزول إلى الشارع، بالتظاهر وقطع الطرقات بالحجارة والإطارات المشتعلة، احتجاجاً على إجراءات رفع دعم الخبز والوقود عن بعض الشرائح التي ترى “الحكومة” أن وضعهم المعيشي لا يستلزم الدعم. وهو قرار يستهدف حسب المعلن رفع الدعم عن 15% من السوريين، ومَن هو محسوب على هذه النسبة سيشتري ربطة الخبز بـ1300 ليرة بدل 250 ليرة، وأسطوانة الغاز بـ29682 بدل 9700 ليرة. يُذكر أن بشار الأسد قد أصدر قراراً بزيادة الرواتب في منتصف كانون الأول الماضي، للمرة الثانية خلال عام2021، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 92970 ليرة، أي ما يعادل 37 دولاراً وقت صدور القرار. لنلاحظْ أن الرقم محسوب بدقة تامة، فهو ليس 93000 ليرة! أي أن من يعمل بالحد الأدنى للأجور، هذا لمن يعثر على عمل، يدفع 10% من أجره ثمن أسطوانة غاز فقط، وما نسبته 18.5% ثمن الغاز والخبز معاً، عندما يحصل عليهما بأفضل سعر.
سوء الفهم من جهة أهالي السويداء يبدأ من افتراض وجود خلل يمكن تصحيحه باحتجاجهم، وبتجاوب بشار الأسد معهم. هناك في بعض التظاهرات من هتف “حرامية.. حرامية.. سلطة حرامية”، لكن إذا كان المعني بالهتاف هو أعلى مستوى من السلطة فسيكون المطلوب إسقاطه، أي أن الحل لا يكون عنده بل لا يكون بوجوده أصلاً. في التحديد، هناك هتافات وأشخاص تحدثوا عن فساد حكومي ليس بالجديد، وقد لا يُحلّ بذهاب الحكومة الحالية. هؤلاء وضعوا لبشار خريطة طريق تبدأ بإقالة الحكومة، وتستمر مع اتباع نهج أقل فساداً من قبل. يُذكر أيضاً أنه كان قد اتخذ إجراءات يُفترض أنها أبعد من إقالة حكومة، فهو قد قضى على إمبراطورية شريكه وابن خاله رامي مخلوف، ثم طالت الحملة المزعومة على الفساد جزءاً من ثروة طريف الأخرس عمّ زوجته. ذلك لم يمنع تدهور الأوضاع المعيشية، بل تفاقم بؤسها الذي لا يكفي ربطه بكون تلك الحملة استيلاء على ثروة فاسدين كبار من قبل فاسدين أكبر.
نحن نتحدث عن سوء فهم من حيث الشكل، بمعنى أنه قد يكون متعمداً، وقد يكون أصحابهم واعين جداً له. فمطالبة بشار الأسد بالحل، واستثناؤه من جوهر مشكلة الفساد، لا يعكسان بالضرورة فهمَ الأهالي. إلا أنه يتحركون ضمن المساحة التي يرونها متاحة، ورفعُ شعارات بسقف أعلى يجعل الصدام محتماً، ولا يُستبعد أن يكون بشار نفسه متلهفاً لشعار يعطيه ذريعة استخدام العنف ضدهم. فعلياً، كان أفراد من قناصة أمنه وشبيحته قد توزعوا على الأسطح أثناء تظاهرة مدينة السويداء يوم الأحد، بما يذكّر بكيفية تعامله مع المظاهرات التي انطلقت في آذار2011.
يذكّر أهالي السويداء الأسد بأنه السلطة المسؤولة عن معاناتهم، لا فقط السلطة بوصفها أجهزة جيش ومخابرات وشبيحة لقمعهم. هذا هو فحوى التحرك الاحتجاجي، بعد أن وصل بهم البؤس إلى قعر لا يُطاق. ومن خلال شعاراتهم يستبعدون الذرائع التي لطالما ساقها الأسد نفسه أو أبواقه، من أولوية التصدي لـ”الإرهاب” وصولاً إلى “استكمال المؤامرة الكونية بالحصار على سوريا”. التواطؤ على قبول تلك الذرائع انتهى، والمحتجون يشيرون إلى السبب الحقيقي؛ إنه فساد السلطة، ولو لم يصل بهم الأمر إلى تسمية رأس الفساد.
هناك سوء فهم أيضاً من جهة بشار الأسد، فهو في مستهل الثورة عام 2011 زار السويداء لضمان ولائها، وتعاطى بتسامح من غير طبيعته مع مظاهرات لشبابها ثم مع حركة “مشايخ الكرامة” قبل الانقضاض عليها لاحقاً. ذلك كله في الطور الذي كان يراهن فيه على مواليه وتحالفاته للبقاء في الحكم. تغير الأمر تدريجياً مع التدخل المكشوف لإيران وحزب الله، إذ صار الفضل لهما ببقائه، ليأتي التدخل العسكري الروسي ويحسم السيطرة الميدانية نهائياً لصالحه.
مع هذه التطورات، لم يعد بشار بحاجة إلى السوريين كمدافعين عنه، وأقصى حاجته إليهم أن يستخدمهم كرهائن بؤساء يبتز بمعاناتهم الخارجَ. إنهم جزء من نهج يعتمد على التلويح بالإرهاب كبديل، والتلويح بالإرهاب الناعم “تجارة المخدرات والكبتاغون”، والتلويح بالرهائن الذين تودّ الغالبية منهم الهجرةَ وترك البلد له ولشبيحته وفساده. هنا أيضاً سوء فهم من بشار الأسد، إذ يفترض أن نصره العسكري “بغير السوريين” يعفيه من المسؤوليات إزاء السوريين الواقعين تحت سيطرته ورحمته.
ثمة درس يعتقد بشار أنه كافٍ لإفهام السوريين الواقعين تحت قبضته، وهو أن قوى الخارج المؤثرة موافقة على بقائه، وأن من ثاروا عليه كان مصيرهم الإبادة والتنكيل والتهجير، علماً بأن الأخير لم يعد بمثابة تهديد. وهو قد اعتاد قيام مخابراته بإزالة أي سوء فهم من عقول المحتجين، أو إزالة المحتجين أنفسهم من الحياة. غير أنه يخطئ في التقدير من جهتين، الأولى تتعلق باندلاع الاحتجاجات في أماكن لا يستطيع فيها وصم المحتجين بالإرهاب، كما في مثال السويداء، وأيضاً يخطئ في اعتقاده أن مَن ينظر إليهم كعبيد في مزرعته لن يحتجوا إذا منع عنهم أبسط مقومات العيش. هو لا يتوقف عن إظهار سوء فهمه الشديد للسلطة، وحتى سوء فهمه الشديد للاستبداد.
أمران لا يرى وريث الاستبداد أنهما من مسؤولياته بحكم كرسيه الذي يتشبث به؛ أولهما أن الطغيان مهما بلغت شدته لا يقوم فقط على سحق الأهالي بالجيش والمخابرات والشبيحة، فهذا الشق هو مخصص أصلاً للعقاب ولإرهاب من تسوّل لهم أنفسهم الاحتجاج على مظالم الحكم. حالات شاذة جداً وعابرة في التاريخ قامت فيها سلطة ما على مجرد التوحش، من دون أن تلتزم بالحد الأدنى من مسؤوليات الحكم إزاء محكوميها. أيضاً حالات شاذة وعابرة تلك التي رأت فيها عصابة حاكمة أنها بغنى عن السياسة مطلقاً، أي استغنت عن الحد الأدنى من السياسة لتقيم من خلالها تحالفات داخلية فلا تكتفي طوال الوقت باستخدام العنف، أو رأت فيها تلك العصابة أنها بغنى عن السياسة الخارجية، ولو اضطرها ذلك إلى توسل الحماية والوصاية.
هي حالة نادرة من سوء الفهم سببها الاستثناء الأسدي، فلدينا سلطة حظيت بتسامح مع جرائم الإبادة وجرائمها ضد الإنسانية، والمطلوب منها داخلياً فقط الاكتفاء بمستوى من الفساد لا يؤدي إلى موت محكوميها جوعاً، والمطلوب منها خارجياً التحلي بقليل من السياسة لئلا يكون التطبيع معها تطبيعاً مع الجريمة المحضة. في المقابل هناك سلطة لا تلبي هذا المطلب ولا ذاك، لسان حالها أن هذا كثير عليها وتعجيزي لها. سوء الفهم يبدأ عندما لا نصدّق أنها على حق، وأنها لا تستطيع أن تكون سوى ما هي عليه.
المصدر: موقع المدن