عبد الناصر العايد
توالت في الأيام القليلة الماضية أنباء تفيد بمعرفة وموافقة أميركية على تطبيع الدول العربية لعلاقاتها مع نظام الأسد، لكن تلك الانباء لم تؤكَّد إلا يوم الخميس الماضي، عندما أدلى جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي، بخطاب حول سياسات واشنطن تجاه الشرق الأوسط، والذي لم يكتف بوضع النقاط على الحروف حول عمليات التطبيع الجارية سواء مع نظام الأسد أو إيران، بل رسم السياق الذي ستجري فيه الأحداث في المنطقة “خلال العقود الثلاثة أو الأربعة المقبلة”، على حدّ تعبيره.
لقد تناقلت المعارضة السورية، المعزولة بشكل كامل عن مشاورات ومجريات عملية التطبيع مع النظام، خبراً يقول إن مسؤولاً سعودياً التقى برئيس هيئة التفاوض السورية المعارضة، وقال له: “نحن نقوم بالتطبيع بالتنسيق مع واشنطن”. وتأكد جانب من هذا الزعم خلال زيارة وفد من الائتلاف وهيئة التفاوض إلى واشنطن، إذ تم تجاهله وإلغاء مواعيد مبرمجة معه في اللحظة الأخيرة، ثم ردد السفير الأميركي السابق في سوريا جول رايبرون ما يشاع بلغة اتهامية قائلاً أن واشنطن أعطت الضوء الأخضر للدول العربية للتطبيع. وفي الواقع، لم تتردد الخارجية الأميركية في الإعلان عن اتصال بلينكن بنظيره السعودي، عقب كل زيارة ولقاء مع رأس النظام أو وزير خارجيته، ومؤخراً صعد الحديث عن صفقة لإطلاق سراح الصحافي الأميركي أوستن تايس، ويبدو من القراءة الأولى إن الأميركيين لم يقاوموا التطبيع العربي إذا كان سيثمر حصولها على هذه الجائزة من النظام.
لكن الصورة أصبحت أكثر وضوحاً مع الخطاب العجول الذي ألقاه مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ونفى فيه ما يشاع عن تخلي واشنطن عن الشرق الأوسط، لكنه نبّه بلغة مشفرة إلى أنها لا تنظر إليه بمنظور 2003، بل بمنظور 2023، أي ليس من زاوية الحرب على الإرهاب الجهادي، فتلك حقبة طويت وتم تجاوزها، والصفحة الآن هي 2023 وما بعد، المخصصة للصين. سوليفان أعلن أيضاً أنه سيطلق في زيارته، السبت، إلى منطقة الخليج العربي تحالفاً جديداً رباعياً يضم إلى جانب بلاده كلاً من العربية السعودية والإمارات والهند، وهذا طوق آخر حول الصين التي يريد الأميركيون تكبيلها جيداً قبيل المواجهة الكبرى. كما أكد المستشار أن واشنطن ستواصل الردع الاستباقي في منطقة الشرق الاوسط، وأن بلاده لن تسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي، وكل الخيارات متاحة لمواجهة ذلك، بما فيها منح إسرائيل حرية التصرف.
وأثار سوليفان نقطة تفصيلية، لا بد أنها ذات مغزى لقادة دول الخليج العربي، عن “تكامل الدفاعات الجوية في الشرق الأوسط”، وهذه تعني وضع اللبنة الأولى لمظلة أمنية تضم إسرائيل وبعض دول المنطقة مع التزام أميركي، أي ما يشبه مظلة حلف الناتو، وهي مطلب سعودي عتيد تسبب رفضه في دوائر القرار الأميركية بالجفوة المعروفة بين البلدين في السنوات الأخيرة. لكنه، من ناحية أخرى، قال إن بلاده شجعت السعودية على التقارب مع إيران لأن ذلك يتماشى مع توجه واشنطن الأساسي لخفض التصعيد، مع استمرار الضغط على طهران.
وكشف أن واشنطن عملت عن كثب مع الرياض في المفاوضات التي جرت في العراق وعمان مع الجانب الإيراني. وأعلن المستشار أن ذروة ما يسعى إليه هذا المسار هو استكمال التطبيع بين دول المنطقة وإسرائيل، وقال بالحرف الواحد إن “الوصول إلى التطبيع الكامل هو مصلحة أمن قومي معلنة للولايات المتحدة، وقد كنا واضحين بشأن ذلك”. واعتبر أن فتح الأجواء السعودية والعمانية في وجه الطيران الإسرائيلي، هو الخطوة الأخيرة التي تسبق التسوية الشاملة بين السعودية واسرائيل. وتابع: “الآن كدليل على جديتي بشأن مدى تركيزنا على هذا، ومدى جديتنا، فإني لن أقول أي شيء آخر كي لا أحبط الجهود التي نبذلها بشأن هذه القضية”.
من منظور العلاقات الدولية، وفي لحظتها الراهنة، يعني الكلام أعلاه أن واشنطن انتهت من ترتيب شؤون أوروبا وأوقفتها على قدميها عسكرياً لتصبح قادرة على الدفاع عن نفسها وعن الولايات المتحدة، ضد الخطر الروسي، الذي جرى استنزافه وامتصاصه في العمق خلال الحرب الجارية في أوكرانيا. وانتقلت واشنطن الآن إلى المربع التالي على رقعة الشطرنج، أي الشرق الأوسط، حيث الجوار القريب للصين، وهي تريد من قادته أمرين رئيسيين هما: المصالحة والاستقرار، والتطبيع مع إسرائيل. أي شرق أوسط لا يثير المتاعب التي لا تنتهي، وقادر على انتزاع أشواكه بيديه شأنه شأن أوروبا، خصوصاً مع الخطر الذي يكمن داخله وهو التطرف الديني، الذين يتوجب على السلطات الإقليمية أن تتعامل معه بنفسها، كما تريد واشنطن أن تضع حداً للصراع العربي الإسرائيلي الذي يولد عدداً كبيراً من التوترات الإقليمية والدولية.
وإذا أردنا استخلاص إيجاز سوري من الخطة الواسعة أعلاه، فإننا يجب أن نبدأ بالتفكير من إيران المدعوة الآن للمصالحة والتعاون في جعل المنطقة أكثر استقراراً، ولا يبدو أن مستشار الأمن القومي متفائل لهذه الناحية. فلا الحكم الديني القائم في إيران يمكنه الانسجام مع هذه الرغبات الأميركية والتكيف معها، ولا تحالفه المتصاعد مع الصين وروسيا يسمح له بانعطافة بهذه الشدة، ولا وضعه الداخلي القلق يسمح له بالتفريط بطموحاته الخارجية التوسعية أو الاحلام النووية. ويبدو أن ما سكت عنه المستشار هو اعتبار إيران جزءاً من المعسكر الصيني المعادي، أو اطرافه وحواشيه التي ستعامل بالردع ما دامت لا تستجيب للدبلوماسية، وسيكون الردع سهلاً على دول الإقليم ذاتها في ما لو حدثت المصالحة الشاملة بين العرب وإسرائيل.
لكن هذا الشمول لن يتحقق، ما لم يطبّع نظام الأسد مع تل ابيب، بل أن دولة مثل السعودية وبمكانتها، لن تستطيع أن تطبّع مع إسرائيل فيما يرفض ذلك نظام متضعضع مثل الذي في دمشق.
وبكلمات قليلة، جوهر العرض الحالي هو تعويم نظام الأسد مقابل تطبيع العلاقات بين سوريا وإسرائيل، ولهذا السبب يتم تجاهل المعارضة التي لا تملك الحق في التوقيع أو التفاوض، فما الردّ الذي يمكننا توقعه من النظام؟
إن قراءة تاريخ نظام الأسد، والتمعن في عقيدته المكرسة لبقائه فقط، والتي تقوم على القفز بين المتناقضات، تفيد بأن رأس النظام يستطيع أن يركل إيران خارجاً، يوم تمنحه الولايات المتحدة وإسرائيل وعداً بحمايته واعتماده حارساً دائماً لاتفاق سلام خلال الحقبة السياسية المقبلة التي تمتد من ثلاثة إلى أربعة عقود، كما ذكر مستشار الأمن القومي الأميركي في خطابه، بل قد يكون نظام الأسد قد عرض بنفسه هذه الورقة، ثمناً لإنهاء التهديدات التي تواجهه داخلياً وخارجياً.
لكن، من جهة أخرى، لا بد أن رأس النظام يفكر في عواقب طرح ورقته الأخيرة والوحيدة تلك من يده، فلا شيء يضمن ألا يثور عليه السوريون مجدداً، وفي ظل تراجع القيمة السوقية لسردية الإرهاب السني والحرب عليه، كيف سيستطيع مواجهة انتفاضة جديدة بل ربما أقوى من سابقتها، من دون يهدد سقوطه أمن إسرائيل ومن دون الحليف المذهبي الإيراني؟
المرجح، إذ صحت قراءتنا السابقة، أن نظام الأسد سينخرط في مفاوضات تطبيع طويلة المدى، تمنحه الاستقرار والأمان في هذه المرحلة، ويحاول تدريجياً استعادة أنفاسه وقوته، وترسيخ شراكات جديدة على أسس جديدة، قبل أن يتخذ قرار التطبيع النهائي، والتخلي عن إيران، وكلاهما لن يحدث في المدى المنظور.
المصدر: المدن