عبد الناصر العايد
في العام 2023، لن تسير الأمور في سوريا على المنوال الذي نشأ ابتداء من 2011، فالتناقض على طول الخط بين النظام والمعارضة لن يستمر في التباعد، ولن يتجاوز معدلاته الحالية، بل سيبدأ كلا الطرفين بالانحناء لبعضهما البعض، ويتقارب طرفاهما الأكثر تعارضاً ليدنوا من بعضهما البعض، كما تتقارب نهايتا حَدوَة الفَرَس، وليطغى توافق المصالح بالتدريج على تضارب الشعارات.
نظرية حَدوَة الفَرَس معروفة في الفلسفة السياسية، وأول مَن استخدمها الكاتب الفرنسي المعاصر جان بيار فاي Jean-Pierre Faye، وهي تجادل بأن أقصى اليسار وأقصى اليمين يشبه أحدهما الآخر، في الواقع، شبهاً كبيراً. وأن المنحى البياني للتموضع السياسي ليس خطاً مستقيماً يستمر في الابتعاد عن المركز. وأن نهايتيه، اليمن واليسار، يقتربان من بعضهما البعض في نهاية الأمر كما يقترب كل طرف من طرفي حَدوَة الفرَس من الطرف الآخر، أي أن المتطرفَين يشبهان بعضهما البعض. والمثال الذي تعتمده هذه النظرية في العلاقات الدولية هو اللقاء الشهير بين هتلر الفاشي وستالين الشيوعي، وتوافقهما في بداية الحرب العالمية الثانية من خلال ميثاق مولوتوف-ريبنتروب، لكن النظرية تستخدم أيضاً على نطاق واسع لتحليل وتفسير الكثير من الظواهر السياسية داخل البلد الواحد، وقد استخدمت بشكل ملحوظ في السياسة الفرنسية الراهنة، وفي حقبة ترامب في الولايات المتحدة الأميركية.
إن اعتقادنا بأن “حَدوة الفَرس” يمكن استخدامها لاستقراء الحالة السورية للعام المقبل ليس قراءة تأملية تثيرها مصادفة ما على صعيد المعرفة النظرية، وما يدفعنا إلى تبنيها حدث محوري قد يكون نموذجياً للتدليل على صلاحية تلك النظرية في مراحل معينة من التاريخ. والحدث هو الانعطافة التركية الحادة نحو نظام الأسد والمعسكر الذي ينتمي إليه، حيث لا بد من التساؤل حول المفارقات الأيديولوجية والأجندات المعلنة للطرفين، والتي تم تجاوزها بضربة واحدة، سواء لجهة الحقوق أو العدالة أو الموقف السياسي، أو حتى على صعيد الانتماءات بشقيها الديني/المذهبي والإثني، وأخيراً على صعيد المصالح الاجتماعية والسياسية للفئات التي يمثلانها.
ولأن المقام لا يتسع، سنكتفي هنا بتفحص حالة الطرفين الأكثر بروزاً في المشهد السوري، أي القوى السياسية والعسكرية المعارضة التي ظهرت على خلفية الثورة الشعبية السورية، والمدعومة من تركيا وبعض الدول العربية والعالم الغربي، والأسد ونظامه الحالي الذي تكوّن حول هدف قمع تلك الثورة، والمدعوم من إيران وروسيا وبعض الدول العربية. وبالنظر إليهما عن كثب نجد أنهما ربما لا يختلفان سوى في “الأيديولوجيا” التي يرفعها كل منهما كشعار معاكس للآخر، إذ أنهما يتوافقان في الواقع في أساليب العمل والتصورات كافة، سواء من حيث العنف، أو تبني مواقف ذات أبعاد طائفية ودينية وإثنية، والارتكاز في الحصول على القوة على حليف خارجي بالدرجة الأولى، يتجردان أمامه من كافة المبادئ والقيم الوطنية، كما يسعيان للهدف المركزي ذاته ألا وهو السلطة. ويقول المحللون المُعتقِدون بالنظرية المذكورة آنفاً، أن الرغبة في السلطة تقلل من الاختلافات بين أجندات الطرفين، وتجعل مصلحتهم الرئيسية، لا إفناء قوى بعضهما البعض في القتال، بل الحصول على القوة ومراكمتها لإخضاع المحكومين الواقعين تحت سلطتهم.
وبطريقة عملية، سيجد نظام الأسد، والمعارضة المكرسة بالاعتراف الدولي أو بشرعية السلاح، أن كلاً منهما يمكن أن يكون مفيداً للآخر، وأن مصلحتهما الآن تكمن في توافقهما وسيرهما معاً، إن لم يكن على طول الخط، ففي هذه المرحلة على الأقل التي يستطيع فيها كل منهما إلحاق الأذى بالآخر، وأن الظروف مواتية لاقتسام جِلد الدب بدلاً من تمزيقه. فالمكاسب الاقتصادية على وجه التحديد تقتضي وقف النزاع العنيف، وتنمية السلطة السياسية تحتاج إلى الهدوء، وانحناء كل طرف للآخر والاعتراف به.
أما بالنسبة للقابعين في الوسط بين طرفي الحَدوَة، أي الكتلة العقلانية التي حافظت على الاعتدال طوال مراحل الصراع، وتمسكت بالسِّلمية، أو كانت أقرب إليها، وبالوطنية والحلول الراسخة المستدامة المستندة إلى الديموقراطية وتداول السلطة والانتخابات،.. فموقف هؤلاء اليوم ليس على ما يرام. الجزء الواقع منهم تحت سيطرة النظام والمعارضة، أُنهك إلى ابعد الحدود، وهو سيقبل الخلاص بأي ثمن. أما الجزء الآخر، وهو المهاجر أو اللاجئ، فسيكون موقفه غير مبال بهذا التحالف، على اعتبار أنه لا يؤذيه طالما أنه لا يقع تحت سلطة التحالف الناشئ. وبالتالي فإن العزوف والاستقالة من الشأن العام، والخروج الصامت من الصراع الاجتماعي السياسي، ستكون ردود أفعال الغالبية العظمى من السوريين.
لا بد من الإقرار بأن كثيرين ممن حاربوا نظام الأسد، لم ينضموا إلى صفوف الثورة لأنهم ضد الظلم والاستبداد والوحشية، ولا لأن لديهم رؤية أكثر تقدماً لبلادهم ومستقبلها، بل لأن مصالحهم اقتضت ذلك. وعندما يصبح النظام ومعارضته الحالية قطباً واحداً، فعلينا أن نتوقع انتقال الأوضاع من سيء إلى أسوأ على الصعد كافة، السياسية والاجتماعية والمعيشية، وما لم يُدمَّر في مرحلة تصادم الفاشيتين، سيدمره تحالفهما بالتأكيد، وستعود الكرة إلى ملعب الغالبية السورية ذات السِّمة الوطنية والتوجه الديموقراطي ليصبح البحث عن مَخرج عقلاني استحقاقاً لا مفر منه، إن لم يكن في هذا الجيل، ففي الجيل التالي.
المصدر: المدن