جسر: متابعات:
فريدريك سي. هوف٭ – (مجلس الأطلسي) 15/10/2019
على مدار أكثر من ثماني سنوات، بذل هذا الكاتب قصارى جهده لمحاولة إقناع المسؤولين الأميركيين بأن ما يحدث في سوريا لا يبقى في سوريا؛ بأن سوريا مهمة بما يكفي لأمن الولايات المتحدة وسلامة مواطنيها بحيث تستحق أن يكون لعمل أميركا فيها هدف مفهوم واستراتيجية متساوقة (وإن كانت مرنة).
وقد فشل هذا الجهد، داخل الحكومة وخارجها، وساعد رئيسان أميركيان متتاليان، كانا على يقين تام بأنهما يعرفان كل شيء ولا يحتاجان إلى أي نصيحة، ربما عن غير قصد، وإنما بشكل حاسم، عمل خصوم أميركا. والآن، بعد أكثر من ثماني سنوات من الاستجابات للنكسات غير المبررة بمقترحات محددة بشأن أهداف الأمن القومي واستراتيجية مصاحبة مزودة بالموارد كافة، تطرح الأحداث الأخيرة سؤالاً مهماً: هل ما يزال هناك أي شيء يمكن إنقاذه بعد الخطأ الفادح الأخير؟
إن العادات القديمة تذهب ببطء. ومع أن من الصحيح أن نظام بشار الأسد وإيران وروسيا و”داعش” ربما يكونون هم الذين كتبوا أولاً قصة الغزو التركي وعواقبه، فإن أهمية سوريا بالنسبة للغرب بشكل عام -والولايات المتحدة بشكل خاص- تملي ضرورة إنقاذ شيء ذي قيمة من تحت الحطام. وينبغي أن يكون تسهيل انبعاث “داعش” واستعادة نظام الأسد كامل سوريا أموراً غير واردة.
في الحقيقة، لم تكن هذه التطورات الرهيبة في ذهن الرئيس دونالد ترامب خلال مكالمته الهاتفية في 6 تشرين الأول (أكتوبر) مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وسواء كان قد أعطى “الضوء الأخضر” صراحة أو ضمنياً للغزو التركي للمناطق الكردية في شمال سوريا، فإنه أخطأ كثيراً بترك نظيره التركي مع الانطباع بأن الولايات المتحدة لن تعارض بشكل مادي غزواً تركياً.
كان الرئيس سيفعل خيراً لو أنه اعترض بشدة على الغزو على أساس أن ذلك قد يؤدي إلى تقويض الانتصار الأولي على “داعش”، وسوف يمهد الطريق أمام النظام وإيران للاستيلاء على الأراضي التي حررتها بتكلفة كبيرة من “داعش” قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة. وكان بإمكان ترامب أن يطلب من الرئيس أردوغان تأجيل الأمور حتى يتمكن من جمع آراء مجلس الأمن القومي والتشاور مع القادة في الكونغرس. وكان يمكن أن يوضح لنظيره التركي أن القوات الأميركية ستبقى في مكانها، إلى جانب تصميم الولايات المتحدة على الدفاع عنها من أي تهديد، بغض النظر عن مصدره.
لا شك في أن لدى أنقرة قلقاً حقيقياً من وجود قوة شريكة لأميركا يسيطر عليها الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني. وكانت إحدى التوصيات العديدة التي قدمها هذا الكاتب ورفضها أولئك “الذين يعرفون” أن تقوم الولايات المتحدة بتنفيذ أمر الرئيس باراك أوباما بـ”إضعاف وتدمير” مجموعة “داعش” باستخدام تحالف لقوة برية محترفة من الراغبين بدلاً من أن إسناد العملية إلى ميليشيا، وخاصة واحدة يعتبرها حليف في “الناتو” منظمة إرهابية.
ولا شك في أن أنقرة شعرت بالإحباط والغضب من بطء وتيرة المفاوضات لإقامة منطقة آمنة داخل سوريا. ولكن، لو حاول الرئيس ترامب ونجح في تأخير تركيا، فإنه كان سيتمكن من مضاعفة الجهود الأميركية لتأمين موافقة الأكراد على إقامة منطقة آمنة كبيرة، بحيث يُظهر أن معالجة مخاوف الدولة الحليفة في “الناتو” يشكل أولوية عالية للسياسة الخارجية الأميركية، لكن أميركا ستقوم بحماية السكان الأكراد أيضاً.
بدلاً من دعم استراتيجية فريق الأمن القومي الخاصة بسوريا، استخدم الرئيس المكالمة الهاتفية مع أردوغان ليستجيب لغرائزه الخاصة. وظل الرئيس ترامب ينظر باستمرار إلى الوجود العسكري الأميركي الصغير في سوريا، على العكس من وجهة نظر فريقه، كجزء من سيناريو “الحرب التي لا نهاية لها” الذي ينتقده بشدة، بدلاً من القيام باستثمار فعال لقمع “داعش” والمحافظة على النفوذ الأميركي من أجل إحداث الانتقال السياسي السلمي المتفاوض عليه في سوريا في نهاية المطاف.
من الواضح أن قرار ترامب ببسحب القوات الأميركية يسهل قدوم العديد من النتائج السيئة. يبدو أن “داعش” يعاود الانبعاث. ويجري طرد الأكراد السوريين من منازلهم في الأماكن القريبة من الحدود التركية، ربما ليحل محلهم لاجئون عرب سوريون تتم إعادتهم من تركيا قسراً. ويبدو أن القوة الشريكة لأميركا التي يقودها الأكراد قد توصلت إلى اتفاق يسمح لنظام الأسد، الذي كانت إستراتيجيته للبقاء، والقائمة على القتل الجماعي للمدنيين، قد جعلت سوريا ملاذاً آمناً لتنظيمي القاعدة و”داعش” في المقام الأول، بإعادة تأسيس نفسه في شمال شرق سوريا الخصب والغني بالنفط. وسوف تكون الزينة على هذه الكعكة المسمومة هي المعاملة السيئة لتلك القوة الشريكة، والتي زادت سوءاً من خلال التغريدات الرئاسية المهينة. ويتساءل المرء عما إذا تبقت أي مصداقية لاستراتيجية الانخراط العالمي لوزارة الدفاع على أساس “بِ، مع، ومن خلال”.
وسيكون الرابحون الكبار هنا هم روسيا، وإيران، ونظام الأسد و”داعش”. ولا ينبغي السماح بحدوث هذا، ببساطة.
من الناحية المثالية، سيكون الرئيس أردوغان، بعد أن أوضح وجهة نظره بشأن حاجة تركيا إلى منطقة آمنة، راضياً عن إعلان وقف لإطلاق النار على المدى القريب والسماح للأكراد النازحين بالعودة إلى ديارهم. وليس كل الأكراد السوريين يدعمون حزب العمال الكردستاني. وسوف قيام دولة عضو في حلف شمال الأطلسي بعملية تطهير عرقي شأناً غير وارد.
إذا كان أردوغان مستعداً لوضع عصابةٍ دبلوماسية على جرح جسيم وقع بلا داع، فإن بوسع واشنطن وأنقرة أن تناقشا إمكانية دخول الوحدات العسكرية التركية إلى المناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا لتكون بمثابة مكوِّن القوة البرية الجديد للتحالف المناهض لـ”داعش” في شمال شرق سوريا. ويجب أن يكون هناك تفاهم واضح مع تركيا حول الحكم المحلي الكردي المخوَّل في المناطق الكردية داخل المنطقة الآمنة؛ وهو حكم لا يشكل أي تهديد لتركيا، بينما يسمح للأكراد بالهروب من براثن نظام الأسد الذي لدى دوائر استخباراته قوائم طويلة للأشخاص الذين سيتم اعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم.
مع ذلك، وفي حال كان يجب أن تخرج الولايات المتحدة من شمال شرق سوريا تماماً، فيجب أن تدخل تركيا إلى هناك بالكامل. يجب على أحد ما أن يستكمل النصر على “داعش” من خلال الإشراف على استقرار الأراضي المحررة، وتأمين خط عدم الاشتباك على نهر الفرات من قوات النظام والميليشيات التي تقودها إيران، والمرتزقة الروس. وإذا رغب الجيش التركي في أن يحل محل الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني ليكون المكون القتالي للقوات البرية في التحالف المناهض لتنظيم “داعش”، فلا بأس. لكن الولايات المتحدة والتحالف سيكونان تحت ضغط كبير للعمل مع أنقرة في حال حدوث عمليات تطهير عرقي في المناطق الكردية. وسوف تحتاج تركيا إلى مساعدة كبيرة لتحقيق الاستقرار في المنطقة، والبدء في إعادة الإعمار، وإعادة توطين اللاجئين السوريين المستعدين للانتقال طواعية إلى سوريا في مناطق شرق الفرات.
قبل المكالمة الهاتفية بين ترامب أردوغان، بدا أن الإدارة قد استقرت على استراتيجية الحفاظ على وجود عسكري متواضع في شمال شرق سوريا من أجل قمع “داعش”، ولتسهيل استقرار شمال شرق سوريا من خلال الإبقاء على العناصر التمكينية لتنظيم “داعش”، نظام الأسد، إيران، وروسيا، خارج المنطقة، والحفاظ على درجة من النفوذ الدبلوماسي الأميركي خلال السعي إلى تسوية سياسية سوريا مستدامة. وحتى قبل المكالمة الهاتفية، كانت الاستراتيجية الأميركية تعاني من قلة الموارد والإعاقة من قوة شريكة كردية إلى حد كبير، والتي قاتلت بشجاعة ضد “داعش” وكانت تشرف على مرافق اعتقال المرتبطين بهذا التنظيم، وتحاول إدارة المناطق المحررة ذات الأغلبية العربية.
يبدو أن هذه الاستراتيجية قد قُوِّضت بالكامل. ومع ذلك، من الناحية التحليلية، سيكون من السهل القول بأنه لم يعد ثمة شيء قابل للإنقاذ؛ فقد توجت تلك السياسة التي استمرت أكثر من ثماني سنوات بكارثة ملحمية في السياسة الخارجية. أما من الناحية العملية، فلا يتمتع جهاز الأمن القومي الأميركي بترف الانهزامية التحليلية. ما تزال سلامة الولايات المتحدة وحلفائها من التداعيات القبيحة لتصرفات نظام جشع قاتل وحلفائه تأتي أولاً. وحتى لو تغير فريق العمل والشخصيات، يبقى من الواجب الاستمرار في قمع “داعش” والحفاظ على النفوذ.
٭السفير فريدريك هوف: هو دبلوماسي مقيم في كلية بارد وزميل بارز في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط.
٭نشر هذا المقال تحت عنوان: ?Syria: Is anything salvageable