جسر – صحافة
وتبارت التنظيمات المتشددة طوال العقد الماضي في التماهي مع الجذور الفكرية السلفية، عبر الارتباط اسمياً ودعائياً مع رموز ضمن التيارات الجهادية من بينها الزرقاوي وأسامة بن لادن، ليس فقط لكسب شرعية بين المقاتلين أنفسهم بل أيضاً لضرب شرعية بعضها البعض بما في ذلك ضرب تنظيم “القاعدة” المتهالك. وكان الزرقاوي تحديداً شخصية محورية لكونه كان من أكثر القادة الجهاديين عنفاً طوال عقود، عندما أسس أول فرع لـ”القاعدة” في العراق “جماعة التوحيد والجهاد” التي تأسس “داعش” على أنقاضها. ويمكن الدلالة على التشابه بين ممارسات “داعش”وقواعد الزرقاوي قبل عقدين من الزمن، في قدرة الطرفين على اجتذاب الإعلام الإعلامي عبر الإعدامات السينمائية، على غرار فيديو الزرقاوي الشهير وهو يقتل الرهينة الأميركي يوجين أرمسترونغ العام 2004.
والتقى ديرية مقربين من الزرقاوي الذين تحدثوا عن تفاصيل “تكشف للمرة الأولى” مثل كيفية تنقله بأسماء مستعارة وحياته الشخصية وزوجاته وأولاده ودائرته الضيقة. وأوضح: “أردنا كتابة السيرة الذاتية عن شخص كان من أكثر المطلوبين في العالم وحكم عليه بالإعدام مرات عديدة، من خلال أقرب المقربين له”.
وهنا، يركز الكتاب على محاور متعددة، منها تحول سوريا إلى “القِبلة الأولى للجهاديين”، حيث “تشكلت الحركات والمجموعات الجهادية في وقت مبكر من بدء الصراع السوري، ويظهر هذا من خلال المقابلات التي أجريتها مع قادة هذه الفصائل”، بحسب ديرية الذي أوضح أنه “في بداية العمل العسكري للجيش السوري الحر بدأ دخول الجهاديين المصريين إلى سوريا، وشكل الشيخ أبو سهل المصري أول مجموعة قتالية للمصريين تحت اسم المرابطين في احدى المزارع بقرية بشقاتين في ريف حلب الغربي، وظلت مقراً دائماً للجماعة”.
إلى ذلك، أجرى ديرية حوارات واسعة مع المقاتلين الأجانب في سوريا، وتحدث “عن مدى تساهل الحكومة الإيرانية مع قادة وعائلات المجاهدين كذلك النظام السوري ونظام صدام حسين حيث غضو البصر عن تحركاتهم وانشطتهم” كما أشار إلى الخلافات العميقة داخل تنظيم “القاعدة” وأسباب انهيار التنظيم في سوريا وتحركات الزرقاوي في البلاد أيضاً.
وبعكس الكتاب الأول الذي صدر العام 2018 وتناول تنظيم “فتح الإسلام” الجهادي في لبنان، رفضت دور نشر عربية متعددة نشر الجزء الثاني الخاص بسوريا، وفيما يمكن إرجاع ذلك إلى حساسية موضوع الحركات الجهادية في العالم العربي أو إلى حقيقة أن الموضوع السوري بات مملاً وغير جذاب بسبب طول أمد الصراع، قال ديرية: “يؤسفني أن أهم وأكبر دار نشر عربية رفضت نشر الكتاب او متابعته في بلد مثل لبنان، حيث يمكن على الأقل استغلال جزء من الحرية الإعلامية لتجاوز الرقابة الحكومية المعتادة، علماً أن المؤسسات التي رفضت الكتاب نشرت في السابق كثيراً عن الحركات الجهادية بمفهوم وأسلوب وأفكار مختلفة”.
ولهذا السبب، قرر ديرية إصدار الكتاب بشكل إلكتروني فقط حيث يتم التحضير لموقع إلكتروني خاص بالمشروع حالياً. ويأمل ديرية أن يستطيع بذلك مشاركة تجاربه الشخصية مع جمهور واسع من أجل إطلاق حوار جاد “ليس حول الحركات الجهادية في سوريا فقط، بل عن انتهاك سيادة البلد وتدمير الدولة والمجتمع والتاريخ وترسيخ العداوات الطائفية فيه. وكلي أمل أن يبادر الشعب السوري أولاً لمحاكمة كل أولئك الفاعلين من دون استثناء وأن يبادر كل سوري بإدانتهم جميعاً”.
واختار ديرية العمل على سلسلة كتب بدل إنتاج أفلام وثائقية مثلما جرت العادة، لاعتقاده بأن هنالك مساحة أوسع في الكتب لسرد الأحداث وحفظ الوثائق والمستندات والتسلسل التاريخي وتدوين المشاهد والمعاينات وحفظ الشهادات مع إمكانية التوسع في سرد القصص والاحداث بعمق أكثر، مقارنة بما هو الحال في الأفلام الوثائقية. ويشكل ذلك جهداً من أجل “كتابة التاريخ ليس للأجيال القادمة فحسب، بل للباحثين والاكاديميين والمؤسسات العلمية البحثية والمهتمين بالشأن السوري والحركات الجهادية عموماً”.
وتم جمع المعلومات من عدة بلدان وهي عبارة عن مجموعة كبيرة من المقابلات الحية إلى جانب “تطوع عائلات القادة والجهاديين بتزويدي بالوثائق والصور لأبنائهم مع تحفظي على عدد من الوثائق والصور والمعلومات والاسماء احتراماً لقرار عائلاتهم، إما من أجل الخصوصية أو لوجود تلك العائلات في بلاد قد تشكل خطراً على وضعهم أو حياتهم”. وتم تفريغ المقابلات وإعداد الكتاب بصورته النهائية وطباعته على نفقة ديرية الخاصة من دون “تدخل أي مؤسسة خارجية” حسب تعبيره.
والحال أن ديرية يتهم دائماً بتلميع صورة الحركات الجهادية، من ناحية إجراء مقابلات مع قادتهم بسلام أو إمضاء فترات من الوقت في مناطق سيطرة الجهاديين التي لا يصل إليها الإعلام بسهولة عادة، في وقت يتم فيه قتل واعتقال وتعذيب صحافيين محليين وأجانب على يد تلك التنظيمات. وعلق ديرية: “قمت بعدد كبير من التقارير والأفلام الوثائقية والتقارير المصورة والدراسات عن الحركات الجهادية، كذلك عن كل الأطراف الفاعلة في سوريا باستثناء النظام السوري، وأثق أنه من حقي لقاء كل الجماعات والتنظيمات والتحدث مع جميع الأطراف، كما أنني أؤمن بأن من حق الحركات الجهادية هي الاخرى في سوريا الحديث وشرح وجهة نظرها”.
لا يعني ذلك أن ديرية يتبنى وجهة النظر تلك، بل هو يقوم بعمله الصحافي فقط، وهو ما شرحه لـ”المدن” قبل سنوات في حوار مفصل. ومن المثير للاهتمام أن الحركات الجهادية تحديداً كانت المنطلق الأول للأنظمة العربية الحاكمة والإعلام الرسمي، للوقوف بحزم في وجه حركات الربيع العربي، وكان الجهاديون المبرر الإعلامي على الأقل للتدخلات الخارجية من قبل إيران وحزب الله على سبيل المثال في سوريا، وتم تقديم العديد من نظريات المؤامرة التي ربطت بين المطالبة بالإصلاح السياسي والجهاديين كجزء من مخطط “صهيوأميركي” لتغيير شكل المنطقة وما إلى ذلك.
وعلق ديرية بأن “من ينكر غضب الجماهير العربية من فساد وظلم وبطش واستبداد وتبعية هذه الأنظمة إما جاهل أو تابع ومنتفع أو شريك للأنظمة من النخب الفاسدة. إن أحداث الربيع العربي ظاهرة مشرفة ونبيلة في تاريخ الأمة العربية، غير أن هذه الأنظمة المدعومة بقوة من الغرب استعادت زمام المبادرة وحركت الثورات المضادة وأنفقت المليارات على الإعلام والسياسية والرشاوي والأسلحة وتمويل الحروب الاهلية”.
لكن الكتاب نفسه يركز على نقطة قد يعتبرها كثيرون نظرية مؤامرة، وتدور حول تلاعب الدول الغربية وتحديداً الولايات المتحدة بالجهاديين خلال أحداث الربيع العربي مثلما كان الحال في أفغانستان إبان الحرب الباردة، رغم أن العديد من مراكز الأبحاث تقول أن الحركات الجهادية، تحديداً تنظيم “داعش”، لم تكن صنيعة أحد بل كانت نتيجة طبيعية للمجتمع والسياسة في الشرق الأوسط وتراكمات التاريخ أيضاً.
ويعود ديرية هنا للتاريخ من أجل تفسير وجهة نظره: “كيف وضعت أميركا ثقلها خلف المجاهدين في أفغانستان إبان الحرب الباردة وماذا نسمي الدعم طويل الأمد للدول الغربية للجهاد الافغاني؟”. موضحاً أن الكتاب يتحدث عن “استغلال للجهاديين” لا عن “تبعيتهم”. وأضاف: “شرحت خلال حديثي مع المجاهدين الاجانب في سوريا كيف تأثرو بالاعلام ورجال الدين وهم بالأساس يرتبطون بالانظمة الشمولية بطريقة أو بأخرى أو بالمؤسسات الدينية والإعلامية التابعة لها. وذكرت أيضاً أن الحدود كانت مفتوحة أمامهم، وسوريا كانت وجهتهم فقط. مثلاً ماذا نسمي إرسال اكثر من ألفي جهادي من الأردن وحدها إلى سوريا وهي التي بإسرائيل حدود أطول؟”.
وأكمل ديرية: “نتحدث هنا عن آلاف الشباب الذين أتوا من الغرب للجهاد في سوريا. ومثلي مثل أي مواطن بريطاني لدي الحق في السؤال كيف وصلوا ومتى بدأ التشديد الأمني على سفرهم؟”، مضيفاً أن إعلان جهاز الاستخبارات الخارجية البريطاني “MI6” حول الموضوع أتى قبل أيام قليلة فقط من بث فيلم ديرية الوثائقي “سوريا وطن القاعدة الجديد” وحواره مع المقاتلين البريطانيين من قلب معسكرات “جبهة النصرة” العام 2015، وكان العمل حينها “مقدمة لتسليط الضوء على المقاتلين الأجانب في سوريا وخلق جو من النقاش العام والجدل ليس على مستوى بريطانيا فحسب بل على صعيد أوروبا”.
وبحسب ديرية “وقع الجهاديون في فخ الاستقطاب وعبر تسهيل العبور والتنظيم والتعبئة، تم وضعهم في مقدمة المعارك وأكثرها شراسة كما حاربوا على جبهات متعددة وعملوا على الإكثار من جبهة المعركة بتعدد الأعداء حتى وصلوا إلى الاقتال الداخلي بين الحركات الجهادية نفسها بنفسها”. وأضاف: “تم تحويل سوريا إلى بيئة خصبة وآمنة للحركات الجهادية وظهرت بذلك نخب الجهادين علناً من داخل سوريا وخارجها وتمكنت الولايات المتحدة من قتل عدد لا بأس به من النخب إلى جانب مقتل أعداد أخرى في المعارك ضد النظام أو معارك جانبية وفي عمليات اغتيال. وما نشهده اليوم هو تحييد النخب الجهادية مثل حراس الدين وانصار الدين وفتح حوار مع هيئة تحرير الشام”.
ضمن هذا الجو ومن منطلق معاينته لمناطق مختلفة داخل سوريا خلال السنوات العشر الماضية، يرى ديرية أن مستقبل سوريا هو التقسيم حتماً، مضيفاً: “لا أعتقد بخسارة بشار الأسد للسلطة ولا تحقيق أي نصر عسكري للمعارضة او أي مكاسب سياسية تعيد سوريا إلى وحدة البلد والأرض. والمعارضة باعتقادي غير قادرة على توحيد البلاد أو تحقيق الاستقلال بالقرار الوطني. وعليه فإن الجيل القادم من السوريين سيطالع كيف انتهكت البلد ودمرت سوريا وهو القادر الوحيد على أن يكون الخط الثالث الذي ينقذ سوريا ويقودها. وهذا الجيل هو الذي سيحمي القرار الوطني السوري المستقل”.
يذكر أن ديرية صحافي ومراسل حربي ومنتج أفلام وثائقية، وهو معروف بعمله في مناطق الحروب، والصراعات الخطيرة في أنحاء العالم. ومنها أنتج التقارير، والتحقيقات، والصور، والأفلام الوثائقية من قلب المعارك، وكثيراً ما نجح في وصول فريد وحصري إلى المناطق المعقدة التي مزقتها الحرب في أفريقيا، والشرق الأوسط، ونجح في ربط الصلة بأخطر الحركات المتمردة الخطيرة، والمنظمات الجهادية، من جبال أفغانستان إلى سيراليون في غرب أفريقيا. وحصل على العديد من الجوائز، في أنحاء العالم لعمله الصحافي، بما في ذلك جائزة “النزاهة والشجاعة والروح المستقلة” العام 2014، وجائزة “بيبودي” العالمية المرموقة لأفضل فيلم وثائقي. وهو عضو في نادي “فرونت لاين” و”مراسلون بلا حدود” و”اتحاد الصحافيين البريطاني” و”الاتحاد الدولي للصحافيين”.