ما من شك في أننا لن نستطيع تجاوز خلافاتنا، والانقسامات التي ساهمت في خسارتنا، ما لم ننجح في تصفية حساباتنا مع الحقبة الماضية. وتصفية الحسابات تعني بالنسبة لأناسٍ مسؤولين وعاقلين فهم التجربة القاسية، بكل تفاصيلها وتعقيداتها، وتحليل الأسباب والعوامل المادية
والموضوعية للفشل الذي مثله بالنسبة إلينا جميعا بقاء حطام نظام العبودية الذي ثار الشعب ضده، وضحّى من أجل تغييره، على صدورنا، سواء جاء هذا البقاء بسبب قبوله التحول إلى واجهةٍ للاحتلالات الأجنبية، أو بسبب تحوله هو نفسه إلى عصابة إجرامية، لا تعبأ بمصير أحد سوى إنقاذ جلدها وتجنب مصيرها المحتوم. وما من شك عند أحدٍ من المحللين والمتابعين الدوليين للمحنة السورية في أنه، في ما يتعلق بهذا الفشل، كان للعوامل الجيوسياسية الدور الأول في اعتراض إرادة التحرّر عند السوريين، واستنزاف قوى الشعب الثائر، وتدمير شروط مقاومته المادية والسياسية. وهذه حقيقةٌ لا ينبغي أن نتجاهلها أبدا، ونحن نحاسب أنفسنا، ونعيد صياغة موقفنا ورؤيتنا وخططنا للمستقبل.
ولكن لا ينبغي كذلك أن يدفعنا التشديد على هذه العوامل الخارجية التي تتجاوز قدراتنا وإرادتنا، إلى تجاهل نصيبنا الذاتي من المسؤولية، المتعلق بنقائص أدائنا، فهو شرط إصلاح أخطائنا وتطوير رؤيتنا وتجديد إرادتنا واستعادة سيطرتنا على مصيرنا. وهنا لا يختلف اثنان على أن جوهر العطب الذي ابتلينا به، والذي هدر كثيرا من طاقاتنا وحدّ من قدراتنا على مواجهة الوحوش الضارية التي واجهتنا، وأضعف إرادتنا وتمسّكنا بقضيتنا الرئيسية، هو انقساماتنا الناجمة عن عجزنا عن إدارة اختلافاتنا، وعن التمييز بين انتماءاتنا الخاصة، وأهدافنا المشتركة الوطنية، وإخفاقنا في الفصل بين عواطفنا الشخصية والقضية التحرّرية التي جمعتنا، والتي كان ينبغي أن تعطى لخدمتها الأولوية المطلقة في تحديد علاقاتنا في ما بيننا، ومع المحيط والعالم الخارجي.
وإذا كان تغيير العوامل الموضوعية لا يخضع لإرادتنا، بل إنها هي التي تحدّد هامش مبادرتنا، وحدود قدرتنا على التدخل بفاعليةٍ في تشكيل واقعنا، فإن مدخلنا الوحيد إلى تغيير مصيرنا هو الارتقاء بأدائنا الجمعي، وهو ما لا يتحقق إلا بتصفية النزاعات التي تنخر جسدنا، ونزع الألغام التي تتفجر في طريقنا وداخل صفوفنا، وتجاوز الحساسيات والعداوات وروح الخصومة التي تسكن نفوسنا، وتحول تنافسنا المشروع على المشاركة في حمْل المسؤوليات القيادية إلى صراعٍ من أجل التدمير المتبادل.
ليس العدو الرئيس للتفاهم الوطني، في نظري، وجود الأنانية والتعلق بالمصلحة الشخصية، فهذا هو واقع المجتمعات كافة. إنه بالعكس، عدم الاعتراف بها مصالح خاصة، وتمييزها عن المصلحة العامة، بل، في أغلب الأحيان، السعي إلى مطابقتها معها، وتعميم الاعتقاد عند كل فرد بأنه المظلوم الأول والمهدّد الوحيد في مواجهة الآخرين الذين يسعون إلى فرض مصالحهم على حسابه. والنتيجة الإنكار المتبادل لمصالح الآخرين، وانعدام أي إمكانية للجمع بينها وتجاوزها، في الوقت نفسه، في مصلحة وطنية واحدة. وفي المحصلة، تعميم قانون الأنانية والتمحور حول الذات، وتحويله إلى رديف لقانون الوطنية، بل إلى بديل عنه، والدخول في ما يمكن أن نسميه تضارب الأنانيات وتصادمها.
باستنثاء الجمهور الشعبي الواسع الذي يوجد خارج التنافس على السلطة أو القيادة، أو التفكير في القضايا العمومية، ويعيش رهين البحث عن قوته اليومي، ويكون سعيدا لو ضمن ذلك لنفسه، لا أحد من بين الذئاب المتنافسة يمكن أن ينمّي أي درجةٍ من الثقة بالآخرين. ومن باب أولى القبول بسلطةٍ تمثيليةٍ لا يكون هو نفسه على رأسها. ومن الطبيعي أن تنعدم أيضا في موازاة ذلك فرص الحوار والتفاهم والعمل على تسويات بين المصالح، ولا يبقى هناك مخرج من حرب الجميع ضد الجميع، كما ذكر الفيلسوف البريطاني توماس هوبز (1588 – 1679)، سوى بتسليم جميع الأفراد أمرهم لسيد واحد، مطلق السلطة، واستفراد الدولة بالسيادة التي تحتاج إليها كي تضمن إنهاء حرب الجميع ضد الجميع، وإرساء السلام وتمكين الأفراد من ممارسة حقوقهم الطبيعية، مع فارق أن الدولة هي التي تشن هنا الحرب، وتحرم المجتمع المدني من أي هامش حرية أو مبادرة تسمح له بالبحث عن عقد اجتماعي، ينظم علاقات أفراده. وفي هذه الحالة، لا تصبح الدولة المنتج الأول للأنانية، والراعي الرئيس لتعميمها، وإنما وراء ذلك، المهدم الأول لأي حياة سياسية أو مدينة أو أخلاقية. وليست أنانية الأفراد هنا سوى الانعكاس لدولة الأنانية وشرط وجودها واستمرارها.
لا تتطور الدول، حتى الاستبدادية منها، بمعزل عن تطور أو نضج المجتمع المدني الذي
يستدعي، قبل التمييز بين المصلحتين، الخاصة والعامة، والتمييز بين المصالح الخاصة نفسها، والاعتراف بشرعية اختلافها كمعطى طبيعي، وفي موازاتها اختلاف الآراء ووجهات النظر في التنظيم الاجتماعي، وفي التعامل مع الواقع، والتوافق على سبل تجاوزها. وهذا يعني التخلي عن وهم القضاء على المصالح الخاصة، أو تجاهلها، أو إخفائها، والقبول، بدل ذلك، بالتفاهم على إدارتها، من خلال البحث عن صيغ تؤمن اتساقها بدل تعارضها، وتشجّع على تعاون أصحابها لا تنازعهم. وهذه هي مقدّمات تشكّل المجتمع المدني مجتمعا حرّا ومستقلا عن الدولة أيضا. من هنا لا يعني تمثل الحق بالاختلاف القبول بالرأي الآخر فحسب. ولكن، أكثر من ذلك، الدفاع عن شرعية الرأي المختلف، وحق التعبير عن موقفٍ مغاير، واقتراح خطط مباينة للوصول إلى الغايات الواحدة.
لكن في مقابل هذا الاعتراف، والدفاع عن حق كل منا في أن يكون صاحب رؤية ورأي، وأن لا يخاف التعبير عنهما، ولا يتعرّض لأي أذى أو تهديد بسبب ذلك، يقف أيضا، حق كل فرد في نقد الرأي المختلف ومعارضته. هكذا يكون الجدال والنقاش منهجا وطريقا لإثراء التفكير، وإنضاج الرؤية الجماعية، والتقدّم في بلورة الإجابات الأكثر تكاملا وتوحيدا للمصالح والمواقف والصفوف، وتكوين القوى الاجتماعية الفاعلة والمؤثرة التي تحل محل الشتات والتبعثر، ويكون من الممكن التحرّك إلى الأمام، بدل الدوران في المكان أو في حلقة مفرغة. ولكن كي تكون للنقد قيمة إيجابية، ويساهم في تعميق الحوار وتطوير النقاش وتوضيح الرؤى والمواقف وتوحيدها، أي كي يساهم في تأسيس مجتمع مدني، ونواة عقد اجتماعي، ينبغي أن يتجرّد أكثر ما يمكن من ضغط الأهواء وشخصنة القضايا والاعتماد على تزوير الوقائع، وكيل الاتهامات والتشكيك في النوايا، أو افتراض سوء الدوافع، وذلك كله من سمات المجتمع الطبيعي، ما قبل السياسي، وأن يستند في تطوير مسلكه إلى مناقشة الأفكار وتحليل المواقف وتفنيد الحجة بالحجة. وهذا يعني أن يكون هدفه ومحرّكه تقدم القضية العامة، لا إدانة الأشخاص أو تعزيرهم.
لا يمكن للنقاش أن يكون ذا فائدة وأن يحقق غايته من دون الشفافية، وامتلاك الشجاعة للكشف
عن النقص والخطأ والاختلاط في الآراء والمواقف. وهذا هو الشرط الأول، كي يصبح مصدر تفاعل مثرٍ بين الأفراد، يساهم في إعادة بناء المواقف، وإنضاج الأفكار والتصورات والرؤى الاجتماعية، وإرسائها على أسس واقعية وعقلانية جديدة، ولا يقتصر على الاعتراف بالاختلاف. باختصار، لا توجد إمكانية لنقاش جدّي من دون حسن الظن بالآخر المختلف، وليس لحسن الظن قيمة ما لم يتحوّل إلى ضمانةٍ لنقد جذري وفعال، يعرّي الأوهام والأحكام الخاطئة. وكما يقضي التشكيك في النيات على جدية أي حوار، لا تقود المسايرة للرأي الآخر أو السكوت على الأخطاء إلا إلى التغطية على النقائص، وإخفاء سوء التفاهم والخلاف.
نحن اليوم على مفترق طرق، يقودنا الأول إلى الدخول في أزمة تدمير ذاتي، لا مخرج سريعا منها، تكمل على مستوى الوعي والأخلاق والسياسة، ما قام به على المستوى المادي والنفسي نظام الإبادة من خرابٍ ودمار، ويؤسس الثاني لمرحلة ما بعد الأسد، بوصفها مرحلة استعادة الثقة، وبناء الأمل، واحتواء الفوضى وحرب الأنانيات المسعورة التي قام على إيقادها وإدارتها نظام العبودية والاحتلال.