كتبها-خليفة خضر:
أخذت حياتي بعمر صغير تتبلور حول أن (الصيان) هو جزء أساسي من الحياة، وأن رائحته أمر طبيعي، وتواجد بقايا الصيان على لباس أحدنا أو قطعة منه بمائدة أحدنا لهو أمر طبيعي. تشاهد العامل الذي يقف عاجزاً بسبب عدم وجود أليات كبيرة تساعده بترقيع المجاري، يشرب الشاي وأصابعه لونها أسود من لون الصيان، وكوب شايه حوافه ذات لون أسود من الصيان أيضاً، وكلما يزور الحي رجل يرتدي ربطة عنق تأتي معه الأليات الكبيرة التي تباشر بنبش أرضنا، وما أن يذهب صاحب ربطة العنق حتى تتوقف هذه الأليات عن العمل…ربما هذه الأليات وقودها الرجال الأنيقين لا مادة المازوت.
بعد الإنتهاء من ترقيع المجاري سيتم تعبيد الطريق بالزفت وستسير سيارة تامر حسني من شارعنا أثناء إحياءه حفلة غنائية في مركز المدينة التي لا تبعد كثيراً من حينا. سيتم تمديد أكبال الكهرباء والهاتف وأبراج تغطية الخليوي والكهرباء لن تنقطع، هذا ما قاله أحد الانيقين ممن حضر إلى حينا وله شارب يشبه شارب الممثلين على شاشة التلفاز، عندما تتسنى لنا الفرصة بمشاهدة حلقة ما من عمل درامي، لو يعرف أبطال الأعمال الدرامية كم نحبهم ونتعلق بهم لجلبوا لنا الكهرباء وطالبوا بألا تنقطع عن حينا، أم هي طريقة لاستمرارية حبهم والتعلق بهم؟
استقيظنا في اليوم التالي من وعود الرجل الأنيق على خبر وقوع سيارة من نوع بيكاب سكودا في أحد حفر المجاري وقيل أن الرجل صاحب السيارة، غريب عن الحي غير عالم بجغرافية طرقه، ويجهل أن شارعنا محفور بعشرات الجور، وما من إشارات مرورية توضح للناس أن المرور من هنا خطر، فحينا لا يمر به إلا أبناء الحي الذين تأقلموا مع هذا الخطر، والدولة التي تعرف بذلك وتجاهلت، لم تضع شرائط صفراء كما في الأفلام لتحذر المارة من خطر قد يصيبهم إذا ما دخلوا الحي، وكأن الحي كله خطر على بقية العالم.
بعد أسبوع من خطاب الرجل الأنيق، وقع طفل من أبناء الحي بأحدى الحفر بعد أن زلقت قدمه على التربة إثر يوم ممطر أثناء عودته من شراء الخبز.
قال الطفل بعد إخراجه من قبل العمال اليائيسين من عدم وجود أليات فعالة لاستكمال عملية الحفر وتصليح المجاري: “كنت اسمع صوت من يصرخ كصوت له صدى ولكنه غير مفهوم” وأنه كان يشاهد الرجال بحجم صغير جداً، رؤوسهم صغيرة بحجم أصبع، ما شاهده وسمعه الطفل حفز عندنا رغبة الوقوع في الحفر لمشاهدة وسماع ما يدور في حينا بطريقة غير مألوفة.
جدتي المتوفاة سنة ال ١٩٩٨ لا أتذكر وجهها جيداً بألوان الطيف، أتذكرها كما يتذكر التلفاز أحداث برنامج(حدث بمثل هذا اليوم الأحداث التاريخية) هو يتذكر الأحداث التي حدثت بمثل هذا اليوم بالأبيض والأسود وخطوات سريعة للناس الذي يتذكرهم، أما أنا فأتذكر جدتي بالأسود وانعكاس إنارة “اللوكس “على تجاعيد وجهها، وحركتها ليست سريعة بل بطيئة جداً باعداد الشاي لي ولجدتي الأخرى ” ضرتها” اثناء زيارتنا لها.
تقول لي أمي أن تلك الأيام _ أيام إنارة اللوكس و جريان أنهار الصيان، إنها لجميلة، فقد تجمع العوائل حول إنارة اللوكس وكان الناس يحبون بعضهم، تتناسى أمي الحديث عن الصيان وعن معاناتها بالغسيل بيدها بشكل شبه يومي أثناء أيام الشتاء البارد بسبب إتساخ ملابسنا بالصيان والطرقات، نعم تحاول أمي وغيرها من نساء الحي ورجاله تلطيف وقع الذاكرة المرير واسترداد ولو شيء بسيط وجميل من كم المعاناة التي عاشوها، فقد تخبرهم أن وجود التيار الكهربائي بشكل متواصل لا يعني انقطاع صلات القرابة.
شاهدت على أحد برامج التلفاز ذات الحركة السريعة أن بعض دول العالم قد حفروا في أرضهم وخرج من باطن أرضهم الذهب الأسود، إلا وهو النفط، غالي الثمن، الذي يعتبر بمثابة نقلة نوعية للدول والذي سينقلهم من ضفة الفقر إلى ضفة الغنى، وسيجعلهم بنفس مركبة الدول المتحضرة، الدول التي لا يعرفون شيئاً اسمه انقطاع التيار الكهربائي.
هو ذا الذهب الأسود في حينا، لما لا تأتينا الكهرباء ونكون مع تلك الدول، فنحن أيضا يحفر رجال حينا الأرض ويخرج الكثير من الصيان الأسود الذي هو ولربما نفط وذهب أسود، من يدري؟ هل أهالي حينا يدرون شيئاً عن حقيقة الأشياء؟!
طالبت الكثير من معلمات مدرستنا بالنقل من مدرستنا إلى مدارس أخرى في عالم أخر غير عالم حينا، بُتنَا يقرفن من رائحتنا ومن أحذيتنا المتسخة والمغمسة بصيان المجارير التي تطوف شوارع حينا.
بات الطلاب يكرهون العالم الذي نعيش فيه، لما نحن فقط يوجد لدينا صيان في حينا ولما مدرسات الصف يكرهن رائحتنا، يقرفن حتى من تقبيلنا!