كتبها-خليفة خضر:
يعد للعشرة على العجل مع عدم لفظه لعدد أو عددين من الأرقام، ومن ثم يغلق حنفية المازوت الذي هو من المفترض مخصص للطلاب كي يقيهم برد الشتاء القارص، هذه كانت طريقة خادم مدرستنا أثناء ملىء الوقود لطابور الطلاب المرشحين عن كل شعبة مدرسية في مدرسة مصطفى السنتلي بحي الجزماتي بحلب.
ما إن أملىء الوقود وأعود به للشعبة إلا أن أجد معلمة الصف تنتظرني وتطلب مني تشغيل المدفأة ووضع كرسيها بالقرب من المدفأة مع العلم أن كرسيها الحجري المخصص لها بالجهة الأخرى للشعبة، بعد انتهاء العد وملئ الوقود لكل الشُعب المدرسية، يأتي المُستَخدم ومعه المزيد من الوقود.
كل شعبة تحظى بكمية أكثر كلما زاد جمال المعلمة وتقربها من مدير المدرسة، من حسن حظي أن معلمتي كانت جميلة وكانت ثمة إشاعات بين أروقة المدرسة تقول أن معلمتنا تكون الزوجة الثانية للمدير، كان قد تزوجها بالسر ويوجد صورة مشتركة لهما في مدينة اللاذقية، على شاطئ البحر.
كان المُستَخدم يملئ مدفأة شعبتنا حتى تطلب منه الأنسة أن يتوقف في حين شعب أخرى لا تنتهي الحصة الأولى من الدوام المدرسي، حتى ينتهي الوقود ويمرض الطلاب، حتى شعبتنا لا يستفيد من دفىء المدفأة إلا ” الزوجة السرية للمدير” والطلاب في المقعد الأول بينما أنا وباقي الطلاب نلتصق ببعضنا البعض كي نتدفىء..ونتدفىء بطرق أخرى، كأن نضع أكفنا على رقاب وداخل ملابس الرفاق مداورة فيما بيننا كي نقي أنفسنا شر البرد.
ولسوء الحظ الذي جلبه لي ولبعض الزملاء جمال ” الزوجة السرية للمدير” وجدنا أنفسنا وفي حال شاغبنا أن المعلمة ترسلنا لغرفة مكتب المدير وهناك يتم توبيخنا عن سلوكنا الغير منضبط وعلى أهمية عقابنا ووضعنا في جب الفأر .. نعم أغلب الطلاب يخشى جب الفأر، لكنني وبعض الأصدقاء وجدنا ألا شيء أصعب من الشعور بالبرد وإن جب الفار من اسمه جب ومساحته صغيرة ولن نشعر بالبرد فيه، لذلك كنا نضرب بعضنا متعمدين ظهور علامات الصفعات على وجوهنا، كي تقتنع المعلمة بمشاغبتنا وترسلنا إلى غرفة مكتب المدير الذي سيطلب من خادم المدرسة أن يضعنا في جب الفأر.
ندخل غرفة مكتب المدير، منتظرين قدوم الخادم الذي سيأخذنا إلى جب الفأر مع عبارات تخويف، لكن المفاجأة تكمن حيث غرفة المدير غرفة من غرف الجنة، فالمدفأة ليست ككل المدافىء، بل المازوت فيها كالنهر بالجريان، نتفاجىء ونرجو الله أن الجب هو غرفة مكتب المدير وإن الفأر هو المدير نفسه!
أياً كان مكانك في غرفة المدير أنت ستكون دافىء ولا داعي للاقتراب من المدفأة، يطلب منا المدير الوقوف على الحائط ريثما ينهي بعض أعماله، نقف وقلوبنا تخفق بالسعادة. يخبرني صديقي أن الغرفة هي الجب ولكن ليس المدير هو الفأر، فكيف لمعلمتنا أن تتزوج بالسر فأر، لكن ربما يكون الفأر هو من في الصورة الكبيرة المعلقة على الحائط وراء المدير، حافظ الأسد ربما يكون هو الفأر، نحدق بصورة حافظ الأسد، يزوِرُنا ويراقبنا أينما نذهب في أنحاء الغرفة، مستغلين انشغال المدير، فإذا ما وقفنا بالطرف الأيمن ينظر إلينا حافظ الأسد، وإن وقفنا بالجهة المقابلة، لا يغير نظرته إلينا، خفنا من مراقبته لنا .. لا لا ليس هو الفأر.
يسألنا المدير: من أي شعبة ومن هي مُدرستنا. نخبره باسم المُدرسة، ومع ابتسامة يطلب منا العودة إلى الشعبة محَملين بقطعة شوكلاته “عمار” تأكل المعلمة الشوكلا قضمة قضمة وهي مغلقة فمها.
مع الأيام شعرت وأصدقائي أننا ” كوادين” بحسب معنى المصطلح المتعارف عليه أنذاك لمن يكون مرسال بين اثنيين من المحبين، بهذا يخبرنا شباب الحي إذا ما أخبرناهم بالقصص التي تجري في شعبتنا.
نعود للصف ونعود للبرد ونعود لتدفأة أنفسنا بأجساد بعضنا البعض بالتناوب.
بالله عليك هل يتم التعامل بهذه الطريقة مع أطفال لا يتجاوز عمرهم التاسعة والعاشرة من العمر في أماكن يفترض أن تقدم كل ما هو نبيل لتربية جيل يؤمن بضرورة التعليم ؟!
ما قرأته قد يكون ممكناً في أحد معسكرات التجنيد الإجباري في جيوش الاتحاد السوفيتي، وليس مدرسة للتعليم الأساسي في سورية.
ما لطفولتنا وعلاقة المدير مع أنستنا ؟! ما لطفولتنا والبحث عن طرق ملتوية لندفء أجسامنا الصغيرة من برد الشتاء؟!
نخرج من المدرسة وكأننا سجناء تم الإفراج عنا بعد اعتقال، لنا ممر واحد ننزل منه فوق بعضنا البعض وللمدير وزوجته السرية ممر خاص ينزلون منه. لنا بوابة نتزاحم عليها ونخرج بأجسادنا النحيلة منها، وللمدير وزوجته السرية بوابة خاصة يخرجون منها.
أول ما نقف عليه هو الوحل الذي يغطي أقدامنا حتى منتصفها، نجتهد بالبحث بالمشي وراء أثار سيارة المدير وزوجته السرية حيث تخلف دواليب السيارة خطوطاً ضيقة ولفترة قصيرة نستثمرها كممر لا وحل فيه، أو نلتصق بحائط المدرسة الحجري، كي لا نغوص أكثر بأجسادنا في الوحل قبل أن نصل إلى الطريق المعبد بعد رحلة صعبة.
ما إن نصل ونمشي قليلاً على الطريق المعبد حتى نواجه جوراَ فنية محفورة ومياه الأمطار كالشلالات داخل هذه الحفر، فقد عانى حينا طيلة السنوات الممتدة بين عامي ١٩٩٩ و ٢٠٠٥ من حفر فنية وعدم تعبيد الطرقات وقطع الكهرباء التي لم يفرح بها أهالي الحي، ولم يفرح بها كباقي الأحياء حتى عام 2019.
وعيت وقد تشكل في مخيلتي أن التربة التي تحت الزفت ذات لون أسود وسائل وليست كما في حصص القراءة ذات لون أحمر، فـ(الصيان) كما يطلق عليه البعض هو ما أراه كلما أنظر بالجور المحفورة في أزقة حينا .. أخذت أفكر بشكل الطائرة التي يأتي بها أبناء المعلمين، كيف لطفل يمشي وحذائه نظيف؟
أين هي تلك الطرقات التي في حال سرت عليها لا يتسخ حذائي؟
أين هي تلك الأماكن التي لون تربتها حمراء ؟