جسر: متابعات:
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
دانييل بنجامين؛ وستيفن سايمون٭ – (فورين أفيرز) تشرين الثاني (نوفمبر)/ كانون الأول (ديسمبر)
إن ديمومة هوس الولايات المتحدة المستمر بإيران منذ 40 عاماً هي شيء لا يُصدق. فلنفكر في حقيقة أن الولايات المتحدة خاضت حرباً خاسرة في فيتنام وخسرت فيها أرواح أكثر من 58.000 أميركي، ومع ذلك، أعيد تأسيس العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين واشنطن وهانوي في العام 1995، بعد عقدين فقط من مغادرة آخر المروحيات الأميركية سايغون. وقد لعبت الأعمال الإيرانية الشريرة -وفوق كل شيء، احتجاز 52 دبلوماسياً أميركياً ومواطنين آخرين كرهائن لمدة 444 يوماً من العام 1979 إلى العام 1980- دوراً بالتأكيد. لكن عدد الوفيات الأميركية التي يمكن أن تعزى بأي شكل من الأشكال إلى إيران منذ العام 1979 هو مجرد رقم خجول لا يتجاوز 500. وفي 12 مناسبة على مدى الأعوام الثمانية عشر الماضية، طرحت منظمة الاستطلاعات “غالوب” Gallup على الأميركيين السؤال الآتي: “أي دولة واحدة في أي مكان في العالم اليوم تعتبرها أكبر عدو للولايات المتحدة؟ وتصدرت إيران القائمة خمس مرات، لتحتل مرتبة أعلى من الصين بست مرات وأعلى من روسيا بثماني مرات، على الرغم من عدم امتلاكها أسلحة نووية، أو قوات بحرية في المياه العميقة، أو القدرة على ممارسة القوة بأي طريقة خطيرة أو جديّة.
كيف يمكن تفسير هذا العداء؟ أحد الأسباب هو أن إيران تنسجم بدقة مع فكرة أميركية محددة جيداً عن كيف يجب أن يبدو التهديد الخطير. على غرار الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، لدى إيران أيديولوجية ثورية، وتوجه توسعي، وشبكة من الحلفاء في جميع أنحاء العالم -في حالة إيران، المجتمعات الشيعية في الشرق الأوسط وفي الشتات في أميركا الجنوبية وغرب إفريقيا. وحتى الغزو الأميركي للعراق، كانت إيران قد حققت بعض النجاح في ترسيخ صورتها كقوة أيديولوجية عالمية، والتي تعرض نفسها كزعيم للمقاومة الإسلامية ضد الهيمنة الأميركية. ومع ذلك، مع سقوط صدام وتمكين الطائفة الشيعية في العراق، أعاد الحكام السُّنة في المنطقة صياغة التهديد الإيراني على أنه تهديد طائفي داخل العالم الإسلامي. وبدلاً من اعتبارها قوة معادية للاستعمار، أصبحت إيران زعيمة “هلال شيعي” يهدد الحلفاء السُّنة للولايات المتحدة في المنطقة.
وحتى تصبح الأمور أسوأ، تعاملت الولايات المتحدة وإيران مع بعضهما البعض بطريقة مختلفة تماماً عما فعلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فإدراكاً منهما لترساناتهما النووية الخاصة ووصولهما العالمي، سعت واشنطن وموسكو إلى البقاء على اتصال مع بعضهما البعض وتجنبتا بعناية التدخل في المصالح الحيوية لكل منهما. وقد وصف كيسنغر القيادة السوفياتية بذلك الوصف المشهور بأنها “براز بشكل أساسي”، لكن ذلك لم يمنعه -هو أو قادة الولايات المتحدة الآخرين- من التفاعل معهم. وعلى النقيض من ذلك، رفضت الولايات المتحدة التعامل مع إيران، وكانت علاقة البلدين علاقة من التهيج والاستفزاز شبه المستمرين.
إذا كان ثمة شيء، فهو أن حدة عداء الولايات المتحدة تجاه إيران ازدادت خلال العقدين الأخيرين، حتى بينما كانت طهران تقلص طموحاتها الثورية. وقد تزامن هذا العداء المتزايد مع كل من تزايد نفوذ المسيحيين الإنجيليين داخل الحزب الجمهوري، ونمو الدعم الشعبي لإسرائيل في الولايات المتحدة. وفي العام 1989، وجد استطلاع أجرته “غالوب” أن لدى 49 في المائة من الأميركيين نظرة عامة إيجابية عن إسرائيل. واليوم، تبلغ النسبة 69 في المائة. وقد ارتفعت المشاعر المؤيدة لإسرائيل بسرعة خاصة بين الجمهوريين المحافظين؛ حيث بلغت ذروتها في العام الماضي عند نسبة 87 في المائة. كما ازداد دعم الديمقراطيين لها أيضاً، لكنه يدور حالياً عند 62 بالمائة فقط.
كان التأثير المشوِّه للنفوذ الإسرائيلي على السياسة الأميركية تجاه إيران واضحاً بشكل خاص منذ العام 2012. وفي ذلك العام، استغل المرشح الجمهوري للرئاسة، ميت رومني، العلاقات الأميركية-الإسرائيلية كأحد الأصول لدى الجمهوريين، وفاز بتأييد شبه رسمي من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. وسارع صانعو السياسة من كلا الحزبين في أميركا إلى محاولة التفوق على بعضهم البعض بعروض التزامهم بمساعدة إسرائيل في تأمين مصالحها. وفي الآونة الأخيرة، تقرب ولي العهد السعودي من عائلة ترامب، محوِّلاً الرياض إلى رصيد للجمهوريين، أيضاً. وقامت الولايات المتحدة بقيادة ترامب، أكثر من أي وقت مضى، بتلزيم إسرائيل والسعودية بسياسة الشرق الأوسط من الباطن. وفي آب (أغسطس)، على سبيل المثال، سمحت إدارة ترامب لإسرائيل بشن غارة جوية في العراق ضد ميليشيا متحالفة مع إيران -وهو عمل يتعارض بوضوح مع مصلحة الولايات المتحدة في الاستقرار العراقي.
بالنسبة للولايات المتحدة، هذا العداء تجاه إيران مكلف. فهو، أولاً، يزيد من خطر نشوب الصراع المسلح. ومن الصحيح، بقدر ما هو من حسن الطالع على حد سواء، أن البلدان تجنبا الأعمال العدائية المفتوحة منذ 1987-1988، عندما تصادمت السفن الأميركية والإيرانية في مياه الخليج الفارسي. لكن القرب الحالي للقوات الأميركية والإيرانية، وتاريخ البلدين من الخصومة المستمرة، وميل قادتهما إلى رؤية بعضهم بعضا على أنهم عالقون في صراع محصلته صفر، كلها عوامل تزيد من خطر نشوب الصراع. ويجعل غياب العلاقات الدبلوماسية وقنوات الاتصال الأخرى من المواجهات أكثر احتمالاً للتصعيد. ويعلم الجميع كيف ستبدو حرب أميركية رئيسية في الشرق الأوسط، ومن الواضح أن من الأفضل تجنبها.
يعرض النهج الحالي للولايات المتحدة تجاه إيران أيضاً خطر دق آسفين بين الولايات المتحدة وأوروبا. فعلى الرغم من أن الأوروبيين لا ينطوون على حب كبير للنظام الإيراني، إلا أنهم يفضلون التفاوض على الصراع. وهم فخورون على وجه الخصوص بمساعدتهم في تأليف خطة العمل الشاملة المشتركة، والتي كانت، إلى جانب فضائلها الأخرى، تحفة من التنسيق الدبلوماسي المعقد. ويعود عدم التوافق عبر شقي الأطلسي حول إيران إلى فترة إدارة الرئيس الأميركي بيل كلينتون على الأقل، عندما صوّت الكونغرس لصالح فرض عقوبات على الشركات الأوروبية التي تبيع معدات لصناعة النفط الإيرانية. لكنه اشتد في عهد ترامب. وقد لا يكون للتحالف عبر الأطلسي نفس الأهمية الاستراتيجية العميقة التي كان يتمتع بها أثناء الحرب الباردة، ولكن، في عصر تتحدى فيه كل من الصين وروسيا الغرب، فإنه يبقى مع ذلك شأناً ضرورياً حاسماً. وسيكون السماح لإيران بأن تصبح نقطة تحسس بين الولايات المتحدة وأوروبا مسعىً طائشاً وبعيداً عن الحكمة بشكل مذهل.
وأخيراً، تشكل الكراهية المتبادلة الأميركية-الإيرانية تهديداً للاستقرار الإقليمي. وتتميز دول الشرق الأوسط بالهشاشة في أغلبها. وفي العقد الماضي وحده، انهارت اثنتان، ليبيا واليمن، واقتربت واحدة، سورية، من الانهيار. وسوف تزداد الضغوط الاقتصادية والسياسية والبيئية فقط على المنطقة خلال الأعوام المقبلة. وبالنسبة لمعظم الدول، باستثناء عدد قليل من الملكيات النفطية، هناك احتمال ضئيل للراحة. وللولايات المتحدة مصلحة في مساعدة هذه البلدان على أن تبقى متماسكة. لكن حملة الضغط الأقصى التي تشنها على إيران، والتي تهدف إلى التسبب بإفلاس النظام وتعزيز الظروف الثورية، تتعارض مع هذه المصلحة. وعلى الرغم من كون الحكومة الحالية في طهران مزرية، فإن عواقب انهيار الدولة في إيران -بما في ذلك أزمة اللاجئين المحتملة والتوتير الهائل للدول المجاورة ستكون أسوأ بالتأكيد.
اقرأ أيضا
شيطان أميركا الأكبر.. أربعون عاما من الهوس بإيران (2-1)
نستطيع حل المشكلة
نادراً ما انسجمت واشنطن وطهران معاً. ومع ذلك، يشكل عداء ترامب الشامل تجاه إيران خروجاً على عرف الرؤساء السابقين. فمنذ وقت الثورة الإسلامية، كانت للإدارات الأميركية المتعاقبة علاقة مختلطة مع إيران. في العلن، اتخذت تلك الإدارات في كثير من الأحيان موقفاً متشدداً، بطريقة توحي بأن ذلك البلد يؤوي عداوة ثابتة للولايات المتحدة. أما في السر، فقد سعت الإدارات الديمقراطية والجمهورية، على حد سواء، إلى اتباع نهج أكثر براغماتية. ولم تتبنّ أي منها، قبل إدارة ترامب، باستمرار الموقف القائل إن علاقة عمل مع نظام رجال الدين هي شيء خارج كل الحسابات.
بدأ هذا الانقسام بين النهج المعلن والضمني في عهد كارتر. فبعد فرار الشاه من إيران في كانون الثاني (يناير) 1979 وطلبه دخول الولايات المتحدة لتلقي الرعاية الطبية، تردد كارتر لأشهر عدة قبل أن يقبله أخيراً في تشرين الأول (أكتوبر)، ضد نصيحة سفيره في طهران. ووراء الكواليس، واصلت وكالة الاستخبارات المركزية تزويد الحكومة الإيرانية الجديدة بمعلومات استخبارية حساسة حتى تشرين الثاني (نوفمبر) 1979، عندما استولى الطلاب الإسلاميون، الغاضبون من قرار كارتر، على السفارة الأميركية في طهران. وكانت أزمة الرهائن فقط، التي أعقبتها محاولة أميركية فاشلة لإنقاذ الرهائن في العام 1980، هي التي أقنعت كارتر أخيراً بأن الثورة الإسلامية أضرت بالعلاقات الأميركية الإيرانية على نحو يتعذر إصلاحه.
وحتى الرئيس رونالد ريغان، الذي اعتُبر قديساً للوضوح الأخلاقي، كان على استعداد للعمل مع إيران عندما كان ذلك مناسباً. وخلال العام ونصف العام الأولى من حكم ريغان، سمحت الولايات المتحدة لإسرائيل بأن ترسل إلى إيران كمية هائلة من الأسلحة الأميركية الصنع للمساعدة في الحرب على صدام. وعلى الرغم من حقيقة أن إيران وسورية تواطأتا في هجمات منفصلة في العام 1983 ضد السفارة الأميركية وثكنات قوات البحرية الأميركية في بيروت، والتي أسفرت عن مقتل 17 من موظفي السفارة و241 من القوات الأميركية، فإن ريغان لم يرد أبداً. وفي فترة ولايته الثانية، كان يبحث مرة أخرى عن فُرجة مع إيران. وكان لدى إدارته سببان رئيسيان لاستئناف العلاقات: كانت بحاجة إلى مساعدة إيران لتحرير الرهائن الأميركيين المحتجزين لدى وكلاء إيران في لبنان؛ وأرادت زيادة النفوذ الأميركي في طهران في وقت بدا فيه وكأن السوفيات ربما يحاولون التقرب من النظام الديني. وفي العام 1985، استأنفت الولايات المتحدة بيع المعدات العسكرية لإيران عبر وسطاء إسرائيليين، وهي عملية استمرت لأكثر من عام، حتى كشفت عنها صحيفة لبنانية. وكاد الكشف عن هذه المبيعات يدمر رئاسة ريغان، ـخاصةً بعد أن تبين أن موظف مجلس الأمن القومي، أوليفر نورث، استخدم أموالاً من تلك المبيعات لتمويل ثوار الكونترا في نيكاراغوا بشكل غير قانوني.
تقول القصة الشائعة حول فضيحة إيران-كونترا إن ريغان كان قلقاً بشكل يائس بشأن الرهائن الأميركيين في لبنان، لكن القصة الأقرب إلى الحقيقة ربما تكون أن نهج ريغان تجاه إيران كان يوازي نهجة تجاه الاتحاد السوفياتي. كان يعتقد بأن كلا النظامين غير مستدامين وأن أفضل طريقة للتعجيل بزوالهما كانت من خلال الحوار المدعوم بالقوة العسكرية. وكانت مشكلته، بالطبع، هي أنه ليس لدى إيران ميخائيل غورباتشوف، رئيس الوزراء السوفياتي الإصلاحي الذي أصبح شريك ريغان التفاوضي.
على الرغم من أن السياسة الأميركية تجاه إيران ذهبت إلى نوع من الهدوء في عهد الرئيس جورج بوش الأب، فإنها استؤنفت في عهد خليفته، كلينتون. وبعد أن قامت واشنطن بتشديد العقوبات، قامت إيران بتدبير تفجير مجمع أبراج الخبر في المملكة العربية السعودية في العام 1996، التي كان يستخدمها في ذك الحين أفراد الجيش الأميركي لفرض منطقة حظر جوي فوق العراق. وقد قتل في الهجوم 19 من أفراد سلاح الجو الأميركي. (كما يفعل في عهد ترامب، استدعى الضغط الأميركي آنذاك رداً إيرانياً). ومع ذلك، بحلول الوقت الذي كان من الممكن فيه إلقاء اللوم في الهجوم بشكل رسمي على إيران، في العام 1997، كان الانتقام قد فقد جاذبيته -خاصة مع انتخاب محمد خاتمي، الذي كان قد تعهد بإنهاء السياسة الخارجية الإيرانية الاستفزازية- رئيساً مؤقتاً لإيران. وتحرك كلينتون بسرعة للاستفادة من برنامج خاتمي الإصلاحي، ولكن لم يكن لديه مجال كبير لخفض العقوبات التي فرضها الكونغرس، وهو شرط لا غنى عنه لإحراز تقدم دبلوماسي ذي معنى. وهكذا، تعثر ما كان يمكن أن يشكل فرصة لتطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين.
لم تتح للرئيس جورج دبليو بوش قط فرصة لتطبيق سياسة إيرانية حقاً قبل هجمات 11 أيلول (سبتمبر) التي أعاقت خططه. وما إن استعاد بوش توازنه، تعاونت الولايات المتحدة وإيران عن كثب في أفغانستان بعد الغزو الأميركي في العام 2001. ولكن، في أيار (مايو) 2003، اعترضت المخابرات الأميركية رسالة تهنئة مرسلة من متشددي تنظيم القاعدة الذين كانوا قيد الإقامة الجبرية في إيران للإرهابيين الذين اعتدوا على مجمع سكني في الرياض. وأوقف بوش على الفور التعاون الأميركي مع إيران في أفغانستان، وبدأت إيران في شحن الأسلحة للمتمردين الشيعة في العراق، واختفت فرصة التعاون.
لا يمكن تحميل إخفاقات التقارب الأميركي-الإيراني على كاهل واشنطن وحدها، بطبيعة الحال. فمنذ العام 1979، كثيراً ما خرجت إيران عن سكتها لتثير التوترات. وقد نفذت طهران وعملاؤها اغتيالات وعمليات خطف وهجمات إرهابية ضد الأميركيين وحلفاء الولايات المتحدة. وجعل نظام رجال الدين من معاداة أميركا عنصراً أساسياً في أيديولوجيته وخطابه العام. وعلى الرغم من أن عناصر من القيادة الإيرانية فضلت الانفراج منذ فترة طويلة، فإن دوائر قوية داخل طهران -بما في ذلك رجال الدين المتشددين وفيلق الحرس الثوري الإسلامي- سعت مراراً وتكراراً إلى إفشال الجهود المبذولة للتواصل الدبلوماسي.
مع ذلك، أظهرت إدارة أوباما أن خطاب طهران العدائي لا يجب أن يكون بالضرورة عقبة أمام التقدم. ومثل كلينتون، دخل أوباما البيت الأبيض عازماً على التشدد بشأن إيران. وخلال فترة ولايته الأولى، استخدم مصداقيته مع الأوروبيين لتوسيع العقوبات متعددة الأطراف على إيران، على أمل إجبار طهران على التفاوض بشأن برنامجها للأسلحة النووية. وبعد ذلك، أدت الانتخابات الرئاسية الإيرانية في العام 2013 إلى استبدال الرئيس محمود أحمدي نجاد، صاحب النزعة التحريضية بحسن روحاني، وهو رجل دين تلقى تعليمه في الغرب وكان على استعداد لمقايضة تجميد طويل الأجل لبرنامج الأسلحة النووية الإيراني بتخفيف للعقوبات الأميركية على بلده. وركزت الاتفاقية الناتجة، خطة العمل الشاملة المشتركة، بشكل ضيق على القضية النووية: لم تكن نية أي جانب حل مسألة العوائق الأخرى العديدة التي تعترض المصالحة الأميركية-الإيرانية. لكن العديد من مؤيدي الصفقة اعتقدوا أن التفاوض الناجح على مثل هذا الاتفاق المعقد سيشكل سابقة مفيدة، والتي تسمح بإجراء حوار في المستقبل حول قضايا أخرى. وبعد ممارسة الضغط الأقصى متعدد الأطراف على إيران في فترة ولايته الأولى، ترك أوباما منصبه بعد أن وضع الأساس لتحسين العلاقات بين البلدين.
العودة إلى الطبيعية
من المؤكد أن هناك مؤشرات على أن المطاف سينتهي بالرئيس ترامب إلى الامتثال للنمط المكرس حول إيران، بحيث يسعى جاهداً إلى أن يبدو قاسياً في العلن، بينما يسعى للوصول إلى توافق خلف الكواليس. ويبدو أن قراره بعدم الانتقام لإسقاط إيرانلطائرة أميركية من دون طيار في حزيران (يونيو)، وجهوده لترتيب مكالمة هاتفية مع روحاني، وإقالته الأخيرة لبولتون، كلها أمور تشير إلى هذا الاتجاه. لكن مثل هذا التحول في الوجهة غير مرجح. ما يزال مؤيدو ترامب الجمهوريون، داخل الكونغرس وخارجه، يدعمون اتخاذ موقف متشدد ضد طهران، وسيكون الإيرانيون متشككين في إمكانية الوثوق بالتزام ترامب بأي صفقة. ويحتمل أنه سيترك منصبه محتفظاً بالتصميم على إخضاع إيران كما كان حاله عند قدومه إليه.
ومع ذلك، فإن للولايات المتحدة مصلحة ملحة -إن لم يكن في عهد ترامب، ففي عهد خليفته- في إيجاد طريقة للتسوية والتعايش مع إيران، مثلما سعت مراراً وتكراراً إلى فعله مع الاتحاد السوفياتي أثناء حقبة الحرب الباردة. يجب أن يكون هدف واشنطن الأكثر أهمية هو منع إيران من امتلاك أسلحة نووية -وهو تطور يمكن أن يزعزع استقرار الشرق الأوسط بأكمله. والطريقة الأكثر فعالية للقيام بذلك هي من خلال الدبلوماسية متعددة الأطراف على غرار خطة العمل المشتركة المشتركة. ولن يوفر ذلك فقط نظام تفتيش سيكون من شأنه زيادة حصاد المعلومات الاستخبارية الغربية، ولكنه سيخلق الحوافز أيضاً للتعاون الإيراني؛ وعلى النقيض من ذلك، فإن نهج المواجهة سيقوي المتشددين في إيران وينتج حوافز دائمة تدفع إيران إلى الغش والخداع. ومع ذلك، سوف يتطلب إيجاد ترتيب عملي قابل للتطبيق دبلوماسية جريئة تتبناها إدارة ديمقراطية مستقبلية، والتي ستحتاج إلى التغلب على اعتراضات كل من الحزب الجمهوري والحكومة الإسرائيلية التي سترغب -بصرف النظر عن الحزب الذي في السلطة- في استخدام القوة الأميركية للتغلب على ايران وإجبارها على الخضوع.
يجب أن يكون الهدف الثاني للولايات المتحدة هو كسب بعض النفوذ على السياسة الخارجية الإيرانية من أجل الحد من احتمال حدوث صراع بين واشنطن وطهران. ولا شك أن قول هذا أسهل كثيراً من فعله، لأنه سيتعين على الإدارة الأميركية أن تعمل في وقت واحد على مد السد للإيرانيين، وتهدئة مخاوف حلفاء أميركا. كما سيكون الأمر صعباً أيضاً بسبب المفسدين المحتملين على الجانب الإيراني -المتشددين الذين قاموا في مناسبات عدة بإعاقة التقارب بين البلدين. وكحد أدنى، سيتطلب اكتساب تأثير ذي معنى على صنع السياسة الإيرانية فتح قناة اتصال “من-جيش- إلى-جيش” مع إيران، بالهدف الأساسي المتمثل في الحيلولة دون وقوع الاشتباكات العرَضية. ويمكن أن تتقدم هذه الصلة بعد ذلك إلى محادثات هادئة متعددة الأطراف بشأن المسائل الفنية، والانتقال إلى مناقشات سياسية أعلى مستوى لمجالات التعاون المحتملة، والتي تتوج أخيراً بالتطبيع الدبلوماسي.
فقط عندما تتم إعادة فتح السفارة الأميركية في طهران، سيكون هناك ما يكفي من التفاعلات المنتظمة بين الجانبين، والتي تتيح للولايات المتحدة التأثير على صنع القرار الإيراني. والآن وقد انتهت الحرب في سورية فعلياً، ومع صمود الرادع على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، وإظهار إسرائيل عزمها على منع إيران من توطيد حضورها بالقرب من مرتفعات الجولان، وانسحاب الإمارات العربية المتحدة من الحرب السعودية في اليمن، ثمة فرصة للقيام بحركة حذرة. لكن من غير المرجح أن يغتنم ترامب ذلك، فيما يعود إلى حد كبير إلى كون التكلفة السياسية المتصورة مرتفعة للغاية. لكن على الإدارة المقبلة، أخيراً، أن تبذل المحاولة لتحقيق الانخراط المستدام.
٭دانييل بنجامين: مدير مركز جون سلون ديكي للتفاهم الدولي في كلية دارتموث. شغل منصب منسق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية من 2009 إلى 2012.
٭ستيفن سايمون: أستاذ العلاقات الدولية في كلية كولبي. عمل سابقاً في مجلس الأمن القومي في كل من إدارتي كلينتون وأوباما. (انتهى)
٭نشر هذا المقال تحت عنوان: America’s Great Satan: The 40-Year Obsession With Iran
(الغد اﻷردنية)