فريق تحقيقات “جسر”
خلاصة:
– تبلغ كمية النفط المنتجة في ٤٦ حقلاً وبئراً فقط يبلغ ٨٧٠٣٠ برميل يومياً.
– ينتج في معمل السويدية، في الحسكة، فقط نصف مليون متر مكعب من الغاز يومياً تبلغ قيمته السوقية ١٦٠٠٠٠ دولار أميركي.
– قيمة الكميات التي تم احصاؤها في السنة ٨٤٠ مليون دولار أميركي.
– اذا ما تم الأخذ بالحسبان مالم يتم احصاؤه فإن قيمة النفط المنتج تبغ مليار دولار سنوياً في أقل تقدير.
– يستفيد من الثروة النفطية: قسد، ونظام الأسد، وحزب العمال الكردستاني، وداعش، وقطاع الفساد.
– السكان المحليون محرومون مرة أخرى وانفجار الغضب المدمر وشيك.
في المرة الوحيدة التي صرح فيها حافظ الأسد عن النفط السوري، قال بطريقة تنطوي على التهديد إنه “في أيد أمينة”، ومنذ ذلك الحين يتساءل السوريون بسخرية مرّة عمن تكون “أمينة” هذه!، التي ابتلعت ثروتهم من الذهب الأسود على مدى نصف قرن. ولم يختلف الحال عندما سيطرت قوى أخرى على كنز سورية المدفون، وآخرها قوات سوريا الديمقراطية، التي أجاب قائدها حين سُئل عن كميات النفط المستخرجة بأنه “غير مختص بهذا الأمر”، وكأن معرفة عدد براميل النفط يحتاج إلى تأهيل نوعي، لكن مظلوم عبدي يضيف أنه متأكد من كون “النفط يوزع على السوريين بعدالة”، دون أن يخبرنا عن الكيفية التي وصل بها إلى استنتاج هذه العدالة، طالما أنه لا يعرف كمية المنتج أصلاً.
أجرى فريق التحقيقات في “صحيفة جسر” مسوحا ميدانية، وقابل عددا كبيرا من مستثمري النفط، وتجاره، والمسؤولين العسكريين عن حمايته، وأعضاء في الإدارة المدنية، وتوصل إلى كم لا بأس عنه من المعلومات حول كميات إنتاج النفط، وكواليس استثمار عائداته.
ورغم ضآلة المعلومات مقارنة بكم الأسرار التي ينطوي عليها الملف، إلا أن تحقيقنا هذا يكشف عن معلومات تنشر لأول مرة، ويسلط الضوء على مكامن الخطر، ويفتح باب النقاش والتحقّق، من عدد من “الفرضيات”، التي لم تكن بحسبان بعض المهتمين والمعنيين بهذا الملف.
كمية النفط المنتجة في شمال شرق سوريا الآن
يوجد في منطقة شرق الفرات نحو ٢٠٠٠ بئر نفط، تمكنا من إحصاء كميات النفط المنتج في عدد ضئيل فقط من تلك الآبار والحقول، وبالتحديد أحصينا المنتج في ٤٦ حقلا وبئرا، وذلك من خلال شهادات تجار ومستثمرين ومسؤولين أمنيين، وبعد مقاطعة كميات الإنتاج من المصادر المختلفة، توصلنا إلى أرقام تقريبية لإنتاج تلك الحقول والآبار كما هو موضح في الجدول التالي (ننوه إلى تفاوت هذه الكميات من شهر لآخر بل وتم تغيير تابعية الكثير من الآبار ونقاط تجميع النفط ولا يجوز مقارنة هذه الجداول بجداول سابقة وفق المسميات نفسها):
أما كميات الإنتاج من الغاز فقد توصلنا لمعرفة رقمه في معمل السويدية فحسب، ويبلغ ٥٠٠ متر مكعب من الغاز يوميا، ويتم تعبئة ما بين ١٥٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠ اسطوانة يوميا، من الغاز المنزلي.
وقد بين من استندنا إلى معلوماتهم، أن ثمّة حقولا وآبارا تقع في عمق المنطقة الصحراوية، ولا يستطيع أحد في الوقت الحاضر الوصول إليها، بسبب الظروف الأمنية، سوى القوى العسكرية التابعة لقسد، وتجار النفط المرتبطين بها بشدة، وهؤلاء لم تستطع “جسر” التواصل معهم.
وباختصار فإن مجموع إنتاج المنابع النفطية التي تم احصاؤها يبلغ نحو ٨٧ ألف برميل يوميا، بينما تبلغ كمية الغاز المنتج في حقل معمل السويدية نصف مليون متر مكعب يوميا، وبما أن برميل النفط الخام يباع بمبلغ وسطي هو خمسة وعشرون دولارا أميركيا، فإن قيمة الإنتاج النفطي المحصى من قبلنا تبلغ نحو مليونين ومئة وخمسة وسبعون ألف دولار يومياً، فيما تبلغ قيمة الغاز المنتج في معمل السويدية نحو مئة وستين ألف دولار يوميا. وهذا يعني مليونين وثلاثمئة وخمسة وثلاثين ألف دولار يوميا، ونحو ٧٠ مليون دولار شهريا، ونحو ثمانمائة وخمسين مليون دولار سنوية.
وإذا أخذنا بالحسبان ما لم نستطع الوصول إليه من الآبار، فإن الرقم مرشح للقفز إلى ما يقرب المليار دولار سنويا.
أين تذهب هذه الثروة؟
حصلت “جسر” على وثائق لتوزيع المحروقات بشكل يومي في محافظة دير الزور طوال الشهر التاسع من سنة ٢٠١٩، وتبين لنا أن ما يوزع يوميا على السكان المحليين لا يتجاوز الألفين وخمسمئة برميل، وإذا ما احتسبنا أن ما يوزع في كل من محافظتي الرقة والحسكة مثل ذلك، فإن مجمل ما يوزع بسعر مدعوم لا يتجاوز سبعة آلاف وخمسمئة برميل يوميا.
أي أقل من عشرة بالمئة من المنتج النفطي، وهذا النفط يباع بسعر يبلغ ٥٥ ليرة سورية لليتر المازوت بالنسبة للمنشآت الخدمية مثل المخابز والمطاعم، و٧٥ ليرة سورية للسيارات، فيما يباع في محطات الوقود للعموم بسعر ١٢٥ ليرة سورية لليتر الواحد، فأين تذهب عائدات هذا النفط المباع، والذي يبلغ فقط ما نسبته أقل من عشرة بالمئة من النفط المقدر؟، وأين يذهب ما نسبته ٩٠ بالمئة من النفط المتبقي؟
وزير النفط في الإدارة الذاتية: خارج الخدمة!
حاولنا أن نسلك الطرق الرسمية للإجابة عن تلك التساؤلات، وتوجهنا إلى من يشغل منصب “وزير النفط” في الإدارة الذاتية، أو ما يعرف بـ” الرئاسة المشتركة لمكتب النفط في المجلس التنفيذي للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا”، المهندس سعد العساف الذي أفاد بالتالي، وفق مراسلات موثقة:
– بالنسبة لكمية الإنتاج النفطي قال “حاليا لا يوجد إحصائيات دقيقة ولا حتى تقريبية بسبب أن أغلب حقول النفط خارج الخدمة بسبب تعاقب الفصائل المسلحة المسيطرة عليه من جيش حر لجبهة نصرة لداعش“
– أما عن توزيع اﻹنتاج فقال “بالنسبة للحصص في المقاطعات فيوجد مديرية محروقات تقوم بتوزيع المحروقات على كافة الاقاليم والمقاطعات حسب الحاجة”. وامتنع عن ذكر أي ارقام.
والمدهش في ردوده كان إعلانه أن “حقول النفط في دير الزور خارج الخدمة والإنتاج إسعافي والإستلام عسكري لحماية الحقول”. أما بالنسبة لحقول الحسكة التي تهيمن عليها وحدات الحماية الكردية منذ بدء الصراع، والتي لم تتعرض لأي تخريب أو سيطرة فصائل أخرى فقال بالحرف الواحد ”حاليا حقول الحسكة أغلبها متوقف بسبب العقوبات على سوريا”. وأتبع ذلك بعبارة أخرى أغرب من التي سبقتها بقوله “لذلك أغلب الآبار متوقفة بسبب غياب سوق التصريف”. وبطبيعة الحال هذه الأجوبة تتناقض وواقع الحال، حيث وثق مراسلو “جسر”، عبر تسجيلات مصورة، مئات الصهاريج التي تنقل آلاف البراميل باتجاهات متعددة، منها إلى مناطق سيطرة النظام، ومنها إلى مناطق شمال سوريا، بما فيها منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”.
قطع المسؤول الأول (رسمياً) عن النفط في المنطقة، بردوده هذه، الطريق إلى مزيد من الأسئلة والاجابات، وكان لابد لنا من تحري الأمر عبر مصادر أخرى غير رسمية، من سكان المنطقة، خاصة العاملين في هذا القطاع، ومسؤولي الإدارة الذاتية، المطلعين على جزئيات من ملف النفط، والذين فضّلوا عدم كشف أسمائهم، بما فيهم قادة عسكريون في قوات سوريا الديمقراطية، بسبب مخاوفهم الأمنية، وخشيتهم على وظائفهم ومصادر رزقهم، وقد أفضت حصيلة إجاباتهم إلى النتائج العامة التالية:
إنشاء جيش جرار يتبع لحزب الاتحاد الديمقراطي من عائدات النفط
تسيطر قوات سوريا الديمقراطية، وجناحها المدني (الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا) على نحو نصف الإنتاج النفطي وعائداته، وتنفقها وفق خطط يضعها حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني، وينصب ذلك الانفاق على تأهيل وإعداد وتسليح المقاتلين التابعين لقسد، وعلى دفع رواتبهم بانتظام، حيث بلغ عديد هؤلاء المقاتلين الخاضعين فعليا لقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي نحو ١١٠ آلاف مقاتل، سواء أكانوا من الوحدات العسكرية أو قوات الشرطة أو الاستخبارات أو وحدات حماية المرأة وسواها، وينفَق جزء منها على الإدارة المدنية والخدمات التي تقدمها، ومنها بيع المحروقات للأفراد والمنشآت بسعر أدنى قليلا من سعر السوق، والنفط الذي يتم بيعه وتوزيعه بهذه الطريقة يأتي معظمه من عمليات التكرير في نحو ٢٠٠ مصفاة تكرير كهربائية اشترتها الإدارة الذاتية، بينما يوزع قسم منه على مستثمرين محليين؛ ليقوموا بدورهم بتوزيعه على مصاف بدائية “حراقات” مملوكة لأشخاص يقومون بتكريره وإعادته إلى الإدارة، أو بيعه مباشرة في السوق المحلية، وجزء كبير من هذا الإنتاج يتم تهريبه إلى مناطق سيطرة نظام الأسد.
كما يتم تصدير كمية غير محددة من النفط إلى إقليم كردستان العراق عبر شركة تحمل اسم “ اصلان اوغلو”، التي يديرها رجل أعمال من القامشلي مرتبط بالإدارة الذاتية يدعى “أبو دلو”، أما تصدير النفط لمناطق سيطرة فصائل المعارضة شمال حلب وفي إدلب، فتديره شركة “الحزواني”، ويقال إن جزءا من هذا النفط يتم تهريبه من هناك إلى تركيا.
من ناحية أخرى، هناك مخصصات غامضة من النفط، لم نستطع معرفة الكثير عنها بسبب وقوعها في أيدي عدد قليل من المتنفذين، وهذه المخصصات تدعى بـ”الخط العسكري” أو تذهب من خلاله، والذي تختفي فيه وخلاله كمية كبيرة من النفط بذريعة سد الاحتياجات العسكرية، ويضرب حوله طوق من السرية بذريعة الدواعي الأمنية، ولم نعرف من المسؤولين عنه سوى الشريك المحلي في منطقة دير الزور، ويدعى حسن المعزي، الذي يدير اليوم ثروات هائلة، غير معروفة المصدر.
نظام الأسد ثاني المستفيدين:
يتم ضخ النفط إلى مناطق سيطرة الأسد عبر شبكة من الشرايين السرية والعلنية، يديرها رجل الاعمال المعروف “براء القاطرجي” وشقيقيه، حيث تتجمع الصهاريج المحملة بالنفط الخام، والقادمة من مختلف مناطق الإنتاج النفطي (حوالي ٣٠٠ صهريج) في ساحة خاصة بالقرب من دوار “زوري” في القامشلي، وفي مركز تجمع آخر عند مدخل الحسكة الجنوبي، لتتجه بحماية من قوات قسد إلى الرقة عبر الطريق: تل تمر ثم أبيض، ثم المكمان، ثم صباح الخير، ثم الكرامة، فالرقة وصولاً إلى معبر الطبقة، ومنها إلى “أثريا”، حيث تتسلمها قوات النظام.
بينما يتم تهريب كميات أخرى عبر أنابيب تمتد تحت نهر الفرات، وسفن نهرية على شكل صهاريج تنقل النفط من شرق الفرات إلى غربه حيث تسيطر قوات النظام، وذلك بعلم وقبول من قوات سوريا الديمقراطية.
ويشكل وصول هذا النفط للنظام السوري بحد ذاته مكسبا له في ظل العقوبات المفروضة عليه، ناهيك عن سعره المنخفض الذي لا يتجاوز العشرين دولارا أميركيا للبرميل الواحد، وتشغيله لمصاف النفط وتوابعها في مناطق سيطرته، التي يعمل فيها الآلاف من العمال.
الفساد شريك أساسي
يبتلع قطاع الفساد، سواء في قوات سوريا الديمقراطية أو الإدارة الذاتية ما يقدر بخمسة عشر بالمئة من الإنتاج النفطي، وبدأت الثروات تظهر على الشركاء المحليين في دير الزور والحسكة، مع أنهم الأقل استفادة، إلى درجة إن عددا منهم بات يتحرك بمواكب تضم عشرات الحراس الشخصيين، الذين قد يبلغ عددهم ٣٠ حارسا، كما في حالة التاجر المعروف بالضبع “محمد رمضان المصلح”.
وتتكون ثروات هؤلاء من خلال الشراكة الوثيقة مع المشرفين الأمنيين على آبار النفط، وجميعهم من عناصر حزب العمال الكردستاني الموفدين من قنديل مباشرة، ويعرفون بالكوادر، وهؤلاء لا أحد يعرف أين يذهبون بالأموال التي يجبونها من عمليات البيع خارج القيود، والتلاعب بكميات النفط الهائلة.
وعلى سبيل المثال، أخبرنا أحد التجار الذين يستثمرون بئر الملح، وهو بئر صغير نسبيا يقع في بادية ريف دير الزور الشرقي، إنه حصل على “تعهد” للبئر، تم توقيعه في حقل التنك، وبمقتضاه يتوجب عليه دفع عشرة آلاف دولار اسبوعيا، على أن يقوم باستخراج النفط، وبيعه لصهاريج مرخص لها من قبل قوات سوريا الديمقراطية بمبلغ عشرين ألف ليرة سورية للبرميل الواحد (نحو ٢٢ دولار)، لكنه يستطيع وفق تفاهم مع “الكادر” المسؤول عن البئر، مقابل نسب محددة، استجرار كمية من النفط وبيعها لنظام الأسد بمبلغ ٢٥ ألف ليرة للبرميل الواحد.
أما الطريقة الأسهل لسرقة الناتج النفطي، فتتم عبر عمليات تقدير كمية “الفاقد” في النفط الذي يجري شراؤه، حيث تحسم نسبة معينة من الكمية بذريعة وجود ماء أو شوائب في النفط المباع، ويعود تقديرها للكادر المسؤول عن التعبئة في حينها، وهي تتراوح بين خمسة بالمئة، وثلاثين في المئة في بعض الحالات، ويتقاسم الكادر والتاجر المحلي المبالغ الناجمة عن هذا التلاعب.
الفساد أيضا يضرب أطنابه في عموم القطاع النفطي، ويتبع مجمل عمليات اﻹنتاج والبيع؛ من المنبع إلى حين وصوله إلى يد المواطن المهمش تماما عن هذه العملية. وعلى سبيل المثال تنظر اليوم محكمة “الكسرة ” في ريف ديرالزور الغربي، بقضية فساد “عادية”، وواحدة من عشرات القضايا، وتتعلق ببيع هيئة المحروقات في دير الزور لميلون وثمان مئة ألف ليتر من المازوت المخصص للبيع للمنشآت الخدمية، إلى تجار السوق السوداء، بسعر ١٢٥ ليرة سورية لليتر الواحد، وذلك عبر محطة وقود عند مدخل ديرالزور الشمالي يملكها أحد كبار الضالعين في ملف الفساد وهو حسن المعزي الذي سبقت الإشارة إليه. الأمر الذي نتج عنه فائض قدره ٥٧ مليون ليرة سورية، وبعد تفجر هذه القضية، يقوم قطاع الفساد ذاته في عموم الإدارة الذاتية بمحاولة طيها، أو تحويلها إلى مجرد خطأ بسيط.
حصة PKK لا تقل عن ١٥ بالمئة:
يخوض حزب العمال الكردستاني حروبا في تركيا وسوريا والعراق، ويشغّل جهازا دعائيا ضخما في الغرب وفي المجتمعات الكردية عبر العالم، وكل هذا بحاجة إلى أموال يفتقدها قادته المتمترسون في جبال قنديل الفقيرة، ويمثّل امتداده السوري، أي حزب الاتحاد الديمقراطي، والموارد التي هيمن عليها منذ ٢٠١١، أحد أهم مصادره المالية.
وفقا لمطلعين عن كثب، من المكون العربي، على عمليات إنتاج النفط وبيعه شرق الفرات، فإن هناك حصة دائمة “للحزب” من العوائد، لا يعرفونها بدقة، لكنهم يقدرونها بنحو ١٥ بالمئة، ويجبيها من المنابع مباشرة الكوادر المعينين من قبل “الحزب”، إذا لا يوجد بئر نفط على الإطلاق، لا يشرف عليه كادر من الأكراد، غالبا من الإيرانيين، ولا يتم ضخ برميل واحد دون موافقته. وهؤلاء الكوادر معروفون بالاسم في منطقة ديرالزور على الأقل، واشهرهم المدعو “فرزات” وهو الكادر المشرف على آبار حقل العمر، وقد أُقيل مطلع هذه السنة ٢٠٢٠ بسبب تراكم ملفات الفساد والرشى بحقه إلى درجة بات يصعب تجاهلها، وعين بدلا عنه كادر يدعى عدنان، والكادر “عصمت” فهو المسؤول عن حقل العزبة ومعمل كونيكو، إضافة إلى آخرين بينهم كادر يدعى كللي، أما المشرف العام على هؤلاء، أو من يعتبر وزير النفط الفعلي في شمال شرق سوريا، فيدعى علي شير. وجميعهم كما أسلفنا أعضاء في حزب العمال الكردستاني تم إيفادهم من قنديل بمهمة واضحة هي اقتطاع نسبة محددة من العائدات النفطية لدعم أنشطة الحزب العسكرية والسياسية.
لا بد من “إرضاع” داعش أيضا
وفق من تحدثنا إليهم، فإن بقاء تنظيم داعش على قيد الحياة، محتفظا بقدرته على تنفيذ بعض العمليات الأمنية هنا وهناك، يمثل ضرورة حيوية بالنسبة لقوات سوريا الديمقراطية والحزب المرتبطة به (العمال الكردستاني)، فهو العامل الوحيد الذي يضمن استمرارية شرعية تلك القوات في نظر المجتمع الدولي والمحلي ايضا.
محدثونا أكّدوا أن جهاز استخبارات قسد على علم كاف بأن ما من شخص يتاجر بالنفط، خاصة في مناطق ديرالزور، إلا ويدفع ضريبة (زكاة) تبلغ واحد في المئة من عمليات المتاجرة، بل أن هذا التواطؤ يصل مع بعض التجار إلى احتساب تلك النسبة عند ابرام العقود، وأكد لنا أحد تجار النفط أن “لا وجود لتاجر نفط من أبناء المنطقة لا يدفع الزكاة، فهو مقتول بكل بساطة”. وأكد على أن عددا من زملائه الذين يعملون في هذا المجال تلقوا بالفعل تهديدات بالقتل، عند تلكؤهم بالدفع.
وقد لا تمثل المبالغ المقدمة لتنظيم داعش نسبة مهمة من القيمة النهائية للنفط المنتج في المنطقة، لكنها وفق أحد من تحدثنا إليهم، “إرضاع” لداعش، كافية لإدامة الوجود التنظيمي السري، وتمويل عملياته الأمنية منخفضة الكلفة، والتي تتيحها عمليا قوات سوريا الديمقراطية من خلال إرخاء القبضة الأمنية في بعض المناطق، وإطلاق سراح عناصر داعش المحتجزين لديها على دفعات، لتغذية الكادر البشري للتنظيم بشكل مستمر.
أي مستقبل لقطاع النفط في شمال شرق سوريا؟
تم تداول شائعات في الفترة المنصرمة، حول قرار أميركي بالبدء باستثمار النفط في المنطقة، وإخضاع الإنتاج لرقابة شديدة، وبالتالي تحديد كميات الإنتاج وطرائق صرفه، إلا أن السفير الأمريكي في سوريا، جول رايبرن، قد نفى عند لقاء صحيفة جسر معه في باريس يوم ٢٧ أكتوبر ٢٠١٩، في باريس، وجود مخططات من هذا النوع، وأكد أن ما تحرص عليه الإدارة الأمريكية هو منع وصول نظام الأسد للمصادر النفطية واستخدامها في حربه ضد الشعب السوري، وأن حال حقول النفط سيبقى على وضعه الحالي، إلى حين إيجاد حلّ دائم للقضية السورية.
(فيديو لمشاهد رصدها مراسلو صحيفة جسر حول قطاع النفط والإتجار به في شمال شرق سوريا)
ماذا عن السكان المحليين؟
تنبئ إجابة السفير الأمريكي أعلاه، بإن عمليات النهب والسرقة الحالية للمنابع النفطية ستستمر في المدى المنظور، مع كل ما قد تجلبه على المنطقة من كوارث أمنية، تتمثل بتضخم قوة طرف عسكري، وهيمنته على السكان والموارد الأخرى في المنطقة، وتسخيره لتلك الموارد لخدمة أهداف أيديولوجية لا تمت لطموحات السكان المحلين بصلة، وهي أيديولوجيا حزب العمال الكردستاني الذي يسعى لإقامة دولة كردية في تركيا على وجه التحديد، وتغذي تنظيم إرهابي يسعى أيضا إلى إقامة دولة قروسطية، وفق أيديولوجيا قتل بسببها عشرات الألوف من سكان المنطقة، ناهيك عن الكوارث البيئية والصحية الخطيرة الناتجة عن عمليات الاستخراج والتكرير البدائية، حيث تتفشى الأمراض السرطانية واوبئة تنفسية بشكل كبير في مناطق الإنتاج، إضافة إلى الصدامات الاجتماعية والتناحر بين القبائل الذي يثيره الفساد المرتبط بتوزيع الثروة النفطية، وتمتع نسبة ضئيلة من أبناء المنطقة بجزء من عائدات النفط نظير تسترهم ومساعدتهم للجهة المسيطرة على الأرض في عمليات النهب الممنهج.
كل تلك الظروف، وعلى رأسها التوزيع غير العادل للثروة، يدفع السكان المحليين إلى مزيد من الغضب، خاصة مع ارتفاع مستوى حرمانهم وتدهور أحوالهم المتسارع، وهو ما سينفجر في النهاية، لكن غالبا بصيغة تمرد “جهادي”، بسبب التوجيه المسبق من قوة الأمر الواقع المسيطرة، والتي تمنع أي حراك مدني أو سياسي مستقل في المنطقة، وتمنع التداول في شأن ثروات الشعب التي تهيمن عليها أو مساءلتها عنها، الأمر الذي يجعل من “داعش” وسواها، من التنظيمات السرية، ملاذا وحيدا للفقراء الغاضبين، وهو الخيار الذي سيجلب بطبيعة الحال المزيد من الخراب لمجتمعات المنطقة، ويضفي مزيد من الشرعية على القوى المتحالفة ضده.