جسر: درعا: خاص:
في آواخر سنة ٢٠١٣، بدأت قذائف مصدرها مواقع قوات نظام الأسد بالتساقط على القرية الواقعة في سهل حوران، فلملمت الشقيقتين رهام وهدى متاعهما على عجل وحملن أطفالهن وسارعن إلى منزل والدهما في قرية أخرى، على أمل أن يكون الحال هناك أكثر أمناً، لكن صاروخا قيل لهم أنه فراغي، وقع على منزل الوالد، ليدمره وتتناثر أشلاء أفراد قاطنيه.
الشقيقة الثالثة ناهد، هي الشاهد الوحيد على المجزرة، وهي من تروي لنا الحكاية: ” كانت رهام حاملاً في الشهر التاسع، وقذفها الإنفجار الشديد، ووجدنا جثتها خارج المنزل، أما جنينها فوجدنا جثته في أعلى الشارع، وجثة ابنها البكر في مكان اخر، فيما أسعف طفلها الثالث وطفلتها الى النقطة الطبية على الحدود”. أما “المعجزة” من وجهة نظر ها فهو عثورهم على شقيقتها هدى، وقد قذفها انفجار الصاروخ الفراغي لتقع تحت شجرة! وجدوها مسجاة وفي حالة غيبوبة، وتبين لهم أنها مصابة بكسر في الحوض، إضافة إلى كسور أخرى، بينما قتلت ابنتها الوحيدة التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات، اسعفت هدى مع بعض الأطفال الصغار إلى مكان لا يعرفون ما هو، ولا يعلمون أين يقع.
قتل في الضربة أيضاً، خال الفتيات وزوجته، ليصبح عدد ضحايا المجزرة ١٣ فرداً من عائلة واحدة، أقيم لهم عزاء سريع في منزل الشقيقة الرابعة وتدعى كوكب، وفي اليوم التالي قصف موقع العزاء، وقتلت إحدى الجارات واصيبت كوكب ووالدتها بجروح بليغة، وليتم اسعافهن إلى المكان الذي يقبع فيه الجرحى الآخرون.
الجدة أم أحمد التي فقدت ابنتيها وأحفادها، لا تتذكر سوى مشهد القصف خلال العزاء، عندما ملأ فجأة الغبار المكان، وخيم الظلام عليه لتجد نفسها تصرخ مستغيثة دون وعي:”يا أهل النخوة، يا أهل المروة والشهامة يا أولادي يا بناتي..” ثم تفقد وعيها، لتجد نفسها في مشفى بإسرائيل!
في تلك الآونة كانت الأردن ترفض استقبال الجرحى والمصابين، وكان السكان يقومون بإسعاف جرحاهم إلى النقطة الطبية التي اقامتها إسرائيل بمحاذاة الحدود، وفيها تعالج الإصابات الخفيفة، فيما تنقل الحالات الحرجة إلى داخل الأراضي المحتلة، بعد أن يتم قص ملابس المصاب للتأكد من خلوه من أي سلاح، ويخضع عند نقله لمراقبة دقيقة.
تروى أم أحمد الخمسينية قصتها بمشاعر مختلطة، فجيش البلاد الذي كان يفترض أن يحميها، قتل معظم أفراد اسرتها، وأصابها جسدها بجراح بليغة، بينما الجهة التي ناصبتها العداء طوال حياتها، واضمرت لها الكره بوصفها العدو الأول، ضمدت جراحها.
تفسر أم أحمد التعامل الاسرائيلي مع السوريين برغبتهم في تقديم صورة إيجابية عن أنفسهم، و “تبييض صفحتهم السوداء”، وتضيف:” لم يكن لدينا أي تواصل مع أحد في ذلك المشفى، كل ما علمته أنه تم إسعاف ما تبقى من بناتي و أحفادي الى مشاف أخرى و لكن لم استطيع الوصول إليهم او التأكد من ذلك، قامت عائلات سورية لا أعرفها من الجولان المحتل، بزيارتي في المشفى حاملين الفاكهة، وفاضت اعينهم بالبكاء لحالنا.. وحالهم”.
استمرت رحلة علاجها ثلاثة أشهر، لترميم كسور في مختلف أنحاء جسدها، ليتم إعلامها ذات ليلة أنه سيتم إعادتها في المساء التالي إلى الأراضي السورية.
وضعت أم أحمد على كرسي متحرك، ونقلت إلى النقطة الطبية الحدودية. تتابع “رغم الظلام الدامس، إلا أنني كنت اشعر بوعورة الطريق، هو بلا شك طريق زراعي، أخبرني أحد الشبان ممن رافقوني، بأن هناك جثة لفتاة من درعا تم اسعافها إلى إسرائيل سابقاً، لكنها توفيت، وسيتم نقلها معي، وهم لا يعرفون هويتها، باستثناء أنها من محافظة درعا”. مشاعر غامضة انتابت أم أحمد في تلك اللحظات، ولا تعلم ما الذي دفعها على طلب رؤية الفتاة التي ستنقل معها بالسيارة ذاتها، قوبل طلبها بالرفض الشديد، لكن هذا زاد من إصرارها، وحين تم الكشف عن وجه الفتاة تبين لها أنها ابنتها، هدى التي تم اسعافها مع الدفعة الأولى من المصابين، تقول أم أحمد:” صدمتي كانت كبيرة، لقد عدت بصحة جيدة وشبه معافاة، لكن مع جثة ابنتي الشابة”.
رفضت العائلة التي فقدت ثلاثة عشر شهيداً من أطفال ونساء، أن تذكر اسمها أو منطقة اقامتها السابقة أو الحالية، خوفاً من مخابرات نظام الأسد، الذي أعاد فرض سيطرته عليهم، وعلى مناطقهم، وسيتهمهم بكل تأكيد، بالخيانة والعمالة، لتلقيهم العلاج في مشفى إسرائيلي!