سامي مروان مبيض
في النصف الأول من عشرينيات القرن الماضي، دارت معارك طاحنة في الصحراء العربية بين قوات الشريف حسين بن علي (مؤسس مملكة الحجاز) وسلطان نجد الأمير عبد العزيز آل سعود، الذي تغلّب عليه وأخبره على التنحي عن العرش في تشرين الأول/أكتوبر 1924. كلاهما كان يحيط نفسه بفريق من المستشارين السوريين الهاربين من بطش الفرنسيين في بلادهم. شُكل فريق الشريف حسين خلال السنوات 1916-1925 وكان يضم محب الدين الخطيب، رئيساً لجريدة القبلة، ومعه فوزي باشا البكري، الذي سمّي وزيراً للداخلية في مملكة الحجاز، وتحسين باشا الفقير، الذي عُيّن وزيراً للحربية.
مستشارون وأطباء
مع سقوط العرش الهاشمي في مكة واستبداله بالعرش السعودي، تغيّر طقم المستشارين القادمين من بلاد الشّام. ولعل أن مستشاري الملك عبد العزيز السوريين حققوا شهرة أوسع وأطول من مستشاري الشريف حسين، فقد ضمّت حاشيته الأطباء رشاد فرعون ومدحت شيخ الأرض من دمشق، والدبلوماسي الشيخ يوسف ياسين، ابن مدينة اللاذقية الذي عَمِل سكرتيراً خاصاً للملك ثم ممثلاً له في جامعة الدول العربية عند تأسيسها سنة 1944.
أما الدكتور فرعون، فقد عُين طبيباً خاصاً لابن سعود ثم سفيراً في فرنسا، وكان الدكتور شيخ الأرض أيضاً طبيباً خاص للملك. هؤلاء حطوا في أرض الحجاز هرباً من الملاحقة الفرنسية في بلادهم وقد وثق بهم الملك عبد العزيز كثيراً وتعاملوا معه بإخلاص ومحبة، في مرحلة سبقت الثورة النفطية في السعودية. أي أنهم آمنوا به ولم يكن أحد منهم يفكر بالمكاسب المادية والسياسية التي جاءت لاحقاً.
معظم هؤلاء جاؤوا بتزكية من الرئيس السوري شكري القوتلي، صديق عبد العزيز آل سعود منذ مرحلة العشرينيات، أي قبل انتخابه رئيساً للجمهورية بحوالى عشرين سنة. دعم الملك عبد العزيز الوطنيين السوريين في حربهم ضد فرنسا، وكان راعياً لأحد أجنحة المؤتمر السوري–الفلسطيني الذي عُرف بـ”جناح عابدين”، وكان مقره بالقرب من قصر عابدين في مصر، وكان مؤلفاً من القوتلي والأخوين نبيه وعادل العظمة، ومعهم مفتي القدس الحاج أمين الحسيني. وعند اندلاع الحرب السعودية اليمنية سنة 1934، دخل الزعيم السوري هاشم الأتاسي على الخط بطلب من ابن سعود، وسافر إلى الحجاز من أجل الوساطة، وكان ذلك قبل حوالي سنتين من انتخابه رئيساً في دمشق.
العلاقة مع شكري القوتلي
عند نفي القوتلي خارج سوريا في أثناء الحرب العالمية الثانية، توسط الملك عبد العزيز لأجله، وأقنع الإنكليز بضرورة عودته إلى دمشق، نافياً تهمة “النازية” عنه التي ألصقت به من قبل المخابرات الفرنسية. وكان ابن سعود أول زعيم عربي يعترف باستقلال سوريا سنة 1941، علماً أنه كان استقلالاً مبتوراً لأنه أبقى قوات فرنسية على الأراضي السورية إلى حين انتهاء العمليات القتالية في أوروبا.
وعند انتخاب القوتلي رئيساً لجمهورية في 17 آب/آغسطس 1943، حصلت سوريا على دعم سياسي كبير من السعودية، تمثل في ترتيب لقاء قمة في القاهرة بين الرئيس السوري ورئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل في شباط/فبراير 1945. استضاف الملك فاروق هذا الاجتماع، وكان من المقرر أن يحضره الرئيس الأمريكي فرانكلن روزفلت، بعد اجتماعه الشهير من الملك السعودي قبل أيام، ولكن وضعه الصحي لم يسمح بذلك واختصر الاجتماع على القوتلي وتشرشل، بحضور الملك عبد العزيز والملك فاروق. وقد قال القوتلي يومها لتشرشل: “هذا الرجل -عبد العزيز آل سعود- هو أعز صديق عندي، ولو طلب عيوني لأعطيته إياها دون تردد ولكنّه لو طلب مني أن أوقع اتفاقاً مجحفاً بحق سوريا، لقاتلته”.
استطاع الملك عبد العزيز يومها إقناع بريطانيا والولايات المتحدة بدعوة سوريا لحضور المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية في نيسان/أبريل 1945. وعند تحقيق جلاء سوريا التام في 17 نيسان/أبريل 1946 أرسل نجله الأمير فيصل بن عبد العزيز لمشاركة الرئيس القوتلي في الاحتفال الكبير الذي أقيم بدمشق، مع قطعة من الجيش السعودي، وردّت سوريا الجميل بإطلاق اسم “الملك عبد العزيز” على أحد شوارعها.
أسس القوتلي والملك عبد العزيز، بالتعاون مع الملك فاروق، تحالف سوريا –مصر–السعودية، الذي عاش أطول بكثير من الزعماء الثلاث (فاروق خُلع عن العرش سنة 1952، عبد العزيز توفي سنة 1953، والقوتلي غادر الحكم في المرة الأولى سنة 1949، ثم بشكل نهائي عند قيام الوحدة عام 1958). وبناءً على هذا الحلف، قرر الزعماء الثلاث إنشاء “جيش الإنقاذ” سنة 1947 لمحاربة العصابات الصهيونية في فلسطين. تولت سوريا استضافة جيش الإنقاذ قامت مصر بتدريبه وعملت السعودية على تمويله.
بدء الانقلابات العسكرية سنة 1949
صدم كل من فاروق الأول والملك عبد العزيز بخبر الانقلاب العسكري الذي أطاح بحليفهما القوتلي يوم 29 آذار/مارس 1949، وكان بقيادة حسني الزعيم، قائد الجيش السوري. فكّر الزعيم بإعدام القوتلي بعد اعتقاله ولكنه لم يفعل، خوفاً من غضب السعودية، وتوسط الملك عبد العزيز لأجل إطلاق سراحه ونفيه إلى مصر، حيث حلّ ضيفاً على الملك فاروق. ولكن ضرورات السياسة أجبرت مصر والسعودية على الاعتراف بشرعية حكم الزعيم في سوريا –على مضض– لكيلا يذهب الزعيم باتجاه المحور الهاشمي في السياسة العربية، المتمثل بحكام العراق والأردن.
وكان الملك عبد العزيز ليس له أي مطامع سياسية في سوريا، ولم يرغب بالتوسع خارج الحجاز، عكس العراق الذي طرح مشروع الهلال الخصيب، والأردن الذي نادى بسوريا الكبرى تحت عرش الملك عبد الله الأول. وفي سنة 1932، حاول الإنكليز طرح أحد أبناء ابن سعود لتولّي العرش في سوريا (إما الأمير فيصل أو الأمير سعود) ولكن أباهم رفض بشدة قائلاً: “لن يحكم سوريا إلا أحد أبنائها”.
حافظت السعودية على هذه العلاقة المتينة مع دمشق خلال مرحلة الانقلابات العسكرية التي عصفت بالبلاد ما بين 1949-1951، ولم تتدخل لنصرة طرف ضد الآخر. ولكنّها لم تتأخر عن استضافت أديب الشيشكلي يوم استقالته من الرئاسة في شباط/فبراير 1954، وعينت الرئيس الأسبق فوزي سلو مستشاراً في فصورها الملكية.
وبعد وفاة الملك المؤسس عبد العزيز في تشرين الثاني/نوفمبر 1953، استمر نجله الملك سعود بنفس النهج مع سوريا، ما جعله في مواجهة غير معلنة مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي ظهر على مسرح الأحداث في بلاده بعد الإطاحة بالملك فاروق سنة 1952.
وعشية قيام الوحدة السورية–المصرية سنة 1958، حصل تدهور سريع في العلاقات الثنائي بعد خروج مدير المخابرات السورية عبد الحميد السراج وقوله إن السعودية دفعت له مالاً وفيراً عبر أحد فروع البنك العربي لاغتيال الرئيس عبد الناصر. وعند انهيار الوحدة في 28 أيلول/سبتمبر 1961، كانت السعودية في طليعة مؤيدي انقلاب الانفصال، وقد دعمت استعادة سوريا لمقعدها المستقل والدائم في الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية، كما قامت بتأجيل قرض مالي كان قد منح إلى سوريا قبيل الوحدة واستحق في مطلع عهد الانفصال، قيمته ستة ملايين دولار.
المصدر: رصيف 22