جسر – صحافة
فضى العفو الرئاسي الذي أصدره رئيس النظام السوري بشار الأسد عن بعض المعتقلين والمغيبين قسراً ممن نجوا حتى الآن بعدما زجوا في المعتقلات وعانوا من التعذيب النفسي والجسدي من دون أن يعرف عن مصيرهم أحد، إلى معضلة في موقف الشارع الموالي والإعلام الرسمي وشبه الرسمي. لأن خطاب النظام إعلامياً ودبلوماسياً طوال سنوات كان يكرر على فكرة عدم وجود معتقلين من الأساس في البلاد، مع إطلاق أوصاف عليهم كالموقوفين والسجناء وكلها أوصاف قانونية تختلف بشكل جذري عما يحصل في البلاد حرفياً.
ومع نزول آلاف السوريين إلى شوارع العاصمة دمشق وتجمعهم في منطقة جسر الرئيس انتظاراً لوصول معتقلين إلى هناك، شكل المشهد صدمة للموالين لسببين الأول هو الإنكار التام لوجود قضية معتقلين في الدولة الأسدية التي تزعم أنها دولة مؤسسات يحكمها القانون، والثاني هو الأحقاد المجتمعية التي ولدتها الحرب السورية، أو زادت من حدتها ويرى أصحابها بموجبها المعتقلين وعائلاتهم مجرمين وإرهابين لا يستحقون الإفراج عنهم.
ولم يكن من الغريب بالتالي أن تصور شبكة شام “إف إم” تقريراً بالفيديو عن تلك التجمعات قبل حذفه لاحقاً بسبب كمية الإحراج لسردية النظام الكاملة، ظهر فيه أفرادلم يعد في عيونهم دموع للبكاء يستجدون من أجل معلومة واحدة حول مصير أب أو أم أو أشقاء أو صديق أو حبيب. هم لم يتجمعوا هناك لأنهم يدركون مسبقاً أن من ينتظرونه سيأتي حتماً، بل كانوا هناك على أمل يائس بأن ذلك سيحدث، أو للحصول على معلومة من الناجين في حال كانت ذاكرتهم سليمة، حيث انتشرت قصص وصور محزنة لمعتقلين خرجوا أخيراً وبدوا أشبه بجثث بشرية بعد سنوات وسنوات من التعذيب، لدرجة فقد بعضهم ذاكرتهم كلياً جراءه.
وعلى “الإخبارية السورية” وصف قضاة ومحامون ومذيعون، الأهالي بأنهم خونة ومندسون ومدفوعون من جهات خارجية. كيف يمكن لهم أن يشوهوا عظمة العفو الرئاسي، يتساءل أحد القضاة، ويستغرب من مشهد التجمعات بوصفه مشهداً غير لائق و”لا يراعي الأصول”، وتوصلوا جميعاً باستهجان إلى خلاصة بأن من ينزل إلى الشوارع هم “أشخاص بلا عقل ولا منطق” لأن العرف والقوانين المعنية لا تنص على إصدار قوائم ومعلومات عن المعتقلين، وهم أمر ممنهج بالطبع من أجل إحداث مزيد من القهر وكسر النفسية المعروف كاسلوب كلاسيكي للحكم ضمن أي نظام شمولي.
ورغم أنها صور نظيفة، أي خالية من الدم والعنف والأشلاء البشرية التي تأتي إلى الذهن مباشرة عن التفكير بفظائع الحرب السورية، فإن صور المعتقلين وعائلاتهم التي تنتظرهم على حد سواء، مخيفة لدرجة تعجز الكلمات عن وصفها، خصوصاً أنها تظهر بوضوح معنى الحياة في ظل نظام دكتاتوري مجرم يعاقب المدنيين بلا سبب غالباً بالتعذيب ويخفي كل معلومات عنهم عن عائلاتهم ويبتز عواطف تلك الأخيرة من أجل تخويف القسم الباقي. وحتى في سياق مفرح نظرياً يتعلق بالإفراج الذي يعني العودة للحياة من الموت، فإن النظام يحرص على تحويل تلك المشاعر إلى خليط من الإذلال واليأس لدرجة يمكن معها سماع صوت الأسد شخصياً يصرخ من وراء الصور متخطياً حدود الزمان والمكان: “فعلت هذا بهم ويمكنني أن أفعله بكم أيضاً حتى إن كنتم من الموالين لي وتجرأتم على القيام بما لا أرضاه”.
على أن القهر الذي تحمله صور أهالي المعتقلين المتجمعين في شوارع دمشق، يتخطى قدرة الكلمات على الوصف. كيف يمكن الكتابة عن شعور أم تنتظر خبراً عن ابنها المعتقل منذ 11 عاماً ولا تعرف عنه شيئاً إن كان حياً أم ميتاً؟ وكيف يمكن التعبير عن فتاة شابة لا تذكر من أبيها سوى ظله هو الذي اعتقل عندما كانت طفلة صغيرة؟ وكيف يمكن رصد اللهفة والأمل واليأس والحسرة والبؤس كلها معاً أمام مقاطع الفيديو للتجمعات التي يشكر فيها الأهالي خاطف أحبابهم على إمكانية إطلاق سراح أحبابهم؟ وكيف يمكن الهرب من الشعور الخفي بالراحة مع البعد الجغرافي عن المكان المظلم المدعو سوريا الأسد الذي يتسلل حتماً إلى قلوب الناجين في الخارج متحولاً بسرعة إلى إحساس بالذنب لا يزيله التضامن المعنوي مع من بقي تحت رحمة النظام المجرم.
والحال أن صور المعتقلين وحملة التضامن مع عائلاتهم التي كانت رائجة في الأيام القليلة الماضية كسرت كل ما يروجه النظام عن نفسه بأنه دولة قانون ومؤسسات، أمام حتى الموالين له الذين كانوا إن أبدوا تعاطفهم مع صورة ما واجهوا اتهامات فورية بالخيانة من قبل موالين أكثر تشبيحاً على ما يبدو. وبدا للحظة أن توجيهات رسمية أعطيت إلى الصفحات المخابراتية والشخصيات الموالية الناشطة في مواقع التواصل لضخ معلومات معاكسة، تفيد بأن “العفو الرئاسي مكرمة يجب شكر القائد المفدى بشار الأسد عليها”، وأن “الرئاسة السورية مثل الشعب السوري تقدس القرآن الذي ينص على العفو عند المقدرة حتى عندما يتعلق الأمر بخونة ضلوا طريقهم” وهي عبارات وجدت طريقها إلى نشرات الأخبار الرسمية ايضاً.
وبشكل أكثر دناءة ربما كرر موالون عبارات مثل “دام عزك يا أسد” مطالبين الأهالي بتكرار العبارات نفسها، كما انتشرت منشورات من الشعر الركيك تحيي عظمة الأسد التي تفوقت على “طائفية المعارضة وحقدها وكذبها” حيث “استطاع “بيديه الطاهرتين سحب سكاكينهم” وتم تأطير العفو بأنه ضرورة كي تعود البلاد إلى حالتها الطبيعية بالمسامحة وتجاوز الماضي، وهي دعوات كانت رائجة منذ الأسبوع الماضي عندما كشفت صحيفة “غارديان” البريطانية عن مجزرة مروعة في حي التضامن جنوب العاصمة دمشق راح ضحيتها مئات المدنيين.
وفيما كان الموالون يذكرون بانتهاكات سابقة لحقوق الإنسان قامت بها فصائل جهادية في سوريا للقول أن “الطرفين غلطوا” وأن النظام وحده من يسامح، فإن تلك المقاربة تخلو من المنطق بغض النظر عن أخلاقيتها أصلاً حيث لا يمكن تبرير جريمة بجريمة. والمشكلة هنا تتعلق بحجم الانتهاكات واستمراريتها، والنظام من ناحية كونه يحكم البلاد بأسلوب بوليسي يمارس إرهاب الدولة بحق مواطنيه منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة في انقلاب عسكري العام 1970، وتتكرر صور وحكايا المعتقلين منذ عقود وليس فقط بعد الثورة السورية، وخصوصاً في فترة الثمانينيات الظلامية. ويكفي القول أن سوريا الأسد قدمت للعالم نماذج للرعب المعاصر مثل سجن تدمر سيئ السمعة أو سجن صيدنايا العسكري الذي تصفه منظمة العفو الدولية “أمنستي” بـ”المسلخ البشري” وبأنه “أسوأ مكان على الكوكب”.
ويبقى عدد المفرج عنهم غير معروف تماماً ويقدر بأقل من مئتين شخص فقط حتى الأربعاء، لكنه يبقى ضئيلاً حتى لو لم تتوفر أرقام دقيقة عن عدد المعتقلين والمغيبين قسراً في سجون النظام، حيث تقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد المعتقلين بـ132667 فضلاً عن 86792 من المغيبين قسرياً، وهو فصل لا بد منه عند الحديث عن ظروف الاعتقال في البلاد، لأن النظام يعمد إلى استخدام أساليب قهرية مضاعفة عبر حالات الاعتقال التي لا يتم الإفصاح عنها أو الاعتراف بوجودها، من دون توفير أي معلومات عن المغيبين قسرياً لعائلاتهم.
ولم يكن من الغريب بالتالي أن تصور شبكة شام “إف إم” تقريراً بالفيديو عن تلك التجمعات قبل حذفه لاحقاً بسبب كمية الإحراج لسردية النظام الكاملة، ظهر فيه أفرادلم يعد في عيونهم دموع للبكاء يستجدون من أجل معلومة واحدة حول مصير أب أو أم أو أشقاء أو صديق أو حبيب. هم لم يتجمعوا هناك لأنهم يدركون مسبقاً أن من ينتظرونه سيأتي حتماً، بل كانوا هناك على أمل يائس بأن ذلك سيحدث، أو للحصول على معلومة من الناجين في حال كانت ذاكرتهم سليمة، حيث انتشرت قصص وصور محزنة لمعتقلين خرجوا أخيراً وبدوا أشبه بجثث بشرية بعد سنوات وسنوات من التعذيب، لدرجة فقد بعضهم ذاكرتهم كلياً جراءه.
وعلى “الإخبارية السورية” وصف قضاة ومحامون ومذيعون، الأهالي بأنهم خونة ومندسون ومدفوعون من جهات خارجية. كيف يمكن لهم أن يشوهوا عظمة العفو الرئاسي، يتساءل أحد القضاة، ويستغرب من مشهد التجمعات بوصفه مشهداً غير لائق و”لا يراعي الأصول”، وتوصلوا جميعاً باستهجان إلى خلاصة بأن من ينزل إلى الشوارع هم “أشخاص بلا عقل ولا منطق” لأن العرف والقوانين المعنية لا تنص على إصدار قوائم ومعلومات عن المعتقلين، وهم أمر ممنهج بالطبع من أجل إحداث مزيد من القهر وكسر النفسية المعروف كاسلوب كلاسيكي للحكم ضمن أي نظام شمولي.
ورغم أنها صور نظيفة، أي خالية من الدم والعنف والأشلاء البشرية التي تأتي إلى الذهن مباشرة عن التفكير بفظائع الحرب السورية، فإن صور المعتقلين وعائلاتهم التي تنتظرهم على حد سواء، مخيفة لدرجة تعجز الكلمات عن وصفها، خصوصاً أنها تظهر بوضوح معنى الحياة في ظل نظام دكتاتوري مجرم يعاقب المدنيين بلا سبب غالباً بالتعذيب ويخفي كل معلومات عنهم عن عائلاتهم ويبتز عواطف تلك الأخيرة من أجل تخويف القسم الباقي. وحتى في سياق مفرح نظرياً يتعلق بالإفراج الذي يعني العودة للحياة من الموت، فإن النظام يحرص على تحويل تلك المشاعر إلى خليط من الإذلال واليأس لدرجة يمكن معها سماع صوت الأسد شخصياً يصرخ من وراء الصور متخطياً حدود الزمان والمكان: “فعلت هذا بهم ويمكنني أن أفعله بكم أيضاً حتى إن كنتم من الموالين لي وتجرأتم على القيام بما لا أرضاه”.
على أن القهر الذي تحمله صور أهالي المعتقلين المتجمعين في شوارع دمشق، يتخطى قدرة الكلمات على الوصف. كيف يمكن الكتابة عن شعور أم تنتظر خبراً عن ابنها المعتقل منذ 11 عاماً ولا تعرف عنه شيئاً إن كان حياً أم ميتاً؟ وكيف يمكن التعبير عن فتاة شابة لا تذكر من أبيها سوى ظله هو الذي اعتقل عندما كانت طفلة صغيرة؟ وكيف يمكن رصد اللهفة والأمل واليأس والحسرة والبؤس كلها معاً أمام مقاطع الفيديو للتجمعات التي يشكر فيها الأهالي خاطف أحبابهم على إمكانية إطلاق سراح أحبابهم؟ وكيف يمكن الهرب من الشعور الخفي بالراحة مع البعد الجغرافي عن المكان المظلم المدعو سوريا الأسد الذي يتسلل حتماً إلى قلوب الناجين في الخارج متحولاً بسرعة إلى إحساس بالذنب لا يزيله التضامن المعنوي مع من بقي تحت رحمة النظام المجرم.
والحال أن صور المعتقلين وحملة التضامن مع عائلاتهم التي كانت رائجة في الأيام القليلة الماضية كسرت كل ما يروجه النظام عن نفسه بأنه دولة قانون ومؤسسات، أمام حتى الموالين له الذين كانوا إن أبدوا تعاطفهم مع صورة ما واجهوا اتهامات فورية بالخيانة من قبل موالين أكثر تشبيحاً على ما يبدو. وبدا للحظة أن توجيهات رسمية أعطيت إلى الصفحات المخابراتية والشخصيات الموالية الناشطة في مواقع التواصل لضخ معلومات معاكسة، تفيد بأن “العفو الرئاسي مكرمة يجب شكر القائد المفدى بشار الأسد عليها”، وأن “الرئاسة السورية مثل الشعب السوري تقدس القرآن الذي ينص على العفو عند المقدرة حتى عندما يتعلق الأمر بخونة ضلوا طريقهم” وهي عبارات وجدت طريقها إلى نشرات الأخبار الرسمية ايضاً.
وبشكل أكثر دناءة ربما كرر موالون عبارات مثل “دام عزك يا أسد” مطالبين الأهالي بتكرار العبارات نفسها، كما انتشرت منشورات من الشعر الركيك تحيي عظمة الأسد التي تفوقت على “طائفية المعارضة وحقدها وكذبها” حيث “استطاع “بيديه الطاهرتين سحب سكاكينهم” وتم تأطير العفو بأنه ضرورة كي تعود البلاد إلى حالتها الطبيعية بالمسامحة وتجاوز الماضي، وهي دعوات كانت رائجة منذ الأسبوع الماضي عندما كشفت صحيفة “غارديان” البريطانية عن مجزرة مروعة في حي التضامن جنوب العاصمة دمشق راح ضحيتها مئات المدنيين.
وفيما كان الموالون يذكرون بانتهاكات سابقة لحقوق الإنسان قامت بها فصائل جهادية في سوريا للقول أن “الطرفين غلطوا” وأن النظام وحده من يسامح، فإن تلك المقاربة تخلو من المنطق بغض النظر عن أخلاقيتها أصلاً حيث لا يمكن تبرير جريمة بجريمة. والمشكلة هنا تتعلق بحجم الانتهاكات واستمراريتها، والنظام من ناحية كونه يحكم البلاد بأسلوب بوليسي يمارس إرهاب الدولة بحق مواطنيه منذ استيلاء حافظ الأسد على السلطة في انقلاب عسكري العام 1970، وتتكرر صور وحكايا المعتقلين منذ عقود وليس فقط بعد الثورة السورية، وخصوصاً في فترة الثمانينيات الظلامية. ويكفي القول أن سوريا الأسد قدمت للعالم نماذج للرعب المعاصر مثل سجن تدمر سيئ السمعة أو سجن صيدنايا العسكري الذي تصفه منظمة العفو الدولية “أمنستي” بـ”المسلخ البشري” وبأنه “أسوأ مكان على الكوكب”.
ويبقى عدد المفرج عنهم غير معروف تماماً ويقدر بأقل من مئتين شخص فقط حتى الأربعاء، لكنه يبقى ضئيلاً حتى لو لم تتوفر أرقام دقيقة عن عدد المعتقلين والمغيبين قسراً في سجون النظام، حيث تقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان عدد المعتقلين بـ132667 فضلاً عن 86792 من المغيبين قسرياً، وهو فصل لا بد منه عند الحديث عن ظروف الاعتقال في البلاد، لأن النظام يعمد إلى استخدام أساليب قهرية مضاعفة عبر حالات الاعتقال التي لا يتم الإفصاح عنها أو الاعتراف بوجودها، من دون توفير أي معلومات عن المغيبين قسرياً لعائلاتهم.
المصدر: موقع المدن (وليد بركسية)