عبد الناصر العايد
تتكشف يوماً بعد آخر معالم استراتيجية أنقرة السورية الجديدة، وهي الضغط على قوات سوريا الديموقراطية للذوبان في نظام الأسد، بدعم من كافة الأطراف، وعلى رأسها واشنطن التي تنتظر تلك الفرصة السانحة بفارغ الصبر لتسحب قواتها من سوريا. والقضية التالية التي تطرحها هذه التطورات، هي شكل العلاقة المستقبلية بين النظام وتركيا، أو عناصر الصفقة الرئيسية المحتملة.
تشير تصريحات المسؤولين الأتراك إلى توافق الدول الفاعلة على خريطة طريق ما في سوريا، وأن الجهة الوحيدة التي ما زالت ترفض هذه الخطة هي “قسد” التي ستكون عملياً قربان هذه المرحلة، لكنها بالتأكيد لن تكون الوحيدة. فالخطة غير المعلنة يبدو أنها ترتكز على إعادة الاعتبار لنظام الأسد كدولة، وهذا يعني إزالة كل الكيانات التي تعترض طريق إعادة تلك الصفة إليه. والأقرب إلى يد انقرة هي الفصائل العسكرية المعروفة باسم الجيش الوطني، والتي يمكن حلها بسهولة أو تسليمها للروس لدمجها بجيش النظام، والأخيرة هي المقترح المقدم إلى “قسد” أيضاً. وبالطبع لن تشذ “هيئة تحرير الشام” عن هذه القاعدة، لكن الترتيب لها يقتضي انجاز المهمة في شرق الفرات وشمال سوريا أولاً.
يريد الأتراك انتشاراً “حقيقياً” لقوات النظام على الحدود معها، ودفع القوات الكرديّة بعيداً أو حلّها. ولكي يكون الانتشار ذا مصداقية، يجب أن تتسلم قوات الأسد المعابر الحدودية، على الأقل في مناطق انتشار الجيش الوطني. وهذا الإجراء كاف لخنق كافة الفعاليات المعارضة المدنية منها والعسكرية، بما فيها المساعدات الإنسانية، وانعاش النظام المتهالك سياسياً عبر مساعدته للسيطرة على الحدود والمعابر الحدودية، وهي أحد المعايير المتبعة لتحديد الدولة الفاشلة، وإعادة تنشيط طريق التجارة من تركيا إلى الخليج العربي، وهو أحد أهداف اردوغان الاقتصادية التي أصلح علاقاته بالسعودية والإمارات للوصول إليها.
سيكون ذلك أكثر من كافٍ للنظام في هذه المرحلة، إذا ما ساعدته الضغوط التركية على دفع القوات الأميركية للانسحاب من شرق البلاد، وإعادة مناطق الشمال والشرق إلى نفوذه، ومساعدته ربما بالأموال والتسهيلات لإعادة تأهيل قواته المرابطة على الحدود على الأقل، فما الذي ستريده أنقرة؟
من حيث المبدأ، ثمّة قضايا سورية ثلاث تشغل بال اردوغان اليوم: الكيان الكردي، ويبدو أنه على طريق التلاشي، واللاجئون في تركيا، وستكون اعادتهم أكثر سلاسة فيما لو تم التوصل لتسوية، لكن هذه التسوية وهي ثالث القضايا ستكون عقدة المنشار. أي كيف تتم المصالحة بين النظام، وقد صار بقاؤه أمراً واقعاً بفضل السياسة التركية الجديدة، وبين المعارضة التي هي أمر واقع أيضاً منذ أكثر من عقد من الزمان؟
بتصورنا أن الأمور ستذهب في الاتجاه الذي اعتمدته أنقرة في بداية الثورة السورية، أي أن يأخذ اردوغان دور الأخ الأكبر الناصح لبشار الأسد، ويقوده من يده للخروج من المأزق، مع الأخذ في الاعتبار تغير بعض الظروف والأحوال.
وبالنظر إلى طريقة التعامل التركية العام 2011، نتوقع أن تنشط الخارجية التركية بين دمشق وانقرة، وأن يحمل خبراؤها، لا الإملاءات والشروط، بل الخطط المشتركة مع النظام للخروج بالجارة الجنوبية من محنتها، كما يردد المسؤولون الاتراك اليوم. وأن يجري تفكيك القضايا الإشكالية بالتدريج، ابتداء من قضية المعتقلين، وانتهاء بالمشاركة السياسية عبر منح عدد من المقاعد الوزارية للمعارضة، الإسلامية على وجه الحصر، تليها ترتيبات اقتصادية وإعادة إعمار تركي للشمال السوري ومناطق أخرى، بأموال دول عربية خليجية ترغب في إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الثورة.
لكن، ولكي لا نستبق الأحداث، علينا أن نتذكر بأن كل هذا السيناريو مبني على فرضية ابتدائية هي استسلام القوات الكردية لنظام الأسد، وهو أمر لم يحدث بعد. وحتى يغادر مظلوم عبدي مقره في جبل كرتشوك إلى جبل قنديل، تبقى كل الاحتمالات مفتوحة، بما فيها خيارات الطرف التركي، الذي وضع لعمليته الأخيرة اسماً مزدوجاً تحسبا لاحتمال رفض الأكراد لما يملى عليهم. فعملية المخلب – السيف، قد أنجزت في شقها الأول عبر الطيران. أما البديل، في حال عدم النجاح فسيكون “السيف”، أي عملية برية خاطفة، لكنها لن تكون سهلة عموماً، وستكون لها ارتدادات خارج ميدان الصراع، قد تصنع واقعاً مغايراً لكل ما توقعناه.
المصدر: المدن