عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

شارك

عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

عندما يكون الكتاب غير لازم.. قراءة في “الهويات القاتلة” لأمين معلوف

مصعب الحمادي

في كتابه القيّم (إجابات موجَزة على الأسئلة الكبرى) عبّر الفيزيائي وعالم الفلك البريطاني الراحل ستيفن هوكينج عن مخاوفه على جنسنا البشري بسبب طبيعتنا العدوانية المتجذّرة في تركيبتنا البيولوجية. فعبر ملايين السنين قتل الذكور ذكوراً آخرين واستحوذوا على نسائهم. هذه الخاصيّة العدوانية ما تزال تركبنا لليوم ولكنّها تتلبس بلبوساتٍ ثقافية ليس لها حصر. وأوصى هوكنج الإنسانية بضرورة التعامل مع هذه الخاصيّة البشرية الخطيرة ومداراتها.

يبدو أن الكاتب اللبناني أمين معلوف لم يطّلع على كلام من هذا القبيل وليس لديه إحاطة كافية بالعلوم البحتة كالفيزياء والبيولوجيا وما لحقول العلم من تأثيرات مباشرة على نتائج البحوث في الإنسانيات، وخصوصاً الحقول العلمية المتداخلة مثل علم النفس التطوري وغيره الكثير من الفروع المعرفية التي تعززها الداروينية بمزيد من الفهم يوماً بعد يوم، وذلك رغم أن معلوف يعيش في الغرب من سنين طويلة ويذوب ذاتاً وفكراً في التصوّر الغربي.

في كتاب (الهويات القاتلة) يشنّع معلوف على الذين يقفون مترددين على أبواب الحداثة، الذين ينكصون على عقبيهم ويرتّدون إلى هوياتهم الانتمائية العتيقة فتشجعهم على التوتر والعنف، بل والقتل أيضاً، وخصوصاً المسلمين، كما نفهم تلميحاً وتصريحاً عبر صفحات الكتاب.

يدعو معلوف للانفتاح الهوياتي لكنه يبدأ الكتاب بتحقير خمسمئة مليون امرأة في العالم بوصمه للحجاب الإسلامي بأنه “رجعي وسلفي” لا نعلم لماذا يورّط الكاتب نفسه بهكذا شتائم وعداوات لشريحة هائلة من السيدات، ما دام يدعو للانفتاح والعالمية، أم أن العالمية لا تكون إلا بتحقير النساء المسلمات وازدراء خياراتهن وأسلوب معيشتهن وحقهنّ في اختيار أزياءهنّ؟

هذا التماهي مع النظرة الغربية للعالم يجعل أمين معلوف متورّطاً في السردية الغربية للتاريخ المعاصر، مع صعود الغرب الذي امتاز بالنظريات المكذوبة والتزوير المتعمّد للحطّ من قيمة الشعوب وثقافاتها بغية إخضاعها ونهب ثرواتها.

ينهج معلوف أسلوباً غير علميّ في الظواهر والأمثلة التي يشير إليها بحيث تبدو منهجيته مبتسرة وذات منظور ضيق، حتى في مقاييس العلوم الاجتماعية. فهو يفترض أن الهوتو والتوتسي في رواندا ذبحوا بعضهم بسبب اختلاف هوياتهم القبلية التي تحولت إلى هويات قاتلة! لم يشر الكاتب بحرف لدور الاستعمار في الموضوع حيث قامت فرنسا ببناء الجيش الروندي الذي نفذ معظم المذابح ودرّبته وسلّحته بل وتواطأت معه في عمليات القتل. هل حقاً أننا لو تأملنا في حيثيات هوية الهوتو أو التوتسي لمئات السنين سوف نأتي على نظرية تساعدنا في فهم ما حصل في رواندا؟ أم أن علينا أن ندرس تاريخ البلاد وتدخل الاستعمار الفرنسي ومصالح اللاعبين المختلفين والأسباب التي دفعت لاشتجار أبناء الأرض الواحدة وخروج عنفهم الكامن عن السيطرة؟

يقع معلوف في فخّ التعميمات الجائرة التي تنزع عنه الحيادية وتجعله يقع فيما يريد التحذير منه. ففي توبيخه لتخلّف المسلمين الرافضين للعولمة يأتي بمثال (ص ١٣١) عن إمام مسجد يعارض الصحون اللاقطة (الستلايت) ويصفها بأنها “صحون شيطانية.” هل حقاً ينظر المسلمون للستلايت هذه النظرة؟ أم أن معلوف يحابي النظرة الفرنسية الكارهة تاريخيّاً للمسلمين ويتملّق أصحاب القوة والنفوذ في العالم من خلال تحقير الإسلام وإساءة تصويره كحضارة عالمية يرتبط معلوف بها بروابط وشيجة بحكم أنه مسيحي عربي؟ والأنكى أن معلوف يضع صورة الإمام المسلم في مقابلة مع صورة صاحب مقهى باريسي “يتضايق لأن المحطات الإذاعية لا تبثّ الكثير من الأغاني الفرنسية.” ويعلن معلوف -في محاولة فاشلة للتوازن- عن رفضه كلا الموقفين من العولمة. لكن أليس من الإجحاف تقديم التعصبات الغربية والفرنسية تحديداً بهذه الصورة اللطيفة لصاحب المقهى مقابل تلك الصورة المسعورة الهمجية للإمام المسلم؟ هل يستوي التبرّم من الأغاني الأجنبية مع الرفض الهمجي المزعوم لأداة اتصال حديثة؟ أليس لدى معلوف غير ذلك ليقوله عن عداء الدولة والمجتمع الفرنسي للإسلام وظلم الأقلية المسلمة في هذا البلد وحملات الإعلام التي لا تنتهي لشيطنة المسلمين ووصمهم بالإرهاب والتخلف؟ ألا توجد على أرض الواقع أمثلة أكثر فداحةً بكثير من مثال صاحب المقهى المتبرّم؟ لماذا يضع معلوف نفسه في جوقة الإسلاموفوبيا؟

يخيّب معلوف أملنا على امتداد صفحات الكتاب. فبدلاً من الدفاع عن المظلومين والمقهورين وضحايا توحّش العولمة وما تنتجه من حروب وإبادات، نراه يتهمنا بالركون للتخلف والعنف ورفض العلم الذي يراه صناعة غربية مبتورة كما لو أن الحضارة هبطت إلى أوروبا في عصر النهضة في مركبةٍ فضائية. يقتلنا معلوف معنوياً عندما يضعنا والحداثة على طرفي نقيض ويحصر خياراتنا بين الذوبان في الغرب وفي “عالم سريع التحول،” أو الانجذاب إلى الحركات الإسلامية (ص١٠٧-١٠٨) كنوع من التمرد، كما لو أن الشرق الأوسط والمسلمين عموماً لم يسهموا بشيءٍ مما يراه معلوف قمة الحضارة ونهاية القول في التقدم والحداثة. فهو يصرّ على جعلنا “أجانب” الحضارة وما علينا إلا تقديم استتابات هوياتية للحصول على “الجنسية” التقدمية التي لا يراها إلا في إهابٍ غربيّ محض.

إن أطروحة كتاب (الهويات القاتلة) متهافتة برمتها، فالإنسان يستطيع أن يعيش العمر من دون هوية وطنية أو دينية أو سياسية، إذ لا تعتبر هذه من ضمن المكونات البيولوجية لبقاء الكائن البشري. لكن الإنسان في المقابل لا يعيش من دون مفهوم العائلة والعشيرة، بما في ذلك الجيران والأصدقاء. فالحب والحميمية هي ما يحتاجه الإنسان كل يوم، وهي أشياء يصعب أن تعطيها أية هوية مهما بدت متماسكة. كما أنها أشياء تعتبر بمثابة عملة نادرة في الغرب الذي يفنى معلوف فيه “فناء المغلوب في الغالب.”

والإنسان هو من المتعضّيات الآكلة يفعل كل شيء من أجل شيئين: الطعام والجنس. ومتى حصل عليهما يتطلّع للشعور بالأمن، وهنا يأتي دور الثقافة والمجتمع البشري وما يضفيانه على الإنسان من سمات هويّاتية. لكن الهوية التي ينسبها الإنسان لنفسه تبقى غشاوة رقيقة على كينونته الأصلية من حيث هو حيوان ورّطته الطبيعة في هبة الوعي.

قد يسرق الإنسان وقد يقتل ولو تم القبض عليه سيعطي مليون سبب وسبب لسرقته أو لقتله، لكن السبب الأكيد هو اختلال توازن هذا السارق أو القاتل بيولوجيّاً نتيجة تهديدات طالت موارده أو أمنه. وقد يكون منبع الخلل بنية اجتماعية أو سياسية أو ثقافية ظالمة أو غير كفوءة أخرجت الوحش من باطن الإنسان فلفظته خارج الكينونة الراقية للوعي الفكري والأخلاقي، وجعلته يتصرف ضد مقتضيات الثقافة والحضارة. هذه النتيجة الأخيرة تجعل كل كلام عن الهويات فارغ وبلا معنى، وغير علمي أصلاً، وهو ما اعترف به أمين معلوف في آخر صفحة من كتابه عندما قال:
“أمّا هذا الكتاب الذي ليس ترفيهاً ولا عملاً أدبياً فسوف أتمنّى أن يكتشفه حفيدي … يوماً، وقد أصبح راشداً، مصادفةً في مكتبة العائلة، فيتصفحه ويقرأ بعض صفحاته، ثم يعيده فوراً إلى الرفّ المغطّى بالغبار، حيث تناوله، مستخفّاً ومندهشاً للحاجة إلى قول هذه الأمور في الزمن الذي عاش فيه جده.”

لقد وجدت نفسي مُستخفّاً ومندهشاً حتى في حياة الكاتب نفسه، وأجدني لأول مرّة في حياتي أحكم على كتابٍ أنه غير لازم ولا حاجة إلى كثيرٍ مما قيل فيه، إلا إذا أخذناه كنصّ أدبي نقرؤه للتسلية وتزجية الوقت، فأسلوب معلوف في الكتابة دافق وماتع وهو بلا شكّ أديب كبير وكاتب متميّز.

شارك