عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

شارك

عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

عن الأساس السيكولوجي للثورة السورية

عبد الناصر العايد
يتحدث السوريون ممن أمضوا خدمتهم العسكرية في سجن صيدنايا، عن طيف امرأة شابة، ذات ملامح جميلة، تلتحف بثياب بيضاء، كان يخرج في الليالي المظلمة، من الأحراش الوعرة المحيطة بالسجن الجبلي، وتشتكي صاحبة الطيف للحراس بضراعة قائلة: والله مظلومة! ويقول الجنود إن الطيف هو لامرأة قضت تحت التعذيب في ذلك السجن الرهيب. تشير هذه الحكاية الواحدة، إلى الأساس السيكولوجي للثورة السورية، الذي حملها لما يقرب من السنة، في غياب النظرية الثورية والتنظيم السياسي. وبدت آثاره واضحة، من خلال الإصرار والإقدام والرغبة الملحمية بالتضحية، التي أظهرها السوريون. فطيف المقتولة يعبر عن عقدة ذنب متفاقمة، عانى منها عموم السوريين لعقود عدة، نتيجة صمتهم على جرائم النظام الوحشية التي ارتكبها بحق إخوة لهم. وما تخايله للجنود بالذات، إلا لأنهم فوق كل ذلك يحرسون المجرم، ومسرح الجريمة. وعلى رغم أن الثقافة الشعبية السورية، غنية بقصص مؤثرة حول قتل الإنسان أخاه الإنسان، بعضها أقانيم إنسانية كبرى مثل حكاية قابيل وصلب المسيح وقصة الحسين، إلا أن خبرة السوريين الحيَّة، عما مرَّ به سيئو الحظ منهم، ممن وقعوا في براثن أجهزة الأمن، تجاوزت ما يعتبرونه حدوداً قصوى للإجرام، تحذر تلك الأقانيم من الاقتراب منها. فإن كان هابيل قد قتل قابيل يوماً وندم، فهو الآن يقتله، ثم يرقص فوق جثته بانتشاء. وإن كان الحسين قد قتل وعف القتلة عن صغاره، فهم ها هنا لا يكتفون بقتل الطفل، بل يقطعون عضوه التناسلي. ولئن تألم هابيل لمنظر أخيه القتيل حتى ألهم دفنه، فها هنا يمنع الأهل من تشييعه ودفنه وبكائه، وإن عاندوا فالقتل بدم بارد ينتظرهم أيضاً. إن الألم الساحق، الذي رزحوا تحت وطأته بسبب ما تعرضوا له من انتهاك وإهانة، وصمتهم عنه، ترجم سلوكياً في المجتمع إلى أربع ظواهر مشخصة؛ الأولى هي المازوخية التي هيمنت على علاقة السوريين بالسلطة وبكل ما يمت إليها من رموز وشخوص، والثانية هي الدونية التي وسمت علاقتهم بعضهم ببعض، وصبغتها بالفساد والانحطاط، والثالثة هي التطهرية الروحية باللجوء إلى التدين المتشدد، والرابعة هي العدمية، حيث تراجعت مظاهر الإقبال والبهجة بالحياة، وانحدرت معايير الذوق والتذوق، الحسي والعقلي. وبينما تضافرت مفاعيل هذه الظواهر، المرتدَّة على الذات، لتشكل ملامح شلل المجتمع وعجزه عن إنقاذ نفسه، كان هناك كمون إيجابي، موجه إلى مصدر الذعر، يتراكم ويزداد توتره، في أعماق اللاوعي الجماعي الغامضة. وإن كان لنا أن نستعير من جورج طرابيشي وصفه لرد فعل العرب، عندما اكتشفوا مقدار تأخرهم نسبة إلى الغرب، بجرح الذات النرجسية للأمة، فإنه يمكننا أن نتحدث عن جرح الذات الأخلاقية السورية، أي الضمير والوجدان، عندما اكتشف المجتمع مقدار جبنه وعجزه عن مواجهة الظلم والإذلال، خلافاً لفكرته المسبقة عن نفسه. وهو الجرح الذي تورم عندما تخلف السوريون عن ركب الربيع العربي أشهراً، ثم نُكئ حين صرح رأس النظام باستحالة حدوث شيء مشابه في بلاده، وانفجر كالديناميت عندما ضُربت التحركات الثورية الأولى، بغطرسة وحقد، صادمين. لقد كشف النظام عن جهله بأهمية الجانب النفسي للشعب، حين تعامل معه باعتباطية وتعسف، وركز أفعاله وتصريحاته وإشاراته الخفية والعلنية حول تذكير السوريين بكل ما يحزُّ أناهم الأعلى ويثير جنونهم، فأجج الثورة من حيث سعى إلى إخمادها. فقد قال عبر إعلامه ودعايته إن ما يربط السوريين برأس النظام هي علاقة عبودية، تتدرج من شعار الأسد إلى الأبد المعلن، وتنتهي بالطلب منهم أن يركعوا لصورته وأن يعلنوا أنه إلههم الأوحد في أقبيته الأمنية. وهم شعب منحط يتآمر على بلاده ويخون وطنه مقابل بعض الدريهمات، وهم شعب قذر يتذرع بالدين للوصول إلى أهداف شخصية، وهم شعب منافق جبان يرقص فرحاً بإصلاحات شكلية ومكرمات وهمية. وهم فوق كل ذلك قطيع من الرعاع ليس أسهل من ضرب تمرده وإعادته إلى الحظيرة صاغراً لولا الدعم الخارجي، وهي لحظة لا بد ستأتي ويعود النظام إلى سابق جبروته ليمسك بخناق السوريين، كما يودُّ أن يقول أبواق النظام عندما يستذكرون منازلات سابقة، بخاصة في عهد حافظ الأسد، خرج منها أكثر قوة وتماسكاً على حدِّ تعبيرهم. وهنا يتم التلميح تحديداً إلى مجزرة حماة الفظيعة، وما تلاها من كسر روح السوريين وإرادتهم. وهي ما دفع أعداداً متزايدة من المعنفين، إلى تطهير ضمائرهم بالتضحية بأجسادهم، والتمرد على الخوف، سبب القبول بالذل، بطلب الموت والاندفاع نحوه بحماسة. والتعبير عن التضامن المطلق مع الضحايا، بإلقاء أنفسهم إلى مصيرهم ذاته. إن الجماعات البشرية، تدرك الخطر بحدسها الطبيعي، لا بالمنطق الذهني، والقاعدة الاجتماعية التي ربط النظام نفسه بها وورطها، تدرك أكثر منه، مدى خطورة ذلك التوتر السيكولوجي الجماعي الذي يحاصر النظام ويحاصرها، وتعبر عن ذلك بتماسكها وتمسكها بالنظام. وهو خطر حقيقي للأسف، لأن ثمة اعتداء ما فوق وحشي مورس ضد طرف، وليس ثمة ما يضمن عدم انفلاته في الاتجاه المعاكس كرد فعل لا يقل شناعة عن الفعل الذي نشأ عنه، وهو ما قد يحدث في حياة النظام أو بعد سقوطه المحتمل. والحصافة والإنسانية، ناهيك عن البراعة السياسية، تقتضي السيطرة على الشحنة الانفعالية للمجاميع الثورية، وعدم إطلاق العنان لها، وهو أمر لا يمكن الحصول عليه بالمقالات أو الأشعار، والسبيل الوحيد لتحاشي الأثر القاتل للمحمول الانفعالي، العالي الشحنة هو تحويل تياره. وأفضل طريقة لعمل ذلك، هي قيام النخبة الثقافية والاجتماعية والسياسية، عبر الإعلام وغيره من وسائل مخاطبة الجمهور، وباستخدام آلية الإيحاء، بربط مشاعر النقمة الحادة بموضوع مادي محدد ومحدود، أي شخصنة العدو، وما يرتبط به من شرور، وجعله هدفاً لمشاعر الكراهية والنقمة. بالطبع نتحدث هنا عن معالجة إسعافية في لحظات صاخبة، لا بد من الاستعداد لها، لكن في المدى الأكثر هدوءاً، فإنه يجدر بالنخبة السورية الجديدة، أن تستثمر الموقف الأخلاقي الذي طوره الثوار انطلاقاً من الأساس السيكولوجي، في كتابة عقد سياسي سوري جديد، مبني كلياً على جمال وعدل، طال انتظار وشوق السوريين إليهما، كما يدل على ذلك جمال فتاة صيدنايا، وثوبها الأبيض النقي.

شارك