عبد الناصر العايد
خلال السنوات العشر الماضية، التحق عدد لا يني يتزايد من السوريين، بتيار المعارضة والعمل السياسي المعارض، واتخذوا مواقف متباينة من شتى القضايا مدار النقاش في الشأن العام وميادينه، وبعضهم اتخذ مواقع له في بُنى العمل المعارض وهياكله المدنية والسياسية والعسكرية. لكن أعمالهم ما زالت تؤول إلى مزيد من التفكك والتفكيك، لأن منبعها الأول هو الرغبة التي لم تُستنفد في التغيير، ولأنها مضادة للنظام بمعناه المجرد، وليس فقط بمعناه المتعين بنظام الأسد. فالأخير بممارساته السلطوية القاهرة التي امتدت نصف قرن، تسبب في رضّ في الوعي الجماعي، نشأ عنه رهاب السيطرة وجنون الارتياب من كل دعوة لفعل جماعي منظم، ونفور عميق من كل قاعدة ملزمة حتى لو كانت إجرائية بسيطة، خوفاً من نزعة الهيمنة التي قد تقبع وراءها.
يَردّ برهان غليون، عجز السوريين عن جمع وتنظيم قواهم، إلى هذا العطب في الذات، الذي تسببت به عهود المحنة متمثلة بالسياسات الأمنية القاهرة لنظام الأسد الأب والأبن التي هاجمت عمق المجتمع، أي الانسان بحد ذاته، وعملت على تخريبه من الداخل وتحويله إلى ذاتٍ غير فاعلة. وعلى هذه القاعدة، يمكن فهم حصيلة العقد التالي للثورة على أنه مرحلة نقاهة، لكن أحداً لا يجرؤ على رسم حدودها ونقطة نهايتها، لأنها تجري في وضع متحرك غير مُوات، هو أجواء الحرب التي ما زالت رحاها تدور.
والحال أن حصيلة المرحلة السابقة لم تكن سلبية بالكامل، فالبحث عن بُنية جديدة جرى جنباً إلى جنب مع السعي إلى التعافي. فشاغل بناء الذات أو إيجادها، وما يرتبط به من قلق، كان محرّك الروح الناقدة التي يسهل تلمسها وراء المظاهر الانفعالية والنزق ونفاد الصبر البادي في سلوك كل ناشط سوري معارض. أما التفكيكية المفضيّة إلى حالة فردانية، بحيث تكاد تكون لكل سوري نظريته ومساره الخاص الفريد، فهو عودة بنائية من الذات المعطوبة إلى الذات الفاعلة. فعلاوة عن مساهمة الفردية الخاصة المعترف بها من حيث أن الأفراد هم مشاركون في صناعة التاريخ بأفعالهم متناهية الصغر، هناك أيضاً فرصة شبه حتمية لتشابك إرادات الأفراد الناضجين على صعيد الفعل الجماعي في لحظة ما وتشكيل بنية جديدة، لكن ليس قبل أن يتم الاصغاء إلى كل صوت بوصفه ممثلاً عن حقيقة اجتماعية ما، سواء أكانت هوياتية أو ايديولوجية. فمنهج الطمس والإلغاء الذي كان سمة رئيسية للنظام الأسدي ليس من اليسير استعادته وفرضه مجدداً، بحكم تجربة الثورة والانتفاض الذاتي أولاً، وبحكم معطيات العصر الموضوعية التي تمنع كبت الأصوات المتعددة مهما بلغت من الخفوت ثانياً.
في هذا السياق، سيكون من الممكن أن نحدس اليوم بمغزى تيار الأعماق في المجتمع السوري، الذي يخيل إلى الكثيرين أنه ينطوي على جنين مجهول الماهية، خصوصاً بعد ركود الحركة الثورية بأشكالها المتعددة، وثبات الإطار العام للصراع بفعل توازن القوى الداخلية والكبح الخارجي. والمغزى الذي نتلمسه ببساطة ليس سوى الشعار الذي وجده السوريون أنه الأكثر تعبيراً عما يدور في أعماقهم: الشعب يريد إسقاط النظام، لكن ليس بالإطلاق، أي الدعوة إلى الفوضوية، بل بمعنى الهدم وإعادة التأسيس، وليس هدم الآخر القامع وحسب، بل وهدم أشياء في الذات، تراكمت على امتداد حقب طويلة، وتوجت بثمرة تلك الحقب السوداء وهو النظام الحالي، إنه هدم النظام الاجتماعي العميق الذي أنتج النظام السياسي الحالي.
التحول العميق هذا، الذي يجري وراء ستار من الابتذال والشعبوية والانحطاط ربما، لا يقتصر على الحيز السوري. ثمّة تجاور وتشابهات تربطه بالحيزين اللبناني والعراقي، وكأنما البلدان الثلاث حبات سبّحة فالتة من كل خيط سوى خيط التحول العميق من بنية إلى أخرى جديدة، لها قاعدة أكثر اتساعاً، وقدرة أكبر على الاستقرار، بمقدار ما يمكنها اليوم مقاومة التنظّم والتحرر من النواظم والقيود.
في الكلام أعلاه صدى لمفهوم الفوضى الخلاقة. أقول المفهوم، وليس المشروع السياسي الأميركي. فكونداليزا رايس لم تخترعه حين لجأت إليه العام 2005 لتبرير غزو العراق، بل استعارته من حقل العلوم السياسية الذي تداوله منذ زمن بعيد، بمعنى إحداث فوضى متعمدة من قبل طرف ما، لدفع طرف آخر للاعتماد على نفسه وشق الطريق لازدهار جديد على أنقاض هياكل خربة.
للكلام أيضاً صلة ب”إدارة التوحش”، حيث نميل إلى الاعتقاد أيضاً بأن مؤلف الكتاب الشهير بهذا الاسم، أبو بكر الناجي، لم يستنبطه ولم يستعره من علوم الفقه والعقيدة الإسلامية، بل حوّر المفهوم السابق كما حوّر اللفظ من الفوضى إلى التوحش دفعاً للشبهات. لكنه في العموم يدور في فلك المفهوم ولا يتجاوزه سوى للتنظير حول السبيل الأفضل للحركة الجهادية لانتهاز هذه الفوضى لإقامة الدولة الإسلامية. لكنه يوهن المفهوم عبر تقييده ووسمه بالعنف الدامي الذي يقتل، أول ما يقتل، إمكانية الخلق في تلك الفوضى، من خلال قسرها على الامتثال للمخيف والمروع.
إن الفوضى المشار إليها، من حيث تفكك الفاعلين السوريين وتناحرهم، ستكون غير منتجة في حالة واحدة فقط، هي فقدانهم الاتصال بالهدف النهائي. وهو ما يبدو لنا، من خلال تحليل الشعارات والمسارات والجهود المبذولة منذ أكثر من عقد، ليس سوى تعلم كيف يحكمون أنفسهم، وإيجاد نظام جديد لحياتهم، أي عقد بين المجتمع و”دولة” تنظم فعلهم الجماعي وتصعد بهم إلى دور من الازدهار مثل الأدوار التي عرفتها بلادهم مرات عديدة عبر تاريخها.
المصدر: المدن