يواصل أحمد جاسم الحسين الكتابة عن زيارته إلى جنوب الفرات بعد هجرة دامت أكثر من عشر سنوات، ليكتشف أن طبق “الثريد” ما زال صامداً في وجه التغيرات الهائلة التي أحدثتها الحروب التي تعاقبت على الشمال والشرق السوريين.
لو كان لدى “الأغنام والثروة الحيوانية” محامون لرفعوا دعوى ضدي، لأن عدد الذبائح التي قُدمت احتفاء بي تشكل قطيعاً من الأغنام.
لا أحد من أصحاب الدعوات يمكن أن يقتنع بأنني بتُّ مشتاقاً لتناول طبق من الخضار، وحين طلبته من أحد الداعين بديلاً عن “الذبيحة”، ردّ بحدّة: “تريد تشوّه سمعتنا، نعزمك على طبق خضار يا رجل، يا عيب الشوم! هل غيَّرتك هولندا إلى هذه الدرجة؟ هل أنستْك عشر سنوات عشتها هناك أربعين عاماً عشتها بيننا؟”.
التسابق إلى هذه الدعوات المتكررة يشير إلى عدم قدرة الأفراد على الخروج من هيمنة المجتمع وعاداته، وإلى خليط من الكرم والتقدير والفخر، والمؤلم لي شخصياً أن عدداً من الداعين يعانون من ضيق الحال، واضطُروا لاستدانة ثمن الذبيحة من جيرانهم، غير أنَّ ذلك لا يهمهم، لأنَّ السعادة التي يحصلون عليها بطقوس الدعوة، والاستجابة أكبر بكثير من الهمّ، الذي يسكن في رؤوسهم؛ حتى يسدّدوا الدين.
ترددتُ في قبول إحدى الدعوات لمعرفتي بحالة الداعي وظروفه المتعبَة، فنبَّهتني أمي: لا ترفض يا ابني، حتى الكلاب تفرح بالذبيحة! وتابعتْ: “يا بنيّي! الكلاب ستنوبها العظام في نهاية المطاف. وأنت كم ستأكل؟ ربع كيلو؟ نصف كيلو على الأكثر؟ ما تبقى سيأكله رجال آخرون وكبار في السن، ونساء وأطفال، لا يتاح لهم أكل اللحوم بسهولة في هذه الظروف”. وتابعتْ: “ستنال أجراً كبيراً ودعاء قلبياً يا ولدي من موافقتك على الاستجابة لهذه الدعوات، لأنه في الحالات العادية لو “قطعتَ رؤوس أولئك الرجال” الذين يصرون على دعوتك، لن يذبحوا أغنامهم، وهي أعز ما يملكون، من أجل عائلاتهم.
كدتُ أحتجَّ على ما قالته أمي: ألا توجد عبارة أقل عنفاً من “لو قطعتَ رؤوسهم”! أما في اللغة العربية عبارة أنعم من ذلك؟
حين نظرتُ إلى تقاسيم وجهها، وما تبقى من ملامحها وعينيها، لم أستطع أن أمسك نفسي؛ ضممتُها، كأنني أقول لها: “يا يُمّه ظلي بجانبي قدر ما تستطيعين!”.
أصرُ على أن ترافقني أمي في كل الدعوات، لم أكترث بعيون دائنة لي، مخالفاً بذلك عرفاً اجتماعياً يفصل عالم النساء عن الرجال في الطعام ليجعلهن في الدفعة اللاحقة من البقايا، تقاليد المجتمع الذكوري، أعلم أنه بصفتها ضيفة، سيُحْسَبُ حسابها بالدفعة الأولى، أصرّ على أن تكون بجانبي كنوع من الشوق، والرغبة بأن تبقى أطول فترة بقربي، إذ كنتُ أشعر أن الكثير من الزائرين يسرقون مني وقتي مع أمي، كي يحدثوني عن أشياء ليست من اهتماماتي.
يحرص الأهالي في منطقة الفرات على تربية الأغنام بهدف القيام بواجب الضيف وإعالة العائلة، وإشباع شعور الملكية، والفخر، والالتزام بعادات العشيرة، والشعور بالأمان أحياناً!
“الثريد”
بقي طعام “الثريد” صامداً في وجه الزمن، لم يتغير ذلك الطبق الرئيسي في شرق الفرات، لم تغيره الأنظمة أو الميليشيات، وهو آخر ما تبقى من ذكريات تلك العشائر عن جذورها البدوية، قبل أن تبدأ بالاستقرار قبل نحو قرن ونصف القرن. أصبحت السَلَطة ترافقه، والمكسرات أحياناً. تتمسَّك به تلك العشائر بصفته لوناً من ألوان حياة الجماعة، وبقي طباخوه منسيين، إذ كان الرجال يقومون بهذه المهمة قبل أن تُنْقَل إلى نساء مخفيات. وعادة ما تُنْسَبُ جودة “الثريد” أو عدمها، ليس إلى الطباخ بل إلى نوع الذبيحة، وإن كانت أنثى أم ذكر، وكم عمرها، ومدى سمنتها وهل هي “مدهنة”. كان الثريد طعاماً، مكتفياً بذاته، فخامة اسمه تكفيه: خبز ولحم ومرق وشحم، لكن الأيام غيَّرته، ودخل عليه الأرز والبصل والعصفر والبهارات.
هذه كانت الوجبة الرئيسية الوحيدة في منطقة الفرات في القرن التاسع عشر، قبل عصر الفلاحة والاستقرار، يا لها من راحة بال: مطبخٌ بطبق رئيسي واحد. طوَّر المطبخ الفراتي ذاته لاحقاً بإدخال الخضار، وأخذت الفراتيات يحاولن البحث عن أطباق جديدة، مستفيدات من الخضار المنتجة والأغنام وحليبها، ثم دخلتْ ألوان الطعام السورية الأخرى عليه، نتيجة الاحتكاك بعد فتح الطرق مع دمشق، وتغير وسائل التواصل والانترنت، كيَّف المطبخ الفراتي تلك الأكلات وتكيَّف معها، في مرحلة صار الطبخ فيها شأناً عالمياً، غير أنه في الولائم الرسمية، بقي الثريد سيدها، وكان يشار إلى التفاضل بين عزيمة وأخرى ليس بجودة الطبخ، بل بعدد الذبائح، هذا كذلك شأن فراتي.
في كل دعوة كان هناك من يعطي نفسه دور مفتِّتِ اللحم وواضعه أمامي، إكراماً لي، تمنيت لو أنني لم أتخل عن ريجيم “الكيتو” لمحاربة “كرش” الخمسين، الناجم عن الكسل وطبيعة المناخ الهولندي. يعرف الشخص الذي يفتِّت اللحم، ويضعه أمامي أي أجزاء الذبيحة أطيب ليبرّ ضيفه به.
وكنت أشبع مبكراً، غير أنني لا أكون أول مغادري المائدة، احتراماً للداعي، وأنا أراقب حركة أيادي الرجال المسرعة، كأنهم في مهمة محددة، وما إنْ يقوم واحد منهم حتى يقوم الجميع معه. أراعي أصول تناول الطعام مع الجماعة: أنْ تأكل مما يليك، وأن تغمِّق في حفرة الثريد، وألا تمشي أفقياً بحيث تسحق اللحم الذي أمامك، من واجبك أن توائم بين الأفقي والعمودي، حتى تُبقي لحماً لشركاء المائدة الآخرين. أيام شبابنا المبكر كنا تعلمنا أنكَ إنْ غمَّقتَ الحفرة ثم حفرتَ تحت قطعة اللحم، ستنزل في حفرتك، دون أن يبدو للحاضرين أنك تتقصد ذلك.
كنتُ أستعجل الأكل؛ وأترك شيئاً من اللحم على العظام، وأدفن أجزاء منه تحت الأرز، دون أن يراني أحد، لأنني أعلم أن هناك أطفالاً ونساء ينتظرون ما تبقى من رائحة اللحم، وسيعدون الكَرَّة والمحاولة مع العظام مصَّاً لنخاعها وأكلاً، لعل رجلاً، كان حنوناً بها، ولم يقسُ على المفاصل، بحيث يكون مفرحاً العثور في قلب الأرز على قطعة لحم، غير متوقعة.
تحتاج طبخة الثريد الكثير من الإعداد والتحضير، ابتداء من عملية الذبح والسلخ إلى أن تصبح في الأطباق النحاسية الدائرية المصنوعة في حلب، غير أنها تُؤكل في عشر دقائق. على العكس من الطبخ الهولندي، الذي يُطبَخ في نصف ساعة، وغالباً ما تكون الخضار المطبوخة والبطاطا المسلوقة هما عماد الطبق الهولندي الرئيس، فيما تستمر الجلسة لساعات حول مائدة الطعام في مصطلح امستردامي اسمه tafelen، وهو ما سبق أن نبهتني إليه صديقة هولندية، أعلمتُها أن ورق العنب يستغرق طبخه في المطبخ الحلبي نحو عشر ساعات، وهو ما علقتْ عليه بالقول: هذا جنون سوري محض!
كان أحد الشباب من أولاد خالي يضع صابون الغار في صحن صغير، أخذت رائحته تعلق في أنفي وأصابعي كأنها آتية من زمن مضى. يحضِر الشاب “الطشت” الكبير مع إبريق الماء إلى مكان جلستي مع منشفة يضعها على كتفه.
أعادني هذا المشهد إلى ذكريات طفولية جميلة، إذ كنت أقوم بهذا الدور لسنوات طويلة أمام ضيوف أبي، الذي يعتز بابنه وهو يكبر، وغاية طموحي، آنذاك، أن يسألني الضيف: ابن من أنا؟ أو ماذا أدرس؟ المهم أن يخصني باهتمام ما؛ فيعوضني بذلك عن عدم الأكل مع الرجال.
بقيت أسئلتي مفتوحة على تجربتي، ولم أجرؤ أن أصارح الجميع بها: كيف يضحي هذا المجتمع بحاجات أهل البيت لمصلحة الحاجات الاجتماعية، وكيف يشبع الضيف قبل أهل البيت؟ أي منظومة قيمية تلك؟ ومن سيصدق هذا المشهد هناك حيث تعلو الفردانية على كل شيء!
“الچـاي”
ما إنْ أرى إبريقاً من الشاي، يُقَدَّم سريعاً بعد طبق الثريد، حتى يحضر وجه أمي، التي كانت إذا مضت الساعة الثامنة صباحاً ولم تشرب الشاي فإنَّ رأسها يؤلمها ألماً شديداً. وكان يمكن أن يُفقد أي شيء من البيت، إلا الشاي والسكر.
تنبِّهُ النساء أزواجهن إلى ضرورة شراء المزيد منه، منذ أن يبقى نحو كيلوين من السكر في المطبخ، تحسّباً لمصادفة نفاده يوم جمعة مثلاً، إذ لم يكن أيام طفولتي أيّ دكان يفتح يوم الجمعة، فنُحْرَمُ الشاي، أو نُضطر لأن نقترض الشاي والسكر من الجيران بما يكفي لعدد من الأباريق، حيث يكسر فقدانه من البيت كل قواعد العلاقة الرسمية مع الجيران.
اليوم أُلْغِيَتْ هذه الاحتمالات، بعدما فَقدَ يوم الجمعة خصوصية إغلاق المحلات، وحين لا نجد ورق الشاي تردد أمي: “آني وراي الطرد مكطوع سِير حذاي، وانْ چان يَـمْكُم ورق سوّولي كاسة چاي”.
الأشعار الشعبية التي تستحضرها والدتي حين تشرب الشاي تصلح لتكون رسائل لحبيب، وليس لكأس من الشاي من مثل: “آخ يالجاي وآخ يالجاي هو فريشي وهو غطاي، ابني من المهد عِفتو ورجل صباي طلقتو، كل منشانك يالچاي” وفي حالات الفقد تقول “عالجايهم طاخ، دوم تهمل العين”، أما إنْ يعرض عليها أحدٌ اللبن بعد الغداء فترد عليه: “ما اشرب شنينة أبوس رب الجاي” لن تستوعب أمي ما قاله شاعر معاصر ” چيدان چاي العصر/ من فوق نار الجمر/ مو چأي/ چنه خمر والناس سكرانه”.
أنواعٌ مختلفة من الشاي مرتْ على منطقة شرقي الفرات، حيث كان والدي يشتريه بالصندوق، شاي سيلاني أصلي خشن، كنا نتسابق لنحجز مكاناً بجانبه، حين يبدأ بفتح الصندوق الخشبي الرقيق، المغلف بالقصدير من الداخل، وغالباً ما يتم حجز خشب الصندوق مسبقاً من قبل أحد الجيران لإغلاق شباك أو لصنع صندوق صغير أو لإصلاح شيء في المنزل. ومع أنه لا مفاجآت ننتظرها، بعد فتح الصندوق، لكن كونه مغلقاً، ويُفتَح أمامنا، كان يحمل فرحاً خاصاً في مرحلة كنا فيها نستمدّه من أي شيء لا يتكرّر كل يوم، في حياةٍ لا كهرباء فيها أو تلفزيون أو انترنت، كان تحققُ الفرح أسهل بكثير من يومنا هذا، حيث غدا الفرح عابراً وسريع الزوال. كان الفرح وقتها قريباً وبسيطاً، وحين غدت الحياة معقدة وسائلة، صار الفرح طيراً نركض خلفه دون أن ندركه.
لاحقاً أصابتنا خيبة أمل، حين عرفنا أن مصدر الشاي واحد، وما الماركات إلا تعبئة له، وعمل تجاري محض، بل قد يكون المعمل واحداً، لكن كل ماركة تطلب خاصية ونكهة ما من المصنع ذاته ربما، في اللون أو الطعم أو الحجم: “شاي أحمد، شاي محمود، دوجي غزال، شاي كرزة، وشاي ليبتون”. وحين صار الشاي شأناً له علاقة بالسوشال ميديا أخذت تثير دهشتنا فكرة أن الشاي يجب ألا يغلي مع الماء، بل الماء يُغْلَى ثم يضاف إليه الشاي، ويترك حتى يتخمر. بالنسبة إلى أهلنا لم يتغير الأمر، ما لم يُغْلَ الشاي مع السكر بما يكفي، حتى تضيع ملامحهما وتتمازج، فلا نكهة للشاي.
لا أجرؤ على مصارحة أمي بأن هولندا جعلتني أشرب الشاي دون سكر، وأن الهولندي قد يستعمل مغلف شاي ليبتون لأكثر من كأس، لذلك أشرب الشاي معها وننظر إلى بعضنا كأن لدينا سراً نخفيه، كأننا نقول: أتذكرين يوم كنت نديمك في صباحات الشاي في رحلة بدأت قبل نصف قرن، يوم فطمْتِني على الشاي والخاثر، كأفضل ما تسمح به بيئة قريتنا ذات يوم.
لن تصدق أمي أنني بتُّ مدمن قهوة، لو حدثتهُا عن ذلك، وأنني أشرب نحو لتر قهوة يومياً، فأنا أعيش في أحد أكثر البلدان عشقاً للقهوة، اعتدتُ عليها لأنني عبر سنوات عملت مع هولنديين، والقهوة عند الهولنديين هي الشاي عند أمي يشربونها مع الإفطار والغداء والضحى ووسط النهار، أما في وجبة الساعة السادسة فتغيب القهوة عن المائدة الهولندية لتحضر بدلاً منها الكحول التي تعادب يعادل لبن العيران والماء أو البيبسي والكولا في الكثير من المجتمعات العربية.
حين وجدتْني أمي مستغرقاً في شرودي، نظرتْ إلي، وقرأت ما كان يدور برأسي، كأنها لا تعترف بآلة الزمن ودورانها، فقالت: “أحمد يا بنيّي، السُكَّر متصوّفٌ أحبَّ الچاي، وأفنى نفسه به على جمر الشوق، فأنجبا معاً كأس الچاي الثقيل التي نشربها كل صباح، لا تقارنه بأي مشروب آخر، لأنه نسيج نفسه، ولا شيء يشبهه!”.
المصدر: درج