عبد الناصر العايد
أظهرت ردود الأفعال الإقليمية والدولية، على الحرب الجوية التي تشنها أنقرة على قوات سوريا الديموقراطية، أن تركيا نجحت في عزل تلك القوات عن مصادر الدعم المحلية والخارجية، وتضييق الخناق عليها سياسياً وميدانياً، بحيث أن خروجها من مأزقها الحالي وكسر العزلة لن يكون ممكناً من دون اتخاذها قرارات جذرية بشأن وجودها وشكله، تتأرجح بين حل نفسها مع مكاسب متواضعة، أو ركوب سياسة حافة الهاوية والانطلاق نحو مغامرة أوسع محفوفة بالمخاطر.
الافتقار المتزايد للقاعدة الشعبية
من المعروف جيداً إن طموح قسد القائم على طرح قومي لا يتمتع بقاعدة شعبية كافية، فنسبة السكان الأكراد في شمال شرقي سوريا لا تقارن بنسبة المكوّن العربي، وتنازع قوات سوريا الديموقراطية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، على هذا الجمهور، أحزاب المجلس الوطني الكردي، المرتبطة بدورها بحكومة إقليم كردستان العراق. ويشير مراقبون في تلك المنطقة إلى حركة هجرة مستمرة للأكراد خارج سوريا تشبه الاستنزاف، ناهيك عن عمليات النزوح الجماعي بسبب العمليات العسكرية. فمدينة كوباني، على سبيل المثال، التي نزح أهاليها إلى تركيا إبان الهجوم عليها من قبل تنظيم داعش، ما زال أغلبهم هناك، بينما توزع سكان عفرين، وهي المعقل الأبرز للأكراد في سوريا، على شتى المناطق من حلب إلى الحسكة وإقليم كردستان بُعيد العملية التركية التي أسفرت عن احتلال المنطقة.
وقد لوحظ أن الفترة الأخيرة، شهدت محاولة مستجدة لقيادة قوات سوريا الديموقراطية لإيجاد هذه القاعدة في صفوف المكون العربي عبر استرضائه ومحاولة إشراكه قدر الإمكان في السلطة والإدارة. لكن هذه المحاولات اصطدمت على الدوام بالجناح القومي المتصلب في تلك القوات، والذي يريد الحفاظ على السيطرة المطلقة على مفاصل القوة العسكرية والمدنية والاعتماد على ما تبقى لهم من المقاتلين والداعمين الأكراد حصراً. وقد يكون ذا مغزى إن سلاح الجو التركي قد كثف هجماته في الأيام الماضية في محافظة الحسكة، واستهدف العديد من المواقع الجديدة في العمق، مثل قاعدة المو كمان داخل الحدود الإدارية لمحافظة دير الزور ذات الصبغة العربية الكاملة، والتي يطاولها القصف للمرة الأولى، وهي إشارة ذات مغزى للسكان المحليين العرب، خاصة لجهة تزامنه مع الموعد المفترض لواحد من أكبر الاجتماعات الشعبية التي نظمتها قسد والذي كان يفترض أن يلتقي فيه أكثر من 6000 وجيه من العشائر العربية مع القيادة الكردية وأن يصدر عنه عدد من القرارات لتصحيح العلاقة بين الطرفين وحل القضايا الإشكالية مثل المشاركة في السلطة والثروات وتخفيف الإجراءات الضاغطة على المكون العربي وإصدار عفو عام يستفيد منه الآلاف من المعتقلين من هذا المكون. وقد أدى الهجوم التركي لتأجيل هذا الاجتماع إلى أجل غير مسمى، وهو أمر يبدو أنه هدف مقصود بحد ذاته.
واشنطن لا تنسحب لكنها لا تدعم قسد
منذ أن قرر الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، سحب القوات الأميركية من سوريا وتراجعه عن ذلك، تخلخل الدعم الأميركي لقوات سوريا الديمقراطية، وبرز البعد الوظيفي لها على حساب فكرة التحالف الاستراتيجي التي كان قادة تلك القوات يروجون لها. ووفق معطيات شبه أكيدة، كانت إدارة جو بايدن قد قررت الانسحاب من سوريا عقب الانسحاب من أفغانستان مباشرة، لكن ظروفاً متعددة أدت إلى تأجيل ذلك، مثل الانتقادات التي وجهت للانسحاب المتسرع من كابول والحرب الأوكرانية الروسية. ومع تواصل الضغط التركي على الجانب الأميركي، استطاعت أنقرة الحصول مؤخراً على تفويض باستخدام القصف الجوي على نطاق واسع، كبديل عن الاجتياح البري الذي لا تستطيع واشنطن تحمل تبعاته، خصوصاً أن قواتها وقواعدها ما زالت منتشرة في تلك المنطقة ولا يمكنها غض النظر عن عمليات برية تجري بقربها. ومن التطورات التي تسترعي الانتباه في القصف التركي الأخير، إنه شمل مواقع لقسد في محيطي جبل كرتشوك الذي يعد مقر القيادة الاستراتيجية لقوات سوريا الديموقراطية، وملاذ القيادات المبتعثة من جبل قنديل، والتي تبعد كيلومترات قليلة عن قاعدتين أميركيتين رئيسيتين في رميلان والمالكية. وهو أمر لا يمكن أن يحدث من دون أن تكون القيادة الأميركية على علم مسبق به، بل وبمجمل العملية، وتحذيرها لرعاياها من السفر إلى تلك المنطقة يفيد بأكثر من الاطلاع، أي بالموافقة.
ولا يبدو أن هذا التفويض الأميركي سيكون مؤقتاً أو مرتبطاً بحدث محدد، مثل تفجير إسطنبول أو الهجمات التي نفذتها قسد عبر الحدود على الأراضي التركية. فسياق الأحداث السابقة يقول إن أي تفويض باستهداف منطقة، تحصل عليه أنقرة، تجعله بأساليبها الخاصة مستمراً ودائماً، وهذا يعني أن قوات سوريا الديموقراطية لن يمكنها الاحتماء بعد اليوم بالقوات الأميركية في المناطق التي شهدت القصف، حتى لو لم تنسحب منها.
موسكو تتربص ولا تدعم
منذ بداية تدخلها في سوريا، تنظر موسكو إلى الجزيرة السورية ونفطها وغازها على إنها الجائزة الاقتصادية التي ستحصل عليها في النهاية. وكان هدفها الأبرز هو السيطرة على المنابع النفطية هناك وانتزاعها من تنظيم داعش، لكن القوات الكردية المدعومة أميركياً، سبقتها إليها، وما زالت العقود المبرمة بين نظام الأسد وشركات روسية يديرها مساعدو بوتين، سارية المفعول. وعليه، فإن موسكو يناسبها وضع مزيد من الضغوط على الأكراد لدفعهم بعيداً من واشنطن وبناء تحالف معها تفوز بموجبه بسلة الغذاء والنفط. وقد شمل القصف التركي الأخير، مناطق شمال حلب، مثل منغ وعين دقنة ومارع التي تقع فعليا تحت النفوذ الروسي. وفي تصريحاتها حول العملية أبقت موسكو الباب موارباً للجوء قادة قسد إليها، مع علمهم المسبق بحدود ما يمكن أن تقدمه، وهو ليس أكثر من نوع هلامي من اللامركزية، على أن تبقى السلطة العليا للنظام، وهو مطلب ثلاثي لنظام الأسد وتركيا وإيران معاً.
نظام الأسد يفضل التقارب مع تركيا
عندما أعلنت تركيا في وقت سابق هذا العام، نيتها شن هجوم في شمال سوريا ضد القوات الكردية، لجأت الأخيرة إلى عقد تفاهم مع نظام الأسد تنتشر بموجبه بعض قواته على نحو رمزي على الحدود لمنع اجتياحها من جهة، ولإيجاد أرضية للتعاون بينهما من جهة أخرى على قاعدة مناوأة أنقرة. لكن عدم حدوث تلك العملية، ومغازلة تركيا لنظام الأسد وفتح قنوات التفاوض معه، قطعا الطريق على ذلك التحالف المفترض. ويبدو أن نظام الأسد وجد مصلحة أكبر في التفاهم مع تركيا، من التحالف مع قوات سوريا الديموقراطية، التي لن يستفيد فعلياً من أي تسوية معها بما في ذلك على صعيد الثروات الاستراتيجية التي تترصدها موسكو كما أسلفنا وستستولي على نصيب كبير منها. كما أن نظام الأسد ليس في وارد تقديم تنازلات ذات صيغة اثنية للأكراد، خشية أن تفتح عليه باب مطالبات مماثلة لا تنتهي لمختلف الجماعات الأخرى في البلاد. وفي الخلاصة، نجحت تركيا هنا أيضاً، وعزلت قسد عن النظام، الذي لم يبدر منه ما يفيد برفض تلك العملية على الرغم من الأنباء المؤكدة بأن الهجمات قد أدت إلى مقتل عدد من ضباطه وجنوده، وهو الأمر الذي أرادت قوات سوريا الديموقراطية إحراج نظام الأسد به من خلال تقديم العزاء له بهؤلاء القتلى، لكن من دون فائدة.
يظهر هذا المشهد أن قسد عارية من الحلفاء والأصدقاء، وخلا بعض المؤسسات الدولية ووسائل الإعلام المتعاطفة، فإننا لا نستطيع العثور على حليف واحد يمكنها الركون إليه. وهي أمام خيارين: إما الصراع بما يتوافر لديها من قوة، وانتظار تقلب الأحداث والظروف على أمل أن تجلب لها حليفاً جديداً أو تجديد الدعم الأميركي لها، خاصة في ميدان مكافحة التطرف. وإما البحث عن سبيل لكسر العزلة، وهذا لن يتأتى سوى بإجراء راديكالي وجذري يغير من وضعية تلك القوات إلى الأبد… ويخطر لنا في الحالة هذه، أحد أمرين: الرضوخ لمطالب النظام وروسيا وعقد تسوية تطيح الطموح القومي لتلك القوات، أو شن عملية عسكرية داخل تركيا بالتآزر مع الجناح القنديلي لحزب العمال الكردستاني وخلط الأوراق على مستوى المنطقة بأكملها، وهو الخيار الذي يلمح إليه بين الفينة والأخرى بعض قادة قسد وقادة حزب العمال الكردستاني.
المصدر: المدن