عبد الناصر العايد
نُشرت، الأسبوع الماضي، وعلى نطاق محدود، دراسة لكاتب استخدم اسماً مستعاراً، تحدثت عن علاقة اليسار الراديكالي الفرنسي بالثورة السورية، مركّزةً على الاهتمام بما يُسمى ثورة روجافا، وهو المسمى الذي شاع بين الأوساط اليسارية الفرنسية عامة للعمل العسكري والسياسي الكردي، تحت مظلة حزب العمال الكردستاني وشقه السوري الاتحاد الديمقراطي، في شمال شرقي سوريا، أي المنطقة التي تصفها أدبيات الحزبَين في خطابهما الموجه للكرد بغرب كردستان.
بالعودة إلى الدراسة المُشار إليها، يقول الكاتب أن مشاركة اليسار الفرنسي في النضالات العابرة للحدود، ليست ظاهرة جديدة، ويستشهد بالثورة الروسية والحرب الأهلية الإسبانية، وقد أنعشت الذاكرة الأممية المضمحلة تلك ما وصفته تلك الأوساط بالديموقراطية الجذرية الناشئة في روجافا. يسرد الكاتب بعجالة، السياق، ويقول إن تخلخل نظام الأسد الناجم عن الانتفاضة الشعبية قد مكّن كوادر “العمال الكردستاني” من إيجاد موطئ قدم. ومع أنه يعود في مكان آخر إلى نقل شهادة شاب كردي من عين العرب، يصف فيها الانسحاب المفاجئ لقوات نظام الأسد من كوباني، تاركة لعناصر الحزب حتى سيارات الشرطة، ويلمح إلى اتفاق بين النظام والحزب على ذلك، إلا أنه يتحاشى مد نظره قليلاً إلى الوراء ليكشف التحالف التاريخي بين حزب العمال ونظام الأسد الذي تسبب في أزمة حادة بين سوريا وتركيا وصلت إلى حافة الحرب التي لم يكن ممكناً تلافيها سوى بطرد عبدالله أوجلان من سوريا.
وتجاهل الكاتب بشكل واضح الفرضية التي تقول بأن النظام استدعى الحزب إلى حدوده الشمالية، للضغط على تركيا التي بدأت بدعم المعارضة بشقّيها السياسي والمسلّح. كما يتجاهل فرضية أخرى تحظى بانتشار واسع بين الأكراد أنفسهم، تقول بأن تركيا ذاتها دفعت باتجاه نزوح مقاتلي الحزب وكوادره إلى سوريا وخوض الصراع معهم على أرضها، بدلاً من الاستمرار في تأجيج الحرب على الأراضي التركية.
يثير الكاتب ايضاً نقطة مهمة تتعلق بالانحياز في الأوساط الراديكالية الفرنسية، إلى روجافا، وتجاهل وقائع الثورة السورية الشعبية. ويسهب في وصف تجارب “الإدارة الذاتية” التي نشأت في سياق الثورة السورية، مثل المجالس المحلية وغيرها، كما يلتقي بنشطاء سوريين يؤكدون أن الثورة كما عاشوها لم تكن طائفية أو إثنية. لكن هذا الوجه من وجوه ما حدث في سوريا، طُمس تحت لا مبالاة اليسار الفرنسي عموماً، الذي ذهب أحد رموزه، وهو ميلانشون، إلى حد وصف ثوار غوطة دمشق بأنهم “داعش الغوطة”، وقال أن الرئيس بوتين هو الشخص الذي “سيحلّ كل هذه المشكلة”!
يتساءل الكاتب هنا عن التفسير للحالة التي استطاعت فيها منطقة صغيرة في شمال شرقي سوريا أن تحجب ثورة شعبية كبرى عن أنظار اليسار الفرنسي، ويقدم اقتراحات تتعلق بنمو التنظيمات الراديكالية الإسلامية، مشيراً إلى حالة الإسلاموفوبيا السائدة في أوساط اليسار والتي تدفعه لتأييد ودعم أي حركة تحاربها، كما دفعت ما لا يقل عن خمسين فرنسياً، من اليسار الأكثر تحررية، للانخراط في المعركة كمقاتلين إلى جانب القوات الكردية ضد “داعش”. يضاف إلى ذلك، في الجانب الآخر، الخطاب الذي قدمه “العمال الكردستاني” للغرب، والذي يعتمد على محفزات ثلاثة جاذبة لليسار التحرري هي: النسوية، والبيئة، والديموقراطية المباشرة. وهي الوجوه التي تمكّن من تسويقها جيداً بفضل خبرته مع الوسائل الإعلامية، وبالاعتماد على جالية كردية كبيرة تتبنى أفكاره وتنشط في أوروبا، خصوصاً في فرنسا حيث تزامن ذلك مع تحركات “ثورية” بدأت منذ العام 2016 ضد السلطة، مثل التظاهرات المناهضة لقانون العمل وحركة السترات الصّفر وغيرها، والتي راحت تتطلع للاستفادة من تجربة “الإدارة الذاتية” لروجافا، باعتبارها مرجعية. إذ لعب الحزب الكردستاني دوراً تنظيمياً ودعائياً للمقاتلين العائدين من هناك، وعددهم 12 وفق تقارير المخابرات الفرنسية التي هونت من خطورة نقلهم للخبرات العسكرية! ويتطرق الكاتب إلى عدد من التجارب الناشئة في فرنسا، للإدارة الذاتية، ويصف تأثرها بنموذج روجافا المعاصر القابل للتعميم والتصدير وتكييفها حسب المكان الذي تطبّق فيه.
في سعيه للموضوعية، والتي لا يفتقر إليها البحث على كل حال، يلقي الكاتب الضوء على أصوات يسارية تحررية ترفض الموقف المشار إليه سابقاً، ويتساءل المُستطلعة آراؤهم عن تفسير دعم حركات تدّعي بأنها معادية للسلطوية، لحركة نضالية مؤطرة من قبل حزب هرمي وأيديولوجي حتى النخاع. وتنتقد هذه الأصوات صدقية خطاب حزب “العمال الكردستاني” و”الاتحاد الديموقراطي”، فالخطاب يتناقض مع أفعالهما وأخطائهما التي يتم نكرانها وتبريرها براغماتياً بحجة الحفاظ على “التجربة”. تلك التجربة التي تُخلع عليها صفات غير مُستحقة، وإنما تصدر عن “الصفائية والثقافوية الفرنسية المرتاحة”.
يشير المنتقدون هنا على وجه التحديد إلى قضية مبدئية هي اتخاذ “العمال الكردستاني” وقياداته المحلية السورية، موقفاً مناهضاً للحراك الشعبي السوري، وهي الفكرة التي يؤكدها شاب كردي من حلب يقول إن كوادر “العمال” وصلوا بُعيد اندلاع الاحتجاجات وحاولوا قمعنا، قالوا لنا “إنها ليست مشكلتنا، هي مشكلة العرب في ما بينهم”، وطالبونا بترداد شعارات كرديّة مثل “الحرية لأوجلان”، ثم “قالوا لنا إننا يجب أن نحمي أحياءنا الكردية كالشيخ مقصود والأشرفية، من بقية الأحياء”.
هنا يحيد معد النص عن الموضوعية والشمول. فهو، إذ يبرز البُعد المبدئي القابل للتبرير جزئياً، إلا أنه لا يذكر كلمة واحدة عن النقد السياسي الذي يمكن أن يوجَّه للحزب المهيمن على تجربة روجافا، ليس فقط لناحية تحالفه التاريخي مع نظام الأسد، أو اتفاقه مع ذلك النظام في بداية الثورة أو مستقبلاً، كما توحي المفاوضات الجارية الآن، بل وبشكل بارز لتحالفه مع الولايات المتحدة التي يعتمد عليها من كافة النواحي العسكرية والسياسية، في مقابل خدمات يسديها لها محلياً. لا أحد تساءل: كيف يمكنني أن أثق في حزب يرفع شعار محاربة الامبريالية والسلطوية وأقرب حلفائه وشركائه هي سيدة السلطة الامبريالية في العالم!
لا يسع هذه المقالة أن تتطرق إلى كافة جوانب البحث الثري والفريد من نوعه، فالأدبيات التي تتناول تأثر وتأثير المجتمع اليساري الفرنسي بالثورة السورية، نادرة، إن لم تكن معدومة، وهي لا تقارن بالدراسات والأبحاث التي تناولت ظاهرة الجهاديين الفرنسيين الذين قاتلوا في سوريا، ويحتمل أنهم واجهوا مقاتلين يساريين من مواطنيهم في ساحات المعركة. لكن، يجدر بنا أن نلفت الانتباه إلى أن البحث يؤكد أن الثورة السورية ستتعدى مفاعليها التاريخية، المنطقة التي انفجرت فيها، والحقبة التاريخية التي وقعت فيها. ولا يغير من الأمر شيئاً أن خصومها الكثر قد هزموها. فكومونة باريس الشهيرة هُزمت، والحرب ضد فرانكو الإسباني خسرت. لكن المفاهيم والأفكار والقيم التي انطلقت ما زالت حيّة، ومن الخطأ الظن بأن “ثورة سوريا” سيكون ممكناً حجبها، سواء بإعادة تعويم بشار الأسد، أو بالواجهة الجهادية الطائفية، أو بواجهة روجافا القومية.
المصدر: المدن