جسر – صحافة
“إنه نظام مخدرات”؛ هكذا وصف النائب الجمهوري فرينش هيل سلطةَ الأسد، والنائب هيل في صدارة جهد تشريعي لإقرار قانون أمريكي ملزم لمعاقبة الأسد في ملف تجارة المخدرات. القانون أُقرّ بأغلبية مريحة في الكونغرس، وينتظر الآن إقراره في مجلس الشيوخ ضمن ميزانية الدفاع لعام2022 ليُحال إلى الرئيس بصفته قانوناً، وليصبح ملزماً للوكالات الاتحادية كي تضع استراتيجية متكاملة للتعامل مع هذا النشاط الإجرامي خلال ستة شهور في حال تبنى مجلس الشيوخ التعديل الذي تقدم به النائب هيل، وهو يدفع عملياً بالقانون ليصبح بقوة قانون قيصر.
تعقيباً على إقرار القانون في الكونغرس قبل حوالى خمسين يوماً، صرح متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية بأن حكومة الولايات المتحدة قلقة بشأن الاتجار بالمخدرات من سوريا، وتعمل على مكافحته، من خلال جهود متعددة، بما في ذلك أدوات وقدرات إنفاذ القانون التقليدية. مضيفاً أن حكومته لديها سلطات عديدة لتحديد وكشف أولئك الذين يقودون تجارة المخدرات، أو يسهلونها أو يتواطؤون مع المتاجرين بها. ليؤكد على أن إدارته “تمتلك الموارد الكافية التي يمكن مشاركتها مع شركائنا، بما في ذلك العمل على تعزيز الأطر القانونية والتنظيمية، لأنظمة مكافحة غسيل الأموال”.
فحوى موقف إدارة بايدن من مشروع القانون الجديد واضح، وهو عدم وجود حاجة إليه والاكتفاء بالآليات التقليدية، الآليات التي لم يسمع أحد من قبل بنشاطها في مكافحة مخدرات الأسد، أو بعقوبات فُرضت لمحاصرة تجارة بلغت قيمتها العام الفائت وحده 3.5 مليار دولار. وموقف الإدارة الحالية يستأنف موقفي إدارة أوباما وترامب، إذ تسعى إلى الإمساك كلياً بالملف السوري كجزء من أدوات التفاوض مع روسيا وطهران وغيرهما، في حين سعت السلطة التشريعية منذ عهد ترامب وإقرار قانون قيصر إلى فرض حد أدنى يمنع الإدارة من تقديم التنازلات من دون مبررات وجيهة أمام مجلسي الكونغرس.
وصولاً إلى إيطاليا واليونان، كنافذتين للبر الأوروبي، مروراً بالأردن ودول الخليج، كانت شحنات الكبتاغون تذهب من المنافذ الحدودية الخاضعة للأسد. البعض من تلك الشحنات تم كشفه، والأساليب المستخدمة في إخفاء الشحنات التي انكشفت تدل على قدرة هائلة وممنهجة لاستخدام أي سلعة عادية كوسيلة للإخفاء، وبما يفوق القدرة المعهودة لعصابات الجريمة المنظمة. تبعية عمليات التصنيع والاتجار للأسد وشريكه اللبناني ليست موضع شك على الإطلاق، بل إن الأردن في تبرير انعطافه للتطبيع مع الأسد لم يتحرج من التلميح إلى اضطراره لذلك من أجل التنسيق الأمني وتفادي أكوام المخدرات التي يستهدف بعضها أبناءه، ويكمل بعضها الآخر طريقه إلى السعودية.
صارت تجارة المخدرات الحالية تُردّ إلى أوضاع الأسد الاقتصادية المتردية؛ يا للسلطة الفقيرة المسكينة التي لا تجد أمامها سوى مزاولة الجريمة بداعي الحاجة! هذا التبرير يراهن على قصر ذاكرة المتلقي أو عدم معرفته، وفي كل الأحوال يتغاضى كلياً عن عهود سابقة كانت فيها أنواع الحشيش والمخدرات تُرسل إلى بلدان الاستهلاك بمشاركة من السلطة، لا بغض بصر منها فحسب. واحد من الأمثلة المعروفة للسوريين استخدام الأغنام المصدَّرة إلى السعودية لإخفاء المخدرات فيها، ولا مصادفة بالتأكيد في أن اثنين من تجار المخدرات-الأغنام وصلا إلى عضوية مجلس الشعب.
العمليات الأضخم والأشهر تعود إلى ما قبل عقود، وهذه كانت مثار نقاشات قديمة في الكونغرس الأمريكي، وفيها كانت مخابرات الأسد تشرف مباشرة على عمليات الزراعة والتصنيع في البقاع جنباً إلى جنب مع تزييف النقود. أيامها كان اهتمام دوائر صنع القرار في واشنطن منصباً على عمليات تزييف الدولار بكميات هائلة، وبمستوى من الدقة لا تملكه العصابات عادة، وكانت الاتهامات الأمريكية تشير أيضاً إلى الأسد وشريكيه في محور الممانعة.
ما تغير خلال السنوات الأخيرة، ربما السنوات الثلاث الأخيرة، ظهور عمليات الإنتاج والتجارة إلى العلن أكثر مما سبق، وعدم اكتراث الأسد بانكشافها. هذا قد يكون مرتبطاً بالتردي الاقتصادي الذي يعانيه، إنما قطعاً ليس على النحو الذي يوحي به هذا الربط للوهلة الأولى. ينبغي أن يكون الأسد روبن هود، أي ذلك الخارج عن القانون بفروسية كي يسلب الأغنياء من أجل إطعام الفقراء، وأحوال الفقر والجوع المتفاقمين في أماكن سيطرته لا تؤشر إلى ذلك. بمعنى أن أرباح تجارة الكبتاغون تذهب إلى جيوب من يستطيع السوريون تخمين أسمائهم، وتستطيع المخابرات الأمريكية تحديدها بدقة.
لكن، مع ذلك، لإشهار عمليات الاتجار على هذا النحو رسالة يبعث بها الأسد، هي رسالة ابتزاز للخارج من أجل أن يقوم بالتطبيع معه وإنقاذه اقتصادياً. لعل الرسالة تزداد وضوحاً مع فتحه باب الهجرة الاقتصادية، بالتواطؤ مع موسكو وعبر الحدود البيلاروسية-البولندية، وكأنه يهدد الخارج “أوروبا والخليج خاصة” بإغراقه بالمخدرات والجوعى إذا لم يبادر إلى رشوته بالفدية المطلوبة. واهمٌ أيضاً من يظن أن الفدية ستذهب بفروسية إلى محتاجي البلد، فمجموع ما حصل عليه الأسد الأب ثم الابن من مساعدات كان كافياً لوضع سوريا في مصاف نمور آسيا لو أُنفق نصفها فقط للنهوض بالاقتصاد.
ثمة سلطة تسعى بدأب ليكون سجلها حافلاً منذ سبعينات القرن الماضي حتى الآن، بدءاً بعمليات الاغتيال التي نفذتها في لبنان، مروراً بالمجازر الجماعية في سوريا نهاية السبعينات والثمانيات، وأيضاً الإشراف والمشاركة في مجازر حدثت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. ثم، منذ اندلاع الثورة، هناك أضخم حجم من الوثائق في التاريخ على ارتكابها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، واستخدام السلاح الكيماوي ضد المدنيين والتنصل من تسليم كامل مخزونه.
أخيراً ها هو الكونغرس الأمريكي يعترف أيضاً بهذه الطغمة كـ”نظام مخدرات”، وحتى إذا اكتسب القانون صفة إلزامية على غرار قانون قيصر فسيكون في وسع إدارة بايدن الالتزام به في أضيق الحدود، ولو امتلكت إرادة مختلفة لكانت أكثر فاعلية في تطبيق قيصر. بين التجريم والتساهل مع المعني تتجلى التناقضات الأمريكية كمكافأة للأسد، إذ ليس هناك أفضل له من اتهامه بجرائم لم يسبق لأحد فعلها مجتمعة، ثم مطالبته بتحسين سلوكه، وكأن كل ما سبق مجرد نزوة أو طيش لا يعبران عن جوهر حكمه.