عبد الناصر العايد
يحتاج الرئيس التركي إلى انجازين في الملف السوري قبل صيف الانتخابات المقبلة في 2023، هما، تقويض الكيان الكردي في شمال وشرق سوريا، وإخراج أكبر عدد من اللاجئين السوريين من تركيا. على هذه الخلفية فقط يمكن فهم تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ووزير خارجيته مولود شاوويش أوغلو حول مصالحة محتملة مع نظام بشار الأسد.
ليس من العسير تخيل الخطة التي يبدو أن موسكو وطهران وانقرة توافقت عليها، لا بد أنها تذهب إلى الاعتماد على النظام للسيطرة على مناطق الإدارة الذاتية وحلّ “قوات سوريا الديمقراطية” وتفكيك الادارة الذاتية المدنية، وفي المقابل تكتم تركيا صوت المعارضة السورية، وتقودها إلى التفاوض المباشر مع النظام تحت سقف منخفض، وخفض حدّة ملف اللاجئين من خلال اسكانهم في مدن تنشئها تركيا على الشريط الحدودي، وتواصل الانفاق عليهم، محققة بذلك إزالة عبء عودتهم عن كاهل النظام، إلى مدى طويل، واحداث تغير ديمغرافي شامل في المنطقة الحدودية التي لن توصف بعد ذلك بأنها ذات غالبية كرديّة.
بمعنى آخر، كل طرف يفكك من جانبه الكيان الذي يشكل عامل قلق للآخر، ثم يتعاون الطرفان في ملفات أخرى مستقبلية مثل المساعدات الأمميّة وإعادة الاعمار وسواها.
هنا، لدينا عدد من الإشكاليات التي ينبغي الإجابة عنها سياسياً، الأولى هي هل يستطيع نظام الأسد أن يسيطر على مناطق الإدارة الذاتية بوجود القواعد الأميركية؟ والإجابة هي أن كافة الأطراف، بما فيها قسد، تتوقع انسحاباً أميركياً في نهاية هذه السنة، والانباء الواردة من البيت الأبيض مؤخراً، حول نيّة بايدن “فعل كل شيء”، لاستعادة الصحافي الأميركي أوستن تايس، المختفي في سوريا، ولدى النظام غالباً، تشير إلى نية هذه الإدارة جني مكاسب ما لهذا الانسحاب الذي أُبلغت به الإدارة الكرديّة منذ الخريف الماضي.
لكن لا يجوز أن نجزم بحتمية سير الأمور على هذا النحو، بالنظر إلى الصراع المحتدم مع روسيا وإيران، خاصة في أوكرانيا، وتطوراته التي قد تقلب بين ليلة وضحاها القرارات رأساً على عقب.
والاشكالية التالية هي هل أن حلاً كهذا سيلاقي موافقة وقبولاً دولياً واقليمياً شاملاً؟
في الواقع أن ثمّة احتكاراً روسياً إيرانياً تركياً للشأن السوري، لكن هذا لا يعني أن الطرف العربي لا مصالح له، ولا الإسرائيلي، ولا الغربي، فالطرف الأخير لديه قوات أميركية وبريطانية وفرنسية حتى الآن، جزء منها في منطقة التنف الواقعة خارج منطقة التفاهمات المحتملة، وتالياً يمكن أن تنشأ مواقف متفاوتة ومتعارضة تعرقل الصفقة المقررة بين أطراف استانة، إلا إذا كان ثمّة قرارٌ غربيٌ بإلقاء عبء سوريا الثقيل على كاهل روسيا وإيران كجزء من عملية الانهاك طويلة المدى لهاتين الدولتين.
أما الإشكالية الأكثر تعقيداً فهي خيارات المعارضة السورية وممكناتها في هذه المرحلة، التي يبدو أنها ستفقد فيها أهم مرتكزاتها السياسية الإقليمية، والداعم الرئيسي عسكرياً ومادياً، خاصة وأن هذه المحطة قد كشفت عن افتقاد المعارضة للصوت والممثل السياسي المستقل والقوي، وأن واجهاتها المصطنعة منصاعة بشكل كامل لطرف وحيد، يملك بشكل حصري كل مفاتيح التحكم بها، حتى أنه قادر على النطق باسمها في أخطر الملفات، وهو التطبيع مع النظام، من دون مراجعتها أو التشاور معها.
وهنا نرى بوضوح أنه ليس لدى تلك المعارضة من خيار أُعدّ مسبقاً، ولا بدّ لها من ابتكار شيء جديد، على شكل مناورة طويلة المدى تتمثل بصنع كيان سياسي خارج عن السيطرة التركية، وخارج الأراضي التركية بالضرورة، يرفض الصفقة المزمعة، ويسعى لامتلاك شرعية تمثيل السوريين الرافضين للعودة إلى كنف النظام، والتي كشفت احتجاجاتهم في شمال سوريا ودول اللجوء، عن عمقها وصلابتها.
لا يبدو أن ثمّة مقرّاً أفضل لمعارضة سورية مستقلة من أوروبا، التي يعيش فيها اليوم نحو عشرة بالمائة من الشعب السوري، وهم غير خاضعين لابتزاز أي من اطراف الصفقة المحتملة، ويبدو أن عدد اللاجئين إلى أوروبا سيرتفع ارتفاعاً كبيراً فيما لو مضت الخطة التركية قدماً، وسيكون من بين الفارين بالتأكيد قيادات ورموز سياسية، قادرة بالتشارك مع كتلة اللاجئين النشطة على اطلاق كيان سياسي مناهض للتطبيع والمصالحة مع نظام الأسد، يرتكز على قرارات الأمم المتحدة بخصوص تسوية النزاع السوري، ويعقد تحالفات محلية سورية وإقليمية مع الأطراف المتضررة، ويبني شبكة من التحالفات مع الدول الغربية، التي لا تزال تقبض على أوراق حاسمة مثل العقوبات وإعادة الاعمار وحق الفيتو في مجلس الأمن، حيث لن تستطيع روسيا وحلفاؤها تمرير أي قرار ذي صفة دولية يعوّم نظام الأسد.
إن أشدّ نقد يمكن أن يوجه إلى تركيا بخصوص ادارتها للملف السوري، هو عدم السماح لحليفها السوري الأوثق، أي المعارضة، من تكوين شخصية سياسية بارزة محليا وإقليميا ودولياً، وبدلا من ذلك فرضت وصايتها على جمهور الثورة السورية، واحتكرت تمثيل المعارضة عبر موظفين سوريين لدى خارجيتها وجهاز الأمن الخارجي، وربما تكون هذه المناسبة فرصة متأخرة ولكنها جيدة، ليدشن المعارضون السوريون، خاصة الجيل الشاب، حياتهم السياسية الخاصة والمستقلة، وامتلاك صوتهم وممثليهم وكياناتهم، التي كشفت تصريحات المسؤولين الاتراك أنها منعدمة فعلياً، إذ لم يتم الردّ عليها سياسياً ومؤسساتياً، واقتصر الردّ على التحركات الشعبية غير المنظمة ومحدودة الفعالية، ولكنها مفيدة على كل حال، أي الاحتجاجات، لبناء شرعيّة، يؤسس عليها خط سياسي جديد، يكسر الاحتكار التركي، ويعيد التفاوض معها ومع سواها، على قاعدة المصالح المشتركة والمتبادلة، وبأكبر قدر من النديّة.
الانعطافة التركية إذا اكتملت، لا بد أن تدفع السوريين إلى مراجعة المسار الذي اوصلهم إلى هذه الحصيلة البائسة لنضالهم وتضحياتهم الاستثنائية لعقد من الزمان، واكتشاف مكامن الخلل فيه، وإعادة الاعتبار للوطنية السورية والوطنيين السوريين، ليصبحوا طرفاً يعتبر عند التفكير بالقضية السورية، التي يجب أن يكون همّ كل فاعل سياسي أو شعبي اعادتها إلى اصلها، وإلى المربع الأول الذي انطلقت منه، وهو صراع الشعب السوري مع سلطة مافيوية إجرامية، لانتزاع حقوقه التاريخية في حياة حرة وكريمة، وهذا يتوقف على اطلاق مسار جديد، عنوانه الاستقلالية، لن يبدأ من الصفر، بل تتوافر كافة اركانه وادواته فعلياً، ولا ينقصه سوى من يبادرون إلى اطلاقه، ويستأنفون الكفاح مجدداً من أجل مستقبل بلادهم، الذي لم ولن يحسم، على كل حال، في المدى المنظور، إذ أن ما لا يحصى من الألغام يقبع تحت الصفقة المقترحة، أقلها سوء طويّة كافة أطرافها، وتربصهم الخبيث بعضهم ببعض، التي ستؤدي إلى ما لا يحصى من التقلبات والتوترات والمتغيرات التي يمكن استثمارها.
المصدر: المدن