عبد الناصر العايد
لم يثبُت حتى اليوم إن نظام الأسد قد أرسل مقاتلين إلى روسيا، وذلك رغم الإعلان الروسي المبكر على ألسنة بعض المسؤولين عن وجود 16 ألف متطوع في الشرق الأوسط جاهزين للالتحاق بقواتها. وهذا الأمر مفهوم جيداً، إذ لا تعاني روسيا في حربها مع أوكرانيا، نقصاً في عدد المقاتلين، بل في كفاءتهم وقدرتهم على استخدام الأسلحة الحديثة، إن وجدت. والحال أن مشاركة نظام الأسد في الحرب الأوكرانية شبه معدومة، على خلاف ما يحاول مسؤولو النظام قوله من أنهم حلفاء متضامنون بشدة مع روسيا. وبعد نحو تسعة أشهر من بدء الحرب، صار واضحاً أن بوتين غارق في مأزقه الأوكراني، وعلى حليفه الصغير في الشرق الأوسط أن يتدبر أموره بعيداً منه.
إن انشغال موسكو ذاك حمل فرصة فريدة لنظام الأسد، للتحرر من قبضة الهيمنة الروسية الكاملة، والتي تعمد الكرملين إظهارها عبر وسائل الإعلام وفي الترتيبات البروتوكولية. لكن هذه الوضعية طرحت عليه تحديات أيضاً، تبرز أولاً في المجال الاقتصادي، وتقلص الدعم المالي للنظام، والحماية التي كان يوفرها لاقتصاده، والقدرة على تجاوز العقوبات بالاعتماد على الشركات والبنوك الروسية التي باتت ترزح اليوم تحت وطأة عقوبات مماثلة. وقد أدى سحب اليد الروسية، حتى داخل النظام، إلى ضعضعة النظام الاقتصادي الداخلي، من خلال تغير مواقع رجال الأعمال البارزين فيه، مثل تواري حسام قاطرجي ذي التبعية الروسية، لصالح محمد حمشو المتمتع بدعم إيراني. كما تغيرت حسابات النظام للمستقبل القريب، فهو كان يأمل في انسحاب أميركي قبيل نهاية العام من منطقة منابع النفط شرقي سوريا، أو إرغام قوات سوريا الديموقراطية على إبرام اتفاق تعيد بموجبه جانباً من حقول النفط إلى النظام، وهو ما لن يحدث على الأرجح مع تطور المواجهة الغربية الروسية، ويبدو أن واشنطن ستتمسك بقواعدها في سوريا تحسباً لمواجهة شاملة مع موسكو في وقت ما، ولوضع مزيد من الضغوط عليها في كل مكان تنتشر فيه قواتها.
كما شهدت سوريا انسحاباً عسكرياً جزئياً للقوات الروسية، وغادرت منظومات دفاع جوي وطائرات، قاعدة حميميم، وانحسر إلى درجة كبيرة الانتشار العسكري الروسي في جنوب سوريا وشمالها الشرقي، ويكاد ينحصر اليوم في قاعدة حميميم الجوية وقاعدة طرطوس اللوجستية، وهذا ما يجعل النظام مشلولاً من الناحية العسكرية، وغير قادر على شن أي عمليات عسكرية جديدة لاستعادة المزيد من المناطق والاستيلاء على مواردها. وفي المجال العسكري أيضاً، انعكس تبدل الحال داخل منظومة الجيش والأمن، فقد نُحّي تقريباً رجل روسيا الأول، العميد سهيل الحسن، الذي كان على وشك تسلم رئاسة هيئة الأركان العامة بدعم مباشر من القيادة الروسية.
بطبيعة الحال، كانت إيران على أهبة الاستعداد لملء الفراغ الروسي، سواء على الصعيد الاقتصادي الذي كثفت من نشاطها فيه، فأعادت الخط الائتماني الذي يتم عبره تزويد النظام بالمشتقات النفطية.. أو على صعيد الانتشار العسكري، وزيادة أعداد مليشياتها ونقاط تمركزها على الأراضي السورية، وسار هذا التطور بالتوازي مع دعم إيران لروسيا في حربها، إذ زودتها بالطائرات المسيّرة والصواريخ والمستشارين والفنيين.
هذه التطورات كلها، على الصعيد الإيراني، استجلبت تطوراً مقابلاً على الصعيد الإسرائيلي. فبعدما أبدت تل أبيب حماستها لتزويد أوكرانيا بالأسلحة المتفوقة، عادت وأعلنت امتناعها عن ذلك، بعدما أنجزت تفاهماً ما مع الروس لإطلاق يدها أكثر في سوريا ولتحجيم الحضور الإيراني المتسارع هناك ولجمه عبر تكثيف الضربات الجوية.
أسفر التمدد الإيراني المتسارع على خلفية الانسحاب الروسي، وعلى وقع الحرب الأوكرانية، عن تباطؤ وتريث الدول الساعية إلى التطبيع مع نظام الأسد، والذي يُنظر إليه في كل مكان على أنه استطالة روسية في عمق الشرق الأوسط، إضافة إلى خشية هذه الدول من أن يُحتسب دعمها له نوعاً من الدعم لبوتين في حربه ضد الغرب، خصوصاً في حال التصعيد الشامل. من ناحية أخرى، كانت ذريعة غالبية الدول العربية في مساعيها للتطبيع، هي استعادة سوريا من الحضن الإيراني، لكن الوقائع التي فرضتها الحرب الأوكرانية زادت من ارتماء النظام في ذلك الحضن على نحو لا يمكن نكرانه. وعلى خلفية هذين العامِلين، رفضت الدول العربية المحورية، السعودية ومصر وقطر، حضور نظام الأسد للقمة العربية في الجزائر، وهو مؤشر واضح إلى فشل مساعي تعويم النظام عربياً في هذه المرحلة على الأقل.
في المدى الأوسع، غيّرت الحرب الروسية على أوكرانيا أيضاً، الطريقة التي تتعاطى بها دول عديدة في العالم، لا سيما في الغرب، مع الحرب في سوريا. إذ لم يعد في الإمكان إغماض العين عن الانتهاكات الجسيمة التي ما زالت تُرتكب في سوريا، مع تضخيم ما يحدث في أوكرانيا، مع أنه لا مقارنة في حجم التدمير والخراب بين البلدين. وأعاد تهديد روسيا باستخدام أسلحة التدمير الشامل، مثل الأسلحة النووية والكيمياوية، تذكير المنظومة الدولية باستخدام نظام الأسد للأسلحة الكيمياوية والغطاء الذي منحته له موسكو لتمرير الجريمة.
لكن من ناحية أخرى، فإن الحرب الأوكرانية سمحت بإشاحة الأنظار دولياً عن القضية السورية، وتراجع الاهتمام بها، ليقتصر على الدول الثلاث المهيمنة وهي روسيا وتركيا وإيران، وهو ما يحاول النظام استغلاله لإدارة الملف السوري بعزلة عن سياقه الدولي، وإجراء نوع من المقايضات وتبادل المصالح بين هذه الأطراف الثلاثة، وعلى رأسها تركيا التي تبدو قيادتها مفتوحة الشهية لاستغلال هذه الفرصة أيضاً. لكن محاولة عزل السياق السوري هذا، عن السياق الدولي، يهددها التطور الواقعي الذي سيبقى عصياً عن الحل في المدى المنظور، وهو التدافع الإسرائيلي الإيراني في سوريا، المتصاعد على خلفية الحرب الأوكرانية، والذي قد ينفجر في أي لحظة ليخلط الأوراق جميعها. ويهددها أيضاً الانهيار الشامل في منظومة نظام الأسد، الاقتصادية والأمنية، إذ بدأ يرسل نذره على شكل سفن لاجئين تتجه إلى أوروبا على نحو متزايد.
المصدر: المدن