جسر – صحافة
عبد الناصر العايد
مع مرور شهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، فإن اللحظة التي يمكن لبوتين أن يعلن فيها انتصاره، قد فاتت. لكنه، بسبب طبيعته كديكتاتور، ونوعية الحكم الذي يقوده، فإنه سيرى في التراجع أو الاعتراف بالهزيمة نوعاً من الإذلال الشخصي. وفي هذا المأزق لديه واحد من خيارين، إما الصراع بالوسائل التقليدية حتى الاضمحلال، أو تفجير سلاح تدمير شامل، ليجبر خصومه الغربيين على إيجاد مخرج له.
لم يخطئ بوتين في توقعاته بشأن المقاومة الأوكرانية فحسب، بل يبدو أنه بالغ في آماله من جيشه الذي لم يستطع تنفيذ ضربة صاعقة، وفق التوصيف الأوّلي للغزو بأنه عملية “خاصة”، وهذه، في العلوم العسكرية، تعني هجوماً خاطفاً بهدف وحيد محدد. وكان من الوضح هنا أن العملية الخاصة كانت تستهدف العاصمة كييف، أي الرموز السيادية للدولة الأوكرانية، أما الحشود الأخرى في الشرق والشمال، فغايتها، كما نخمن، كانت التشتيت، واحتلال البلاد لاحقاً من دون قتال، بعد أن تسقط بسبب هروب الحكومة. لكن هذا لم يحدث، فقد تشعبت المهمة في كل اتجاه، وفشلت على المحاور كافة. وبمرور الوقت، سيعاني الجيش الروسي إنهاك المعنويات والشلل في أقدامه الثقيلة، وهو ما بدأ يتكشف منذ الآن، من خلال المشاكل اللوجستية، كنقص الوقود والغذاء. فليس من المعقول أن يعاني جيش دولة كبرى، نقصاً في طعام الإعاشة بعد أسبوعين فقط على بدء معركة خطط لها منذ شهور، لتبادر قيادته إلى طلب وجبات جاهزة من الصين!
الأسوأ بالنسبة إلى بوتين، أن الحرب والاضطرابات الاقتصادية غير المسبوقة بسبب العقوبات، قد تكشف أن نكبته الحقيقية ليست في جيشه، ولا في قراره بشن الحرب، بل ستأتي من الأوليغارشية التي انتقاها، ومن صفوف الشعب الروسي. فمن الشائع تاريخياً أن شن الغزو الخارجي غير المبرر، غالباً ما يشير إلى أزمة داخلية صامتة، سببها الأساس أن القرارات تصدر عن أهواء رجل واحد، هو الديكتاتور.
مع ذلك، يتقدم الروس عسكرياً، لكن ببطء. وللبطء ضريبة أيضاً. فالشهر الذي مرّ، هو الوقت المطلوب ليستوعب المقاومون صدمة القتال، وهي من المسائل العسكرية المهمة جداً. فالقذائف والانفجارات الأولى تثير الذعر وتدفع الناس إلى الفرار، لا سيما بالنسبة للسكان المدنيين. لكنهم سرعان ما يألفون ذلك، وتنشأ حالة الصمود، تليها مرحلة تنظيم الصفوف، ثم تأتي فنون المقاومة والتكتيكات المبتكرة التي تشبه شِركاً يقع فيه أي جيش نظامي، ولا يخرج منه إلا بعد أن تتحول تلك القوات النظامية إلى أساليب حرب العصابات بدورها.
داعمو المقاومة الأوكرانية من الدول الغربية بدورهم، صاروا أكثر فاعلية في استجابتهم، بعدما عرفوا الاحتياجات بشكل دقيق، وفتحوا القنوات الملائمة لإيصالها، والأهم لإخفائها. ومن الواضح جداً أن دول حلف الناتو، اتخذت قرارها بتجنب المواجهة المباشرة والخوض في حرب تقليدية، وهي انغمست في حرب هجينة طويلة الأمد، تتمثل مبدئياً في سكب كميات هائلة من أسلحة حرب العصابات متوسطة المدى، مثل صواريخ جافلين وستينغر وغيرها، وتستعد من طرف آخر لحرب أخرى غير تقليدية بأسلحة الدمار الشامل، قد يجبرها بوتين على خوضها.
المراقبة الإعلامية والحقوقية الدقيقة لميدان الصراع أيضاً، ستثقل بوتين بالاتهامات، ورغم حذره الشديد، إلا أن استخدام الأسلحة بكثافة في المناطق المدنية يكتنف مخاطر عالية يصعب حسابها أو تلافيها مسبقاً، ولا أحد يعرف موعد نشر فيديو أو أكثر يكشف عن وحشية غير مسبوقة تنزع الشرعية عن كل مزاعمه وتضعه مع جيشه في خانة المجرم المدان بشكل كامل.
إن التنبؤ بمسارات الحروب بشكل دقيق، غير ممكن، لكن التكهن بمآلها النهائي وارد. الصراع الحالي في الساحة الأوكرانية، يبدو في المحصلة صداماً بين مدرستين فكريتين، هما: النمط الديموقراطي الغربي، والآخر الاستبدادي الفردي-بمعنى حكم الرجل الواحد، والنتيجة تبدو محسومة في نهاية المطاف، لصالح المعسكر الغربي. فحرب العصابات المحتملة، والتي ستتوسع أكثر فأكثر مع احتلال بوتين لمزيد من الأرض الأوكرانية، وانتشار قواته هناك، ستلحق بجيشه خسائر تراكمية على النحو الذي طاول جيش الاتحاد السوفياتي، أو حتى الجيش الفرنسي الذي غزا موسكو ذات يوم من أيام الحلم الامبراطوري النابليوني. ومن ناحية أخرى، ستلحق العقوبات أضراراً تتزايد مع مرور الوقت، وتتراكم بدورها، على نحو يشبه عملية عكس الغزو، لنقل المعركة إلى الأرض الروسية، لكن بوسائل اقتصادية. وحتى لو أن حكم الأوليغارشية في موسكو لم يكن يعاني مشاكل وتناقضات داخلية، فإن تلك ستنشأ على خلفية هذا الضغط المزدوج، وقد يلجأ بوتين إلى العنف الداخلي، كما لجأ إلى العنف الخارجي، فيما لو شعر بأن السلطة الداخلية تتسرب من بين أصابعه، وربما يتخذ قرارات أكثر لا عقلانية، ويمعن في الهرب إلى الأمام، إلى حين الاصطدام بالجدار.
لعل بوتين يغامر بمحاولة الخروج من هذه الوضعية المحتملة، بالتلويح بحرب نووية شاملة، لإجبار خصومه الغربيين على منحه انتصاراً، ولو رمزياً، وقد يحدث أن يمنحوه ذلك، لكنهم سيستمرون في تقويضه من الأسفل على الصعيد الواقعي. فالغرب لن يستعيد علاقته ببوتين مرة أخرى، ولن يثق فيه، تحت أي ظرف كان. لذلك فإن مسار تسلح أوروبا، الذي انطلق، لن يتوقف، حتى لو توقفت الحرب في أوكرانيا اليوم. وهذا في حد ذاته، يعني أن روسيا ستصبح أضعف فأضعف في المستقبل، سواء رضيت بموقعها في ترتيب القوى العالمية، كقوة إقليمية كبيرة، أو تمردت وانطلقت في سباق تسلح خاسر مسبقاً مع الاتحاد الأوروبي الذي يفوقها عشر مرات على الأقل بالناتج القومي الإجمالي، وأربع مرات على الأقل بعدد السكان.
المصدر: موقع المدن