بقلم جهاد رمضان
“فرحان” طفل شقي و مرح ، لا يسلم من مقالبه إنسان و لا الطير و لا حيوان، في الصف يسطو على أصابع الطباشير، و يجعل منها حجارة لضرب فتيان الحارة، هذا إذا لم يستهلكها كلها في رسم أحلامه الكثيرة في أزقة الحارة، و ضرب رفاقه التلاميذ و معلم الصف الاستاذ “أمير” ، و حتى الآذن الطيب القلب “أبو اسماعيل” على سبيل المزاح الطفولي البريئ .
في يوم من أيام نحوسه، ضربه الاستاذ أمير في الصف و صادر منه الطباشير، و أطعمه “فلقة” ساخنة من تحت “الدست” ، جعلته ينسى حليب أمه ، و يتذكر جراح كرامته المكلومة من زمان بعيد .
فرحان مقهور جداً و زعلان، لم ينم ليلتها لأنه عوقب ظلماً بغير ذنب، صحيح انه سرق يومها الطباشير، لكن من أجل الرسم لا الضرب ، غضب فرحان و صار دمه يغلي و يفور، سهر الليل بطوله حتى طلوع الفجر ، و قبل موعد الدوام في المدرسة بساعات ، وجد نفسه يتسلق السور، دخل الباحة و غرفة الدرس، سرق كمشة طبشور، و عاد يكتب على سور المدرسة من الخارج بخط مائل و مكسور :
( أجا دورك يا استاذ، و ستشرب من نفس الكاس )
بعد كتابة تلك الجملة سقطت “هيبة” الاستاذ أمير ، و انطفأت نار الغضب في قلب فرحان، و انطفأت شعلة روحه في سرداب مظلم خلف الجدران ، و أشعلت في البلاد حرائق و نيران لم تنطفئ حتى الآن ..
فرحان كبر قليلاً الآن و تطورت الطبشورة ، صار شاباً يتخفّى تحت اسم “الرجل البخاخ” ليتفادى الوشاة و البصّاصين و الأشباح، يخفي وجهه بالكوفية العربية مثل الفدائية بحيث لا يظهر منه سوى العينان ، و يتسلح بعلب الطلاء ( الطباشير النفاث ) البخاخ ، و يمضي تحت جنح الليل، و أحياناً في “نور” النهار لتنفيذ العملية بسرعة خاطفة ، لا يترك جداراً، أو حائط مدرسة أو مؤسسة أو بناية أو حديقة إلاّ و كتب عليها بطلاء البخاخ السريع الجفاف :
( البلد بدها حرية ) (يسقط الطغاة و الحرامية )
كان الرجل البخّاخ يظهر و يختفي فجأة و بسرعة كما يفعل الرجل “الوطواط” أو “سوبرمان” في الأفلام، كانت شوارع العاصمة مسرح الأحداث و ميدان القتال بالنسبة له ، بعدها شوهد في مدينة مُحاصرة في الشمال، و قيل شوهد في المدينة الشرقية قرب الحدود الصحراوية، و بعد أن اغتاله الحرس الوطني، و شعشع “نور” الرجل البخاخ في سماء البلاد، قيل بأنه شوهد في اليمن السعيد يكتب غدها الجديد، و قيل شوهد في الجزائر و السودان، بل قيل بلا تأكيد شوهد نور مع أصحاب “السترات الصفراء” في قلب باريس عاصمة النور .
كبر فرحان أكثر و صار مجموعة رجال، و الطبشورة صارت ريشة تلوين و أقلام “شنيار” و علبة دهان، و السبورة تحولت إلى كرتونة و قطعة قماش، يجتمع الرجال في “خيمة الفرسان” أو كهف أو غرفة محصنة تحت الأرض أيام القصف ، يتناقشون و يفكرون في “حكمة” الجمعة و الخطب الاسبوعي “الجلل” ، و يخرجون بأروع الكلام و العبر و الصور في “اللافتات” و الكرتونات ، لم يكن هذا العمل الجماعي “رائد” الضمائر الحية في البلاد فحسب ، بل فتحاً مبيناً في عالم “الإعلام” و فن الاحتجاج ، و كان سلاحاً فعالاً أثبت قوة الكلمة و الصورة ضد الظلم أينما كان ، صحيح ان لافتات فرحان لم يكتبها شاعر يحسن التعبير بالكلمة كما في “لافتات أحمد مطر” الشاعر المشهور ، لكنها مكتوبة بضمير إنسان حر مقهور، رفض أن يكون سجاناً في “السلك” و سلك طريق خدمة الشعب في القول و الفعل، و صحيح أن فرحان ليس بشهرة شاعر اللافتات، لكن لافتاته اشتهرت في كل البلاد من الشمال إلى أقصى الجنوب، و من الشرق إلى البحر في الغرب، بل تجاوزت شهرتها ما وراء البحر حتى بلاد العم سام ، و صارت تعرف باسم ” لافتات كفرنبل ” .
أسقطت لافتات ضيعة فرحان كل شيء، أسقطت الموالاة و المعارضة، و الأمة الإسلامية و العربية، و مجلس الأمن و العالم، و كل الضمائر الميتة.
لافتات ضيعة فرحان أفرحت قلوبنا، و أسقطت خوفنا من الدولة الخائفة، و قالت الحق :
( واحد، واحد، واحد.. شعب بلادي واحد)
لم تسقط لافتات ضيعة فرحان بسقوطه شهيداً مع رفيقه في الميدان، لم يسقط الشاهد الشهيد الحي على قوى الظلام، ففي اغتياله انكشفت وجوه خفافيش الظلام، و سقطت أقنعة الطواغيت .
لافتات ضيعة فرحان لم تسقط ، بل أسقطت ورقة التوت الأخيرة، و كشفت عورة الاستاذ “أمير” الجبان …
فرحان يكتب بالصوت الآن، و بيده مكبر صوت أو ميكروفون نقال، يغني في وسط العصاة في مدينة تتوسط البلاد على نهر العاصي ، ينشد أرجوزته المشهورة :
(يا أمير و يا كذاب، الحرية صارت عالباب ، ياالله ارحل يا غدار)
( يا أمير و يا خوّان و يا عميل الامريكان، ياالله ارحل يا جزار )
.. أردوه قتيلاً، و اقتلعوا حنجرته، و رموا بجثته في نهر العاصي، و كلما دارت نواعير حماة يسمعها الناس تنشد بصوت “القاشوش” المكلوم :
( بس اسمعوني يا شباب… ارحل يا غدار )
في مدينة شقيقة على نهر العاصي، الصديقة اللدودة للجارة الحموية ، ظهر فرحان آخر جديد كان يحمل مكبر الصوت الذي سقط من يد فرحان الشهيد في ساحة العاصي ، كان يحرس كرامة أهله في المدينة المحاصرة كما يحرس شباك مرمى “فريق الكرامة” للناشئين، إلتقط مكبر الصوت بعزم و ثبات كما يلتقط كرة القدم، و أمسكه بقوة و لهفة المحب، و أخذ يغني في وسط المحاصرين :
يا يما ، بتوب جديد زفيني..
جيتك شهيد يا يمه يا يما
جيتك شهيد و بتوب العيد، يا يما
مات فرحان اليوم في الثامن من حزيران ٢٠١٩ شهيداً كما أراد و غنى ، فلروحه السلام يوم يولد “الساروت” و لا يموت بل يبعث حيّا..
مات فرحان المتعدد الوجوه و الجسد ، و عاش صوته و كلمته و طبشورته للأبد ، فهذه الأرض ستنجب ألف فرحان، و ها نحن نسمع صوته الآن :
(جنة، جنة، جنة.. ترابك يا وطنّا )