انقسم المجتمع الفقهي الإسلامي في تركيا قسمين بعد تصريحاتِ البروفسور المتخصّص في تفسير القرآن مصطفى أوزتورك المثيرةِ للجدلِ، واستقالته لاحقاً من إحدى جامعات إسطنبول، وتناول موقع “قنطرة” للحوار مع العالم الإسلامي الحدث في تقرير، نُشر مؤخراً.
بينما يجادلُ البعض بأنّ تصريحات “أوزتورك” ينبغي أن تُعتّبرَ حريةً أكاديميةً، اتّهمه البعض الآخر باستحداث دين جديد، حتى أنهم شكّكوا في قدراته كخبير ديني. ويتهمُ الطرف الأولُ الطرف الثاني بتأسيسِ نوعٍ من محاكمِ التفتيشِ الإسلاميةِ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي، بينما يتهمُ الطرف الثاني الطرف الأولَ بدعمِ وتشجيعِ الارتداد عن الدين.
بأفكاره غير المتشدّدةِ، شكّل أوزتورك شخصيةً مثيرةً للجدلِ داخل المجتمعِ وأوساطِ المعرفةِ لفترةٍ طويلةٍ من الزمنِ. وقد تعرّض لإساءاتٍ لفظيةٍ وحتى لتهديداتٍ بالقتلِ في الماضي. وفي 2 كانون الأول/ديسمبر (2020)، استقال مصطفى أوزتورك من كليةِ الإلهيات في جامعة مرمرة بعد حملةٍ كبيرةٍ ضده مؤخراً. وقد قبلت الجامعةُ استقالته مباشرةً؛ ثم بدأت في إزالةِ كل ما يمكن أن يشيرَ إلى وجوده فيها.
ولا تشكّلُ أفكارُ أوزتورك حول كيفيةِ نزولِ القرآن على محمد موضوعَ نقاشٍ جديدٍ بين العلماء المسلمين. فالفيلسوفُ والعلامةُ ابن سينا كان أولَ من وضع أُسس طريقةِ التفكيرِ التي لا يزال يتبعها ويناقشها أوزتورك والعديد من العلماء الآخرين اليوم.
وبخلاف المقاربةِ التقليديةِ، فهم يشيرون إلى أنّ جوهر القرآن إلهي ومن الله، بيد أنّ خطابه من النبي محمد. وهذا نقاشٌ فلسفي للغايةِ ولا يمكن عملياً لغير المختصين بالفقه فهمه.
وحين طلب موقع قنطرة من البروفسور أن يشرح هذا الأمر بأبسط ما يمكن، قال أوزتورك: “لدينا مفهومُ الحب. إنّ الله يمنحُ الحبَ للناسِ. ولكن أحياناً يعبّر الناس عن هذا الحبِ بالشعاراتِ وأحياناً أخرى بالقصائدِ. فهم يصوغون جُملاً تُظهِرُ هذا الحبَّ. فمصدر الحب هو الله، بيدَ أنّ الطريقةَ التي يعكسُ بها الشخص هذا الحب تعتمدُ على حالته العاطفيةِ في تلك اللحظةِ، وخبراته الحياتية وحوافزه. وكما أنّ مصدر الحب هو الله، كذلك فإنّ الوحي قد نزل على النبي محمد من دون أدنى شك”.
ووفقاً لأوزتورك فإنّ التفكيرَ بهذه الطريقة يساعدُ في حلِّ بعض المشاكلِ التاريخيةِ مثل مفهوم العبوديةِ في القرآن.
ففي تعليقٍ لأوزتورك في حوار سابق مع موقع قنطرة قال: “إنْ أخذنا العبودية، التي ورد ذكرها في القرآن، على سبيل المثال: فإن فكّرنا كما يفكّرُ التقليديون، فيمكننا أن نؤكد أنه لا يمكن إلغاء العبودية لأن الله قد ذكرها في القرآن. ومع ذلك فإنّ العبودية ليست معياراً عالمياً. آنذاك، لم يكن من الممكن إلغاؤها. بيد أنّ الدين اقترح أنسنةً للنظام وتنظيمه فحسب”.
وقد تعرّضَ أوزتورك أساساً للهجومِ في عام 2019. حتى أنّه فكّر بالسفرِ باضطرار ذاتيّ إلى منفى ما، بيد أنّه لم يفعل ذلك.
“هذه المرة، أنا متعبٌ لدرجةِ أنني لا أقوى على مجابهتهم”
بدأت الحملةُ الأخيرةُ ضده حين انتشرَ مقطع فيديو له، يعود لسنتين مضت، على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي في بدايةِ كانون الأول/ديسمبر (2020). ويظهرُ أوزتورك في مقطعِ الفيديو وهو يتحدثُ مع أصدقائه ويحاولُ أن يشرحَ أفكاره. ويقولُ بعض النقّادِ إنّ ذلك قد حدث بطريقةٍ غريبةٍ.
فهاشتاغ MustafaOzturkİhraçEdilsin# (فَلْيُطْرَدْ مصطفى أوزتورك) سرعان ما أصبح من المواضيعِ الأكثر رواجاً على تويتر، وبقي كذلك لفترةٍ طويلةٍ من الزمنِ. زعمت معظم تغريداتِ الهاشتاغ، والذي جمع أكثر من 44 ألف تغريدة، أنّ أفكاره تجديفية وأنه لا ينبغي أن يكون على جدولِ رواتبِ الدولةِ بوصفه أكاديمياً في جامعةٍ حكوميةٍ.
وفي الهاشتاغ إشارة إلى طردِ أكثر من 125 ألف موظف مدني، أغلبهم من قواتِ الشرطة والجيش ومن الأوساطِ الأكاديميةِ، من مناصبهم في أعقابِ محاولةِ الانقلابِ في عام 2016 في تركيا.
شِرْك أم حرية تعبير في الأوساطِ الأكاديميةِ؟
ومن بين هذه التغريدات تغريدةٌ لأحمد محمود أونلو، المعروف باسم جُبِّلي أحمد حُجَّة. وأونلو أحد أبرز قيادات جماعة إسلامية في تركيا على الرغم من أنه لم يكمل سوى تعليمه المدرسي الإعدادي.
وحتى أنه اشتُهِر بنصحه أتباعه بشراءِ نوعٍ معينٍ من الأسمنتِ، قال بأنه سيحمي المدفون تحت الأرضِ من جهنم. وقد شارك متابعوه على تويتر، الذين يزيدُ عددهم عن 306 ألف متابعٍ، في الحملة على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي ضد أوزتورك. وفي تغريدته، زعم جُبِّلي أنّ مطلب طردِ أوزتورك هو “مطلبُ الملايين”، بيد أنّ كل ما فعله متابعو جُبِّلي هو إعادة نشرِ تغريدته أو نشر رسائل مشابهة فحسب. وسرعانَ ما انتقلت القضيةُ من تويتر إلى وسائلِ الإعلامِ التقليديةِ، ولم تتردد وسائل الإعلام المواليةِ للحكومةِ في تصعيدِ العداءِ ضد أوزتورك.
يقول أوزتورك: “إنها ليست المرة الأولى التي أتعرضُ فيها للهجوم. بيد أن الأمر بقي على وسائل التواصلِ الاجتماعي لبضعِ ساعاتٍ فحسب. أما هذه المرة فقد اشتركت وسائلُ الإعلامِ الرئيسيةِ بالموضوعِ. وتصدّرَ العنوانُ “بروفيسورُ مَن هذا؟” وسائلَ الإعلام الرئيسية. لقد كان الأمرُ مختلفاً عن الهجمات التي تعرضتُ لها سابقاً وجعلني الأمرُ أفكّرُ أنّ وراء هذه الحملةِ إرادة سياسية”.
وبعض الذين انتقدوه وهاجموه أشاروا إلى مقالٍ كتبه في صحيفةِ “قرار” (Karar)، التي يُعتقدُ أنها مرتبطة بالحركةِ السياسيةِ لأحمد داوو أوغلو وحزبه، رئيس الوزراء التركي السابق الذي انشقّ عن حزب العدالةِ والتنميةِ الحاكمِ ليؤسّس لاحقاً حزبه الخاص.
كما أنّ غالبية التغريدات التي نُشِرت ضده، بما فيها تغريدات جُبِّلي، زعمت أنّ أورتورك يسمّمُ طلابَ الإلهياتِ.
ويتابعُ أوزتورك: “يتم تعليم أمور تتعلقُ بأساسِ الأديانِ. وهذا يعني أنه يوجدُ عقائد هنا، ولكن يوجدُ أيضاً تفسيرات مختلفة. في الجامعةِ المرءُ ملزمٌ بتعليمِ هذه التفسيرات. لكن من يقرّرُ ما هو السُّم؟ من الواضحِ أنّ من يقرر ذلك هم من يملكون القوةَ. وهذه القوة تقودنا إلى محاكمِ التفتيشِ”.
وقد وصف بعض الأكاديميين الهجمات ضدّ أوزتورك بوصفها محاكم تفتيش، مثل البروفيسور في كلية الشريعةِ وأصول الدين في جامعة هيتيت، محمد عزيملي.
إذ قال عزيملي للنسخة التركية من صحيفة الإندبندنت: “عندما يتحدثُ العلماء، تستمعُ إليهم، إذا لم تتفق معهم، يمكنك ببساطةٍ أن تنقضَ حجتهم. المنتقدون لم يستمعوا إلى ما قاله أوزتورك لا في البدايةِ ولا في النهايةِ. فالأمور التي قالها ليست حتى أفكاره الخاصة، هي أمورٌ قيلت في الإسلام. وفي الإسلام، يوجد مبدأ النقض. فأنت تستمعُ إلى ما يُقال، وإن لم يعجبك ما تسمعه، بكل بساطة تكتب رأيك بوصفه نقضاً”.
كما شارك مفكرٌ إسلامي بارز آخر في النقاش على تويتر، إذ قالَ مصطفى إسلام أوغلو إنه لا يتفق مع مصطفى أوزتورك في العديدِ من القضايا، بيد أنه يدافعُ عن حقه في حريةِ التعبير.
بيد أنّ هذا الدعم الهائل لم يمنع أوزتورك من مغادرةِ الأوساطِ الأكاديميةِ. رغم قوله إنّ عدد الذين دافعوا عنه وعن حقه في حريةِ التعبيرِ فاق عدد الذين شنّوا حملة التشهيرِ ضده. بيد أنّ الطيبةَ، وفقاً لأوزتورك، قد لا تملك القدرة أحياناً على إيقافِ “الشرِ المنظّمِ”.
وحين سُئِل أوزتورك عن التأثيرِ المحتملِ لتقاعده من الجامعةِ -المفروض بحكم الأمر الواقع- على طلابه قال إنّ ذلك قد يكون مصدراً لتثبيطِ العزيمةِ.
ولكنه أضاف أنه قد ضاق ذرعاً: “هذا يكفي. أنا إنسانٌ من لحمٍ ودم. قد أبدأ بصيدِ السمكِ”.
المصدر: قنطرة