عبد الناصر العايد
في الفكر السياسي، يتم التعامل مع القضية على أنها مفهوم يتعلق بالوطن ووجوده، فيما يتعلق مصطلح المسألة بالدولة، أي نظام الحكم وأسسه من حيث وجودها وعدمها، أما المشكلة فتتعلق بالحكم وتستخدم عادة لتحديد المعضلات التي تواجه دولة أو نظام حكم ما عند إدارته لشؤون البلاد. بالنسبة إلينا كسوريين، لدينا مسألة، أي حاجة إلى إيجاد نظام حكم يجعل من بلادنا دولة حقيقية، وهذه يجب ألا تُضخم لتصبح قضية. فوجود الوطن، كأرض وشعب، ليس محل تشكيك أو خلاف، كما لا يجوز خفضها لتصبح محض مشكلات في النظام الحالي يمكن تلافيها ببعض الإصلاحات والتعديلات. فمَن يحكم سوريا، لا يرقى لمستوى نظام حكم، لأن لا أسس شرعية له، والدليل على ذلك هو الرفض الشعبي شبه الكامل الذي أدى إلى انتفاضة وحرب داخلية عنيفة مستمرة منذ أكثر من عقد من الزمان، وهي الحرب التي لن تضع اوزارها ولن تتراجع دوافعها ما لم يعالج جوهرها. وهذا يبدأ بتحديد “المسألة” بشكل واضح، وتخليصها من الالتباسات العالقة بها هنا وهناك، أو التي تلصق بها لمصلحة هذا الطرف أو ذاك.
يُنظر إلى القضية عادة على أنها موضوع للجدل والنقاش ووجهات النظر المتعددة، غير القابلة للحسم النهائي. وفي السياق الذي نحن بصدده قد يكون مثال القضية الفلسطينية أو القضية الكردية هما الأكثر وضوحاً. وفي القضية، يتأجل البحث عن حل، ويتركز الجهد حول إثبات صحة وجهة النظر هذه أو صواب تلك، ومن هنا يُنظر ضمنياً إلى كل قضية على أنها غير قابلة للحل أصلاً، لكنها لا تنتهي أيضاً، وتستبطن أطرافها كافة، قناعة ضمنية بأنها موضوع نضال دوري تتوارثه الأجيال التي يجب أن تكرر، بطريقة طقسية، موقفها في مناسبات موقوتة لإحياء ذكراها وإعلان التشبث بها، وهو ما يُعدّ كافياً بالنسبة لمعتنقيها ويغنيهم عن البحث في أي إجراء عملي لحلها. وهذه هي الحالة التي توحي بها القضية السورية اليوم بالنسبة لأي مراقب خارجي، فهي تراوح في المكان ذاته وستبقى حيث هي زمناً طويلاً، بل يبدو أن أشخاصاً من الموكلين بحلها بدأت تلك القناعة تتسرب إليهم، وهذا ما تعكسه التصريحات الأخيرة لمبعوث الأمين العام للأمم المتحدة، غير بيدرسون، الذي بدأ الحديث عما يشبه استحالة التوصل إلى حل سياسي للقضية السورية بسبب تعقدها وتشابك مصالح الأطراف المتدخلة فيها.
إن تحول المسألة السورية إلى قضية يخدم بلا شك أهداف كل الأطراف المستفيدة من تفكيك سوريا، أو بقائها أرضاً غفل، لا دولة فيها ولا إرادة مستقلة لشعبها. وهذه الأطراف تتدرج من الجماعات العابرة للحدود، كالتنظيمات الجهادية التي تعلن صراحة عدم اعترافها بالحدود الوطنية وسعيها لتقويضها، وكحزب العمال الكردستاني الذي يصبو إلى انتزاع جزء من سوريا الآخذة بالتفكك، وصولاً إلى الأطراف الإقليمية والدولية التي تبحث عن أرض خالية من “السيادة” لتقيم عليها مشاريعها، وعلى رأسها إيران.
أما نظام الأسد، فما زال يتمسك بطرح المسألة السورية كمشكلة حكم روتينية، مثل تلك التي يمكن أن تواجهها أي دولة، ودأب على تصوير الثورة السورية على أنها محاولة لإرهابيين قادمين من الخارج لزعزعة الاستقرار والاستيلاء على الحكم، وهو ما لا يمكن التصدي له سوى بالحل الأمني والعسكري العنيف، مع الاعتراف الثانوي بوجود بعض النواقص هنا وهناك مثل الفساد وغيره من أنواع الخلل اليي يمكن أن تعتري أي دولة. كما يعزو قضايا من قبيل لجوء نصف السوريين إلى الخارج، والانهيار الاقتصادي، وتقاسم السيطرة على البلاد مع عدد كبير من القوى العسكرية، ونشوء عدد من الدويلات المتوازية على الأرض السورية، على أنها مؤامرات خارجية، ويبشر كل يوم بانتهائها الوشيك، ويحتفل بانتصاره عليها وإحباطها. إن هذا النهج ليس رعونة سياسية أو سذاجة، بل استراتيجية مدروسة بعناية، وبدأ تنفيذها منذ اليوم الأول للثورة، للتهرب من الاستحقاق الجوهري، ألا وهو مسألة نظام الحكم.
تاريخياً، تتطور مشكلات حكم ما، إذا كان فاسداً أو استبدادياً على نحو غير مقبول، لتصبح مسألة، أي إلى نقض نظام الحكم والبحث عن آخر جديد. لكن عندما تتفاقم المسألة، تتحول إلى قضية، أي إلى سؤال ما إذا كان الوطن ذاته موجوداً أم لا. وهذا، علاوة على كونه مفزعاً بحد ذاته للسوريين، هو نذير شؤم، لأن معناه الانتقال من حالة البحث الحثيث عن إجابة للسؤال المطروح حول شكل الحكم الأمثل، إلى الاكتفاء بالنقاش والجدل إلى ما لا نهاية. وهو الجدل الذي قد تضيع في خضمه البلاد، ويتبدد الشعب أيادي سبأ، حتى يصبح التشكيك معقولاً أصلاً، وله مبرراته الواقعية المنطقية، وهذا ما لم يعد مستبعداً في الحالة السورية. ففي نظرة سريعة إلى الواقع، سنجد أننا نمضي قدماً في العشرية الثانية للثورة السورية، وليس من ضوء في الأفق يشير إلى إمكانية بلوغ حلّ في السنوات المقبلة، ومن غير المستبعد، إذا استمرت الأوضاع الحالية، وهي تبدو مستقرة، أن يستمر الجمود عشر أو عشرين سنة أخرى.. فأي معنى للوطن يبقى بعد اضمحلاله واقعياً لأكثر من ربع قرن؟
ما زلنا اليوم في حدود المسألة السورية، وهي إيجاد نظام حكم شرعي ومقبول بالحدود الدنيا من كافة الأطراف الاجتماعية في البلاد، وهي مسألة قابلة للحل بالتفاوض. وإن لم نركز عملنا السياسي كسوريين، في هذا المستوى الاجرائي، ونبحث فيه بجديّة وعقلانية، فإننا سنفقد وطننا العالق حالياً بين التنظير والجدل البيزنطي الذي يوائم مفهوم القضية، والعنف الذي يعتقد نظام الأسد أنه يستطيع عبره حلّ مشكلات الحكم.
المصدر: المدن