ماريون دواليه وفيليكس ليغران
بعد أن أصابها الوهن إبّان تولي حزب البعث مقاليد الحكم ثم مع بدء الحرب، تستعيد القبائل نفوذها في سوريا. حيث تسمح البنى القبلية بالسيطرة على السكان، في الوقت الذي تفقد فيه أطراف الصراع الأخرى قوّتها. وفي نطاق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، أصبح لشيوخ القبائل من الآن فصاعدًا حضورٌ قوي. لكن الوضع لا يخلو من صعوبات عملية وسياسية.
لم يُسلّط الضوء كثيرًا على دور القبائل في الصراع السوري. فمن ناحيةٍ أيديولوجية، يُنظَر إلى القبلية بوصفها عائقًا أمام المشاريع الاجتماعية لغالبية أطراف الصراع الأخرى (سواء أكانت مشاريع حزب البعث القومية العربية، أو مشاريع الجماعات الإسلامية والجهادية التي خرجت من رحم الثورة، أو مشاريع الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني1). ولكن في سياقٍ يتّسم بانهيار مؤسسات الدولة والتنافس بين الجماعات المسلّحة، أصبحت القبائل أداةً أساسية لحشد وتعبئة المواطنين وإحكام السيطرة عليهم.
إذا ما نظرنا إلى منطقة وادي الفرات على وجه التحديد، يمكن أن نفهم كيف تم تغيير البنى القبلية واستغلالها، وكيف لعبت دورًا رئيسيًا في تطوّر الصراع. حيث فقدت القبائل مكانها في مركز التفاعل، وحل محلّها الصراع بين القوى المتمرّدة، وما تلاه من مواجهات وحروب نفوذ دائرة حتى اليوم بين تنظيم الدولة الإسلامية والقوات الكردية والنظام السوري والميليشيات المدعومة من تركيا.
البعث، وصناعة قبلية بلا قائد
على مدار عقود من حكم البعث، وأثناء تبلور الحراك الثوري السوري، تم تفتيت البنى الهرمية القبلية وإضعافها عمدًا. َتتنظّم قبائل الشرق الأدنى مثل دمى روسية. تنقسم التجمعات القبلية الكبرى إلى قبائل وعشائر رئيسية وفروع (أفخاذ وبطون). وفي الرقة، ينحدر غالبية السكان من قبيلة البوشعبان، التي تنقسم بدورها إلى عدة عشائر، أهمها عشيرة العفادلة. وتنقسم تلك الأخيرة إلى ستة أفخاذ، يُضاف إليها فخذٌ سابع حديث النشأة. وتقوم البنية الهرمية القبلية على نظام قيادة مُركَّب يتمثّل في شيوخ القبائل. ويُتوارث منصب شياخة القبيلة داخل عائلات بعينها (بيت المشيخة) وفقًا لنظام معقّد يذكي المنافسة بين أفراد العائلة الواحدة من أجل الفوز بالشياخة.
وقد ساهم وصول حزب البعث إلى السلطة في تقويض سلطة القبائل ببنيتها الهرمية التقليدية على عدة مستويات، إذ جرّد الإصلاح الزراعي شيوخ القبائل من وضعهم الاجتماعي بعد أن كانوا من كبار ملّاك الأراضي، كما وضع النظام الأمني القوي الذي أرساه النظام حدًّا للصراعات القبلية، التي تشكّل جوهر ثقافة الحرب المتأصلة في القبائل. وأخيرًا، أذكى “استزلام” صفوات قبلية جديدة التنافسية داخل القبائل للفوز بالقيادة.
قبيل الانتفاضة الشعبية في عام 2011، كان المشهد القبلي يتسم بنزعة قبلية قوية، ولكن ببنية هرمية متشرذمة وأقل قدرة على الحشد والتعبئة. هكذا لم تكن عوائل الشيوخ على عدة مستويات تمثل بالنسبة لأفراد القبيلة سلطةً سياسية أو اقتصادية أكثر منها وجاهةً اجتماعية وسلطةً معنوية. وإذا كان شيوخ القبائل الرئيسيين يتبوّأون مناصب قد تبدو مرموقة (سفراء أو نوّاب برلمان في دمشق)، لم تكن سوى مناصب شرفية الهدف منهم محاباتهم. في المقابل، كان النظام يعيّن وجهاء الصف الثاني في القبائل في مناصب إدارية وأمنية (لها المزيد من السلطات والصلاحيات)، الأمر الذي خلق توتّرًا بين القيادات التقليدية والقيادات التي وصلت إلى موقعها بفضل انتمائها إلى حزب البعث.
في عام 2011، لم يلجأ النظام سوى نادرًا إلى الاعتماد على شبكاته القبلية من أجل إحباط أو قمع الاحتجاجات. ولم يحُل تدخُّل وجهاء القبائل الضعفاء الموالين للنظام دون اندلاع المظاهرات الحاشدة في بعض المناطق القبلية، من درعا في الجنوب إلى دير الزور، مرورًا بالمناطق الريفية في حمص وحلب.
لعبة تنظيم الدولة الإسلامية
مع تحوّل انتفاضة عام 2011 إلى حربٍ أهلية، أدى ظهور جماعات مسلّحة متناحرة منبثقة من حركة التمرّد، إلى إعادة إحياء الخصومات القبلية القديمة. في البداية، نشأ العصيان المسلّح في نطاق شديد المحلّية مع تشكُّل ميليشيات تتبع بشكل أو بآخر الجيش السوري الحر. لكن وصول جماعات خارجية قوية لا تتمتع بقاعدة اجتماعية صلبة (أحرار الشام وجبهة النصرة وتنظيم الدولة الإسلامية) أدى إلى زعزعة التوازنات القبلية في شرق البلاد.
ولعل خير مثال على تلك الظاهرة هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية للقوات المتمرّدة في دير الزور. هذا الانتصار – الذي لم يكن مجرّد غزو عسكري – يمكن أن يُعزى جزئيًا إلى فهم تنظيم الدولة الإسلامية الدقيق للواقع القبلي، واستغلالها للتنافس بين القبائل. حتى صيف 2014، كانت محافظة دير الزور تخضع لسيطرة العديد من الجماعات المتمرّدة، ولم يستطع تنظيم الدولة الإسلامية أن يدخلها، كما لم تستجب القبائل لمحاولات المنظمة التحالف معها. ولكن حين كانت خصمتها جبهة النصرة تستعد للسيطرة على جماعات متمردة أخرى، من خلال اعتمادها شبه حصريًا على قبيلة من مدينة الشحيل، نشأ لدى بعض القبائل المنافِسة إحساس بالخطر، وهو ما دعاها إلى التحالف مع تنظيم الدولة الإسلامية أو التفاوض حول بقائها على الحياد.
من ناحيةٍ أخرى، حاولت المنظمة جاهدة عدم الوقوع في فخ القبلية. وسواءً في دير الزور مع قبيلة البكير، أو مع قبيلة البريج التي سمحت لها بترسيخ وجودها المحلّي في الرقة، نجح تنظيم الدولة الإسلامية في استغلال القبائل التي همّشتها الانتفاضة، مع الحرص على منعها من الاصطفاف كقوةٍ منظَّمة. وبعد احتلالها للأراضي، سعى التنظيم إلى التأكد من عدم استغلال القبائل التي ساندته لموقعها في جهاز التنظيم الأمني لصالح أجندة قبلية. ونادرًا ما تم إقحام وجهاء القبائل في عملية اتخاذ القرار، بل ظل رأيهم استشاريًا.
استراتيجية حزب العمال الكردستاني القبلية
وضع احتلال قوات سوريا الديمقراطية (قسد)2 لوادي الفرات، في إطار حربها على تنظيم الدولة الإسلامية، الحركة الكردية السورية أمام تحدٍّ تمثّل في ضرورة حشد القوات العربية، من أجل السيطرة على الأراضي المعادية لوجودها مسبقًا وتهدئتها. تعيّن إذًا على الأكراد التعامل بمهارة مع المناخ القبلي، حيث تمكنوا من الاستعانة ببعض القبائل المعارضة لوجود التنظيم والقبائل التي كانت تُعتبر حليفًا رئيسيًا له في آن واحد. وقد مكّنهم إدماج تلك القبائل في النظام الأمني الكردي من تفادي أعمال الانتقام الجماعي ودائرة الاستقطاب، التي تمثّل بالنسبة للتنظيم أرضًا خصبة لتجنيد مقاتليها.
عندما انتزعت قسد الرقّة من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2017، ضمّت إليها الكثير من أفراد عشيرة البريج، الذين كانوا يشكّلون أساس قوّات التنظيم المحلية في الرقة. حتى أن بعض مقاتليه من عشيرة البريج شاركوا في مذابح المدنيين الأكراد (من بينهم نساء وأطفال) في كوباني في يونيو/حزيران 2015، وهو حادث لا يزال محفورًا في الذاكرة الجمعية.
أثناء الغزو العسكري لدير الزور في عام 2019، حيث تُعَدّ النزاعات القبلية أكثر عنفًا وتعقيدًا من تلك الموجودة في الرقة، أراد الأكراد تجنيد مقاتلين عرب معادين لتنظيم الدولة الإسلامية مع تجنّب إشعال فتيل الحرب بين القبائل. وهكذا نجحت قسد بسهولة في تجنيد مقاتلين من عشيرة الشعيطات في شرق دير الزور، والتي قُتِل منها ما يقارب الألف على أيدي تنظيم الدولة الإسلامية في 2014. كما عيّنت على رأس المجلس العسكري بدير الزور فردًا من قبيلة البكير المنافسة، والتي ساندت تنظيم الدولة الإسلامية بقوّة. باستعانتها بالشعيطات والبكير معًا، تمكنت القوات الكردية من تلافي الانتقام الجماعي المحتمل من الشعيطات ضد البكير.
دور القبائل في حكم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا
نجحت القوات الكردية بين عامي 2016 و2019 في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية والسيطرة على جزءٍ هام من وادي الفرات، دون مقاومةٍ شعبية كبيرة، رغم افتقارها إلى قاعدة اجتماعية. في هذا السياق، اعتمدت القوات الكردية بشكلٍ أساسي على الرموز القبلية بإدماجها في المجالس المدنية، التي أنشئت قبيل تحرير الأراضي العربية، وكذلك في الأجهزة الأمنية، والتي يلعب فيها قادة القبائل دور الكفيل لأبناء قبيلتهم، فيما يخص إمكانية العودة والإفراج والعفو عن المسجونين، والإدماج في الهياكل المدنية والعسكرية التي أنشأتها قسد.
برغم ذلك كله، سقطت قسد رغمًا عنها في فخ الاستقطاب القبلي في دير الزور. وكما هو الحال مع أطراف الصراع الأخرى، لم تتمكن قسد من مقاومة اجتياح القبلية لمؤسساتها المدنية والعسكرية، مع وجود خطر تماسك بعض الفصائل وإقصاء أخرى، وبالتالي مناصبة الأخيرة العداء لتلك المؤسسات. وتحظى قبيلة البكارة في غرب دير الزور بتمثيل كبير في مؤسسات دير الزور المدنية، بينما تكتسح عشيرتا البكير في الشمال والشعيطات في الغرب المؤسسات العسكرية والأمنية. وتعدّ المنطقة المسمّاة بـ“الوسطى”، والمحاطة بهذه المناطق القبلية الثلاثة التي يستند إليها الأكراد، المنطقة الأكثر خطورة في شمال غربي سوريا3. إذ لا يمتلك الأكراد فيها عمليًّا أي وسطاء محلّيين، ولا يستطيعون تدمير خلايا تنظيم الدولة الإسلامية. بطبيعة الحال، لا يعدّ الاستقطاب القبلي وحده سبب عدم استقرار تلك المنطقة، وإنما يُضاف إليه هيمنة القبائل والعشائر المنافسة لتلك الموجودة في “المنطقة الوسطى” على المؤسسات.
شيوخٌ تكنوقراط
تتجلّى حدود استراتيجية قسد القبلية أيضًا في بناء المؤسسات المدنية. حيث تم إقناع الصفوف الأولى والثانية من القيادات القبلية بالمشاركة في تأسيس الحكم المحلي، ليكونوا بمثابة مرشدين للأكراد في المناطق العربية والقبلية، التي كانت بالنسبة لهم آنذاك مناطق مجهولة.
وقد أدّى تعيين شيوخ القبائل المهمة إلى طمأنة وجذب قبائل أخرى، بينما تم اصطفاء شخصيات متعلمة وقادرة على شغل وظائف إدارية من بين القيادات القبلية، ليكونوا بذلك “شيوخًا تكنوقراط”. وقد أجاد الأكراد عقد التوازنات بين القبائل والعشائر، باتباع نظام التناوب على الرئاسة، وكذلك بمضاعفة الوظائف الرسمية التي غالبًا ما تكون غير جوهرية، حتى يحظى الجميع بفرصةٍ للتمثيل دون المشاركة في الحكم. أعطت تلك الاستراتيجية انطباعًا ظاهريًا بإشراك القبائل في التمثيل المحلّي، ولكن دون تفويض حقيقي للسلطة. حيث اشتهر قادة القبائل بعزوفهم عن السياسة وانقسامهم، وليس من الوارد أن يشكّلوا قوةً سياسية منافسة. في واقع الأمر، تظل أجهزة الحكم المحلي تحت سيطرة المستشارين السياسيين الأكراد، وهو ما يخلق إحباطات وانسحابًا تدريجيًا للقيادات القبلية الممثَّلة فيها بالإضافة إلى الشيوخ التكنوقراط.
في الوقت نفسه، فإن الإشراك المتزايد لكثير من الشخصيات القبلية التي تُعدّ أقل مكانةً في نظر النظام الاجتماعي القبلي، يؤدّي إلى ظهور “شيوخ” انتهازيين، بل وضعفاء في نهاية المطاف، ما يزيد البناء الهرمي القبلي غموضًا وتشرذمًا. وإذا كان الهدف المنشود هو الحد من خطر تحوّل القبائل والعشائر المهمة إلى قوّةٍ معارضة بتعزيز تشرذمها وإذكاء التنافس الداخلي الذي يعتمل داخلها (كما فعل النظام السوري سابقًا)، ستكون النتيجة نفور القيادات التي لا تزال مؤثّرة، والقيادات الأكثر تعليمًا ومهنية، التي شاركت في تأسيس المجالس المدنية.
تآكل الشبكة الأمنية
نشهد إذًا تناقضًا في مكاتب الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا4. فمن ناحية، يتواجد قادة القبائل بشكل كلّي في المجالات التي لم يكن للقبائل مكان فيها من قبل، وهو ما يعدّ توسُّعًا ظاهرًا لمجال عملهم وثقلهم في الإدارة. لكن من ناحيةٍ أخرى، تنفلت السلطة من بين أيديهم باستمرار، ويتناقص ثقلهم الاجتماعي النسبي مع اختيار شخصياتٍ لا تحظى بشرعية، بالإضافة إلى عدم وفاء السلطة بوعودها بتوفير الخدمات للسكان، وهو ما يتهدّد البنية الهرمية القبلية.
بترسيخ وجودها في الأراضي العربية بوادي الفرات، من خلال استراتيجية لا تهدف سوى إلى التهدئة عن طريق استمالة وجهاء القبائل دون إعطائهم سلطة حقيقية، تساهم القوات الكردية في توليد الإحباط والنفور، وهو ما يقود في النهاية إلى خرقٍ تدريجي للشبكة الأمنية التي أثبتت فعاليتها حتى الآن. وفي دير الزور وفي المنطقة الحدودية الصحراوية مع العراق، يتّخذ هذا التآكل في الشبكة الأمنية شكلًا تمرديًّا، يتمثّل في كلٍّ ممارسات المافيا وعودة تنظيم الدولة الإسلامية.
في المقابل، فإن موجة الاحتجاجات التي اندلعت في يوليو/تموز 2021 (إضراب عام وأعمال شغب) فتحت المجال أمام فاعلين جدد أصغر سنًّا، نجحوا في فرض أنفسهم في مجتمعهم القبلي وعلى السلطات الكردية كمحاورين لديهم مطالب سياسية. هذا الشكل من أشكال التسييس، حتى وإن ظل هامشيًّا، قد يستطيع فرض نفسه كعنصر معارضة في النظام السياسي الذي أرساه الأكراد. بالنسبة للقبائل العربية، يكمن الرهان في قدرتها على لعب دور سياسي يتجاوز كلٍّ من التمثيل القبلي الصوري في مؤسسات تخضع لسيطرة الأكراد والتخريب العنيف المدعوم من أطراف الصراع السوري الأخرى.
المصدر: orientxxi