في فنون تعفيش الزلزال

في فنون تعفيش الزلزال

في فنون تعفيش الزلزال

في فنون تعفيش الزلزال

في فنون تعفيش الزلزال

في فنون تعفيش الزلزال

في فنون تعفيش الزلزال

شارك

في فنون تعفيش الزلزال

في فنون تعفيش الزلزال

عمر قدور

يوم الخميس، دخلت أول شحنة مساعدات دولية عبر “باب الهوى” إلى منكوبي الزلزال، وهي أصلاً من ضمن المساعدات الروتينية التي تقدِّمها الأمم المتحدة، وكان وصولها قد تأخر “حسب ما قيل” بسبب رداءة أحوال الطرق جراء الزلزال. من جهته، تفادى الرئيس التركي انتقادات كانت ستوجَّه إليه لاحقاً، فتجاهل كلياً مسؤولية بلاده السياسية والأخلاقية عن مناطق الشمال السوري الخاضعة لنفوذه، والتي كان ينبغي أن تنال حصة من أعمال الإنقاذ التي تقوم بها الطواقم التركية، أو على الأقل إرسال بعض آليات إزالة الأنقاض إلى طواقم الخوذ البيض السورية.

المعارضة التركية، على غرار ما تفعله المعارضة عادة في النظم الديموقراطية، كانت قد أعلنت يوم الاثنين أن الوقت هو لإظهار وحدة الأتراك، وهذا إعلان يحتمل من الوعيد أكثر من الصدق. ولو ذهب جزء من أعمال فرق الإنقاذ أو آلياته إلى الشمال السوري لكانت فرصتها لتنقضّ على غريمها أردوغان، خاصة مع دنو موعد الانتخابات حوالى منتصف أيار المقبل. هكذا، بتعبير سوري دارج، حرمَ أردوغان معارضيه من تعفيش الزلزال على الجهة السورية بأن سبقهم إلى ذلك.

كانت كلمة “تعفيش” قد صارت في حيز التداول عندما راحت قوات الأسد تسرق محتويات البيوت التي تداهمها بحثاً عن “مطلوبين”، ثم راحت لاحقاً تنهب محتويات مدن وبلدات بأكملها بعد اقتحامها. تطورت دلالة “التعفيش” سريعاً، فصار يُقصد به مختلف أنواع السطو المادي والمجازي الذي يقوم به أشخاص أو جهات على حساب أشخاص أو قضية، أو استغلال دنيء لمناسبة ما، لتتوزع تالياً حصيلة التعفيش فتكون المكاسب مادية أحياناً ومعنوية أحياناً أخرى.

في مثالنا السابق نفسه، من المرجَّح أن تتوالى محاولات التعفيش على حساب الأهالي المنكوبين في الشمال السوري، فالأسد سيسعى لتعفيش اللامبالاة التركية تجاههم ليطالب ببسط سيطرته على تلك المناطق. أما الحليف الروسي فسيأخذ “التقصير” التركي والأممي ذريعة لتعفيش المساعدات الدولية الروتينية لتلك المناطق، وسيطالب مع الصيف المقبل بوقف إرسالها عبر تركيا ومن ثم معبر “باب الهوى”، بهدف إرسال المساعدات بأكملها إلى سلطة الأسد، وهو مطلب قديم سيجد سنداً له الآن.

منذ تواردت الأخبار الأولى عن الزلزال، كان أول ما طالب به حلفاء الأسد هو رفع العقوبات عنه، بمعنى أن النية اتجهت فوراً إلى تحقيق مكسب لا علاقة له مباشرة بالكارثة. لم يتحلَّ هؤلاء بقليل من الكياسة ليطالبوا أولاً بمساعدات عاجلة وفرق إنقاذ، وقد أثبت وصول المساعدات من دول حليفة للأسد ودول عربية على قطيعة معه أن الشق الإنساني غير خاضع للعقوبات، بصرف النظر عن رأينا فيها من حيث المبدأ. لقد تفوقت نداءات أنصار الأسد في الداخل والخارج لرفع العقوبات على نداءات المستغيثين لرفع الأنقاض، بينما لم تقصّر حكومته “بلا ضوضاء” في طلب المساعدة من الاتحاد الأوروبي.

طلب المساعدة ليس معيباً بالطبع، وقد طلبها أردوغان من العالم لبلده منذ الساعات الأولى، وطلبها من قبل العديد من قادة الدول التي رغم وفرة إمكانياتها كانت غير كافية لمواجهة كوارث ضخمة. لم يفعلها بشار الأسد، باستثناء ما أشرنا إليه، وترك لمبادرات الحكومات الأجنبية أو العربية أن تكون أرأف بحال المنكوبين تحت سيطرته. من بينهم لا يُستبعد أن تكون تل أبيب قد حاولت تعفيش الزلزال للتطبيع مع جارها، بالحديث عن طلب مساعدة من الأسد، لينكر الأخيرالأمر مطالباً إسرائيل بمساعدة أصدقائها في داعش وغيره من “التنظيمات الإرهابية”، وكأنما لم يسبق للمسؤولين الإسرائيليين أن توالوا على التصريح بتفضيلهم بقاءه في الحكم.

من متابعتنا لصفحات موالية معروفة، كان هناك منذ البداية تسليم عام بأن المساعدات المرسلة للمنكوبين ستتعرض للتعفيش، ثم سرعان ما أتت الأخبار مع الصور والتسجيلات لتوثّق الوقائع المخزية. ربما يكون من الخير حقاً أن الجميع في الداخل والخارج مستسلم لفكرة السطو على قسم كبير من الإعانات، من باب أن ذلك يهون لقاء وصول ما يتيسر منها إلى المحتاجين، غير أننا لا نعرف إلى متى سيستمر تدفق المساعدات رغم أخبار تعفيشها.

جو التراحم والتكافل بين السوريين، الذي أعقب الزلزال، يُفترض أنه من الطبائع الإنسانية المعتادة وقت المحن، لكن هناك فئة أبت إلا أن تعفّش ما هو إنساني بتسييسه، لتعتبره ردّاً جامعاً مانعاً على أي حديث سابق عن انقسامات لأسباب إثنية أو طائفية، وكأن الانقسامات المذكورة هي فقط ما يسيطر على عقول وقلوب البشر طوال الوقت كما هو حال حضورها المقلوب في أذهانهم حتى في وقت الكارثة. أيضاً، يريد هؤلاء حصتهم من التعفيش بإثبات صوابهم السياسي، من خلال القفز على أكتاف سوريين متكافلين ضمن رؤيتهم لأولوياتهم، ولا ينتقص من تراحمهم اليوم أن يعودوا لاحقاً إلى الصراع لأسباب يخطئ من يختزلها بعامل وحيد.

من بين الروايات عن سرقة المعونات، اجتزأ البعض للتصويب عليها تلك المتعلقة بمشايخ، قيل أنهم سطوا على المساعدات الموجَّهة للاجئين في الجوامع التي يؤمّونها. غاية هذا البعض أيضاً تعفيش نقاط لصالحه في صراعه مع الدين، ولا يرى نفسه وهو ينطلق من لاوعي ينزّه هؤلاء المشايخ عن وجود فاسدين بينهم أسوة بفئات مجتمعية أخرى. وعندما ينطلق هؤلاء من موقع معارض فإنهم ينسون أن أولئك المشايخ معيَّنون في مناصبهم من قبل وزارة أوقاف الأسد، وثابروا خلال العقد الأخير على امتداح قواته التي قتلت من السوريين ما لا يقارَن مع حصيلة الزلزال.

لم يخلُ المشايخ أيضاً، في سوريا كما في غيرها، من فئة سعت إلى تعفيش الزلزال بدعوى أنه غضب من عند الله، والمكسب في ذلك أنهم يقدّمون أنفسهم وكلاء عن الله، ناطقين باسمه. أما المكسب المستدام المرتجى فهو ترسيخ مرجعيتهم كعارفين بما يغضب الله، ووجودهم كسلطة راسخة مستمرة على خرافه الضالة.

ربما ما زلنا، بعد مضي خمسة أيام، في مستهل ما ستتفتق عن الأذهان من أجل تعفيش الزلزال. نصادف تحذيرات تدلّ على ما وصلت إليه فنون السطو، ومنها مثلاً الطلب من المتبرعين أن يقوموا بفتح أغطية أو أغلفة المواد الغذائية، كضمانة لئلا تٌسرق وتُباع. بخلاف كل الإيجابيات التي أظهرها سوريون، يتوقع كثر أن تتوالى من سوريين آخرين فنون الفضيحة السورية لتحوّل المأساة إلى مهزلة دامية، وما زلنا في البداية؛ ربما يتشجع المترددون بضحكة الأسد في اليوم الخامس على أنقاض الزلزال في حلب.

شارك