في قريتي دواعش

في قريتي دواعش

في قريتي دواعش

في قريتي دواعش

في قريتي دواعش

في قريتي دواعش

في قريتي دواعش

شارك

في قريتي دواعش

في قريتي دواعش

جسر: متابعات:

في صبيحة يوم من أواخر 2011، فوجئت بصور على “فيسبوك” من قريتي في سورية، الملاجة، حيث جرت محاولة ليلية لتكسير منحوتات حجرية كبيرة، كانت موزّعة في منطقةٍ كانت أثيرةً ومميزةً لأهل الملاجة، وهي مكان التقاء عدة قرى قريبة، حيث يوجد نبع ماء قديم كانت تشرب منه القرى كلها، قبل أن تصل شبكة المياه إليها. كانت هذه المنطقة ملتقى للناس من القرى القريبة للتجمع وتبادل الأحاديث والسهر، هي ملك للجميع. لهذا، حين كنا نقيم مهرجان السنديان في الملاجة، اخترنا المنطقة نفسها لنهيئها لاستقبال القادمين لحضور المهرجان وضيوفه، ولتكون ساحةً خاصة به، واستضفنا فيها فنانين وشعراء وموسيقيين ونحّاتين اشتغلوا ضمن ورشات نحت صخرية كبيرة، بقيت في المكان نفسه، كأثر عيني على ما كان يجري في هذا المكان الذي انقسم من أنشأوه بعد الثورة، بين موالين للنظام ومؤيدين للثورة وبين صامتين، كحال المجتمع السوري كله، بينما كانت بعض القرى المجاورة لنا قد بدأت تنخرط في الدفاع عن النظام إلى درجة التشبيح، إلى درجة اعتبار منحوتات صخرية في ذلك المكان تحديا للنظام، طالما هناك في الملاجة من هم مع الثورة، حاولوا تكسيرها يومها، لم يتمكّنوا يومها، فملأوها بكتاباتٍ مؤيدةٍ للأسد، وشتائم طاولت كل عائلتي، باعتباري كنت بالنسبة لهم: رأس الفتنة في الملاجة.

لم أكتب يوما عما حدث، ولا عن مهرجان السنديان ولم أرد على اتهاماتٍ دأب مثقفون (ثوار) على كيلها له ولي، بدون أي أدلة سوى “قيل لنا”، خلال السنوات الماضية، فالمهرجان صار للتاريخ، مثل كل المراحل السورية، ما قبل الثورة وما بعدها. أما ما يخص القادم، فلا أحد يملك معرفة شكله، لا على المستوى السياسي ولا الثقافي ولا الاجتماعي، بعد أن خرج الأمر من يد السوريين، وبات السوريون جالياتٍ متوزعةََ في كل أنحاء الأرض، بينما السوريون في الداخل لا يعرفون تحت أي احتلال يعيشون، بعد أن أصبح بلدهم محتلا من جهات عدة، تركت الأسد واجهة، ريثما يتم اقتسام الكعكة السورية بشكل نهائي. وهنا يصبح الحديث عن أي ظاهرة ثقافية أو اجتماعية قديمة بمثابة الانفصال عن الواقع، بعد أن تحولت البلد إلى أن تصبح كلها ظاهرةً على ما يفعله إجرام نظام ما ضد شعبه، وعلى ما يفعله المجتمع الدولي، حين يقرر الصمت عن جرائم دولة موصوفة، تصبح بؤرةً لتصفية حسابات سياسية ومصالح عسكرية واقتصادية بين الدول الفاعلة.

بيد أن الصور التي وردتني من قريتي الملاجة، قبل أيام، وفيها تظهر المحاولة الثانية، الناجحة هذه المرّة، لتدمير تلك المنحوتات، بعد ثمانية أعوام من المحاولة الأولى، كسرت قلبي، حيث بدت المنحوتات الضخمة الجميلة التي صنعها فنانون سوريون من كل سورية مجرد أحجار مكسّرة ومخرّبة ومتروكة بخرابها كما هي، شاهدا شامتا على الفعل. دفعتني هذه الصور إلى الكتابة عن الحال الذي وصلت إليه سورية من خراب نفسي، فالمحاولة الأولى لتدمير المنحوتات كانت انتقاما ممن وقف مع الثورة من قرية الملاجة، بينما التدمير الثاني إعلان انتصار العقل الهمجي والتدميري، وليس موجّها، على ما أظن، ضد أي شخص بعينه. هو صورة عن المرحلة والحالة التي وصل إليها المجتمع السوري: تحطيم كل ما له صلة بالجمال أو الثقافة أو الفن، فالزمن الحالي هو زمن الخراب والهمجية والبلطجة والقباحة والتطرّف.

ولمن يعتقدون أن من فعل ذلك في المرتين إسلاميون دواعش، أخبرهم أن قريتي تقع في جبال الساحل السوري، حيث لا وجود لأي إسلامي داعشي أو غير داعشي، ولا منفذ ليصل إليها أحد، بيد أن الداعشية فكر موجود لدى جميع الطوائف، خصوصا في سورية الأسد حاليا. الداعشية بوصفها ضد الاختلاف وضد التنوع وضد الحضارة وضد الانفتاح. المجتمع السوري الذي يعيش تحت سيطرة النظام، وليس في المناطق التي خرجت عن سيطرته، أعني المجتمع السوري بأقلياته يمتلئ بهذا الفكر الأصولي.

أفكّر بمقدارالحقد الذي يملكه من استطاع تحطيم تماثيل صخرية صلبة. أفكّر بكمية الكراهية والغضب التي يفرغها من فعل ذلك، بمنحوتة صخرية جميلة، ممن ينتقم يا ترى؟ هل يظن أن هذه المنحوتة صنم كما يظن الداعشي الإسلامي؟ هل التماثيل في ذهنه يجب أن تكون مخصصة لتصوير عائلة الأسد، وكل ما عداها كفرٌ وإفكٌ يجب تدميره؟ أم أن من فعل ذلك يريد الإعلان أن سورية القادمة هي بلد الخراب والقباحة وقتل الأحلام؟ هل من فعل ذلك واع لهذه الحقيقة، أم هو مجرد منفذ لإرادةٍ تحرّكه وتدفع له الأجر؟

٭شاعرة وكاتبة سورية

العربي الجديد 7 أيلول/سبتمبر 2019

شارك